عناصر الخطبة
1/ اليسر وعدم التكلف من طبيعة هذا الدين 2/ اتباع الهوى بالتكلف في موضع التيسير والتساهل في موضع الورع 3/ هدي النبي في الغسل والوضوء والصلاة 4/ هديه في أخلاقه 5/ رحمته في الدعوة إلى الله تعالى 6/ هديه مع زوجاته رضي الله عنهن 7/ هديه في اللباس والنوم 8/ هديه في تعاملاته مع أصحابه 9/ وفاته صلى الله عليه وسلماقتباس
وكان ربما يحمل بعض أولاده وهو يصلي، ويسمع بكاء الصغير فيخفف في صلاته، وتكون الليلة المطيرة الباردة فيجمع بين المغرب والعشاء، وينادي مؤذنه: "صلوا في رحالكم"، وكان إذا سافر قصر الصلاة، وربما جمع بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء، وكان إذا صام عجَّل الفطر وأخَّر السحور، ولا يتكلف البروز للشمس، بل نهى عن ذلك ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: حديث اليوم نعيش فيه مع الرسول القدوة، مع النبي الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ لنعرف شأنه وهديه، وأحواله -صلوات الله وسلامه عليه- في مختلف نواحي الحياة وجوانبها، يدفعنا إلى ذلك أمر ربنا -تبارك وتعالى- وتوجيهه لنا بقوله -عز وجل-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21]، فقد كان عليه الصلاة والسلام قدوة مُثلى، وأسوة حسنة لمن حوله، ولا يزال هكذا قدوة لأتباعه إلى يوم الدين. فهو بيننا بسنته وهديه -صلى الله عليه وسلم-: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) [الحجرات: 7]، نعم لو تركنا -صلى الله عليه وسلم- لهوانا وما تطلبه نفوسنا لوقعنا في الضرر والشدة والضيق، ولكنه -وهو الرءوف الرحيم بأمته- حَالَ بيننا وبين كل ما فيه فسادنا أو مضرتنا.
(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة:128]، فقد بين لنا -صلى الله عليه وسلم- كل شيء، وترك لنا سيرة عطرة ومنهجًا كريمًا يظهر فيه رأفته -صلى الله عليه وسلم- بأمته، ورحمته بها، وحرصه عليها، ويظهر فيه يسر الإسلام وعظمته، والذي يطالع سيرته -صلى الله عليه وسلم- في مختلف أمور حياته يجد فيها سمة بارزة هي من طبيعة هذا الدين، ألا وهي اليسر وعدم التكلف، وكان ذلك ظاهرًا في جميع شئونه -صلى الله عليه وسلم-، وكان ذلك هديه الدائم كما ذكرته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- إذ تقول: "ما خُيِّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه".
وكذلك الشبهات كان أورع الناس عنها، وربما وجد التمرة في بيته ساقطة فيخشى أن يأكلها خشية أن تكون من تمر الصدقة، فاختياره -صلى الله عليه وسلم- للأيسر ليس معناه الوقوع في الشبهات أو التساهل في الحرام، وإنما هو اختيار الأيسر في الأمور المباحة في مأكله وملبسه وبيته ومعاملته للناس، وفي الأخذ بالرخص التي شرعها الله للأمة، كالرخص التي شرعها الله للمسافر والمريض، وكالمسح على الخفين ونحو ذلك، فإنك تجد البعض يتكلف في طعامه وشرابه وأثاث بيته ومعاملة إخوانه... وغير ذلك، ويعقد الأمور على نفسه، فإذا ما انتقل إلى الأمور الشرعية تساهل فيها ووقع في الشبهة ووقع في الحرام، بحجة اختيار الأيسر، فهو يزعم أنه مقتد بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وإنما هو على العكس تكلف في موضع التيسير، وتساهل في موضع الورع والتشديد، فهذا متبع لهواه. وإنما كان اختياره -صلى الله عليه وسلم- للأيسر إنما هو في الأمور التي اعتاد الناس فيها اليوم اختيار الأكثر تعقيدًا والأشد تكلفًا.
ومن المناسب هنا أن نذكر طرفًا من سيرته -صلى الله عليه وسلم- ليتبين لنا هديه في ذلك ويسره في حياته كلها: الدينية والدنيوية، فإذا نظرنا مثلاً إلى هديه -صلى الله عليه وسلم- في غسله ووضوئه لوجدنا أنه كان يكفيه في الوضوء المد من الماء -أي ملء الكفين-، ويكفيه في الغسل الصاع -أي ملء الكفين أربع مرات- وربما اغتسل وبعض أزواجه تستره بثوب، وربما اغتسل هو وزوجه من إناء واحد: يقول لها: دعي لي، وتقول له: دع لي.. وكان إذا فقد الماء فيما يقرب حوله تيمم، ولا يتكلف البعد الشاق، وتيمم -صلى الله عليه وسلم- وهو بالمدينة من جدار، وكان ربما يقضي حاجته في الفضاء فيتوارى ويأخذ معه ماءً، وربما أخذ معه ثلاثة أحجار يستجمر بها، وكان إذا توضأ وهو لابس خفه لم يتكلف نزعه ولكن يمسح عليه، وربما مسح على عمامته.
وكان في صلاته إذا صلى بأصحابه أخفَّ الناس صلاة في تمام، أي يخفف الصلاة ولكن من غير انتقاص من حقوقها، بينما حين يصلي لنفسه يطيل القيام بين يدي الله ويقول: "أفلا أحب أن أكون عبدًا شكورًا؟!". وأتاه بعض أصحابه وهو يصلي فسمع لجوفه أزيزًا كأزيز المرجل من البكاء. وكان يصلي في ليلة فقام ابن عباس فصلى عن يساره، فأداره النبي -صلى الله عليه وسلم- عن يمينه وصلى به، وفي الحديث أن ابن عباس ذكر شيئًا من تبسطه -صلى الله عليه وسلم- معه قبيل الصلاة، فقال: "ثم ذهب، فقمت إلى جنبه، فوضع رسول -الله صلى الله عليه وسلم- يده اليمنى على رأسي، وأخذ بأذني اليمنى يفتلها". وقرأ عليه ابن مسعود سورة النساء، حتى إذا أتى على قوله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا) [النساء:41] إذا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- عيناه تذرفان.
وكان ربما يحمل بعض أولاده وهو يصلي، ويسمع بكاء الصغير فيخفف في صلاته، وتكون الليلة المطيرة الباردة فيجمع بين المغرب والعشاء، وينادي مؤذنه: "صلوا في رحالكم"، وكان إذا سافر قصر الصلاة، وربما جمع بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء، وكان إذا صام عجَّل الفطر وأخَّر السحور، ولا يتكلف البروز للشمس، بل نهى عن ذلك، وكان يفطر إذا سافر ولا يتحرج من ذلك، وحين حجّ فوقف موقفه بعرفه، قال: "وقفت هنا، وعرفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن عرنة"، وحين نحر هديه قال: "نحرت هنا، ومنى كلها منحر"؛ وذلك ليبعد الناس عن تكلف الوقوف أو النحر في البقعة التي وقف فيها أو نحر فيها، فيقع بذلك العسر والحرج والتكلف في موضع لا يسمح بذلك، لا سيما مع كثرة الناس.
تلك كلها صور نعرضها وسنعرض غيرها -إن شاء الله تعالى- الجامع بينها ما فيها من بيان لأحواله -صلى الله عليه وسلم- وهديه وسيره، ولنتخيل كيف كانت حياة النبوة، ولنستشعر القرب منه -صلى الله عليه وسلم- والارتباط به أكثر وأكثر، ولنحاول الاقتداء به في هديه الكريم الحسن.
ومن أهم أحواله -صلى الله عليه وسلم- حين يأتيه الوحي، فكان يثقل جسمه، ويسيل عرقه، ويعرف أصحابه فيه ذلك، وربما أتاه السائل يسأله عن شيء فينتظر أن يوحى إليه، وربما قال له: "لا أدري حتى أسأل جبريل"، وكان -صلى الله عليه وسلم- حليمًا لا يغضب إلا لله، خدمه أنس بن مالك عشر سنين فما قال له يومًا لشيء فعله: لِمَ فعلته؟! ولا لشيء لم يفعله: لِمَ لم تفعله؟! وما غضب منه وما آذاه قط. فكان لا يغضب إلا لله، وفي الموعظة وإذا غضب لله لا يقوم لغضبه شيء.
وكان إذا غضب فكأنما تفقأ في وجهه مثل حب الرمان، وإذا سُرَّ استنار وجهه كالبدر، أما في الحرب فكان أشجع الناس حتى قال أصحابه: إن كنا لنتقي به إذا اشتد البأس، وكان ربما يسمع صوتًا وهو بالمدينة يخشى منه على المسلمين، فيركب فرسه سريعًا يستطلع الأمر، وكان يكثر الدعاء والاستغفار والذكر قبل وأثناء المعركة، وكان إذا انتصر تواضع لربه وذل.
وحين دخل مكة فاتحًا دخل محنيًّا رأسه، حتى إنها لتمس دابته، انحناء العبد الشاكر لربه، مستغفرًا ومسبحًا، وكان في دعوته لله صبورًا حريصًا على هداية الخلق، يتردد إليهم ويلتمسهم في المواسم والتجمعات، ولا ينتظرهم حتى يأتوه، ويسمع السخرية والاستهزاء، ويناله الكثير من الأذى، حتى إن ملك الجبال أتاه يخبره أن الله أرسله إليه ليأمره فليفعل بهم ما يشاء. وقال له: إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين -جبلين بمكة- ولكن يقول له هذا النبي الرؤوف الرحيم: "لا، ولكن اتركهم؛ لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئًا". أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-.
ومن شدة حرصه على قومه وحزنه على ابتعادهم عن الإسلام كاد أن يهلك من الألم والأسى والتعب، حتى قال له ربه: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ) أي مهلك نفسك (عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) [الكهف:6]، وقال له: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) [الشعراء: 3-4].
وكانت الرأفة والرحمة والحنين كل ذلك يفيض من قلبه الكريم في كثير من المواقف، رفعت امرأة إليه صبيًّا أوشك على الموت، فبكى -صلى الله عليه وسلم- فقال له بعض أصحابه متعجبًا: ما هذا يا رسول الله؟! فقال: "تلك رحمة يجعلها الله في قلوب عباده". وقال له الأقرع بن حابس: يا رسول الله: إن لي عشرة من الولد، ما قبلت أحدًا منهم قط. فقال له: "أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك".
أما علاقته بالكون والجمادات من حوله فكان يشعر بتجاوبها معه، وباتجاهها إلى الله، وموافقتها للمؤمنين الذين يتجهون كذلك إلى الله، فكان مثلاً يقول عن أُحد: "أُحد جبل يحبنا ونحبه".
وكان في بيته كذلك رؤوفًا رحيمًا متواضعًا، وكان يقول: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"، وكان في البيت في خدمة أهله، وكان ربما يخدم نفسه -صلى الله عليه وسلم- ويخيط ثوبه لنفسه، وكان يسمر أحيانًا مع بعض أهله، ويسمع لحديث أزواجه البسيط، مع ما هو فيه من مشاقّ ومشاغل، وكان إذا أتى نساءه سمى الله وقال: "اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا"، ويحب الملاعبة والتودد قبل المواقعة، ولكن إذا أراد من الحائض شيئًا أمرها أن تأتزر ثم باشرها، وربما طلع عليه الفجر في رمضان بعد مجامعته لأهله قبل أن يغتسل، وهو يريد الصيام، فيغتسل ثم يخرج للصلاة.
وإذا أتت العشر الأواخر من رمضان، اعتزل نساءه فلم يأتهن، ودخل معتكفه -صلى الله عليه وسلم-. وكان ربما خرج ما يزيد عن الشهر يغزو بعض الأماكن أو يعسكر بها، ثم يرجع إلى أهله فيقيم أيامًا أو أسابيع قلائل، ثم يخرج مرة أخرى، فلا يتكلف اعتزالهن ويترهبن، كما لا يتكلف اللصوق بهن في كل حين، وكان ربما أقرع بينهن إذا أراد سفرًا فيأخذ إحداهن معه، وسابق عائشة رضي الله عنها أكثر من مرة فسبقته حين كانت صغيرة خفيفة اللحم، وسبقها لما ثقلت.
وكان -صلى الله عليه وسلم- يأخذهن بالزهد وعدم التعلق بالدنيا، ولما بدا منهن بعض الميل للتوسع في الدنيا خيرهن -صلى الله عليه وسلم-: (إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 28، 29] فاخترن كلهن الله ورسوله والدار الآخرة.
وكان عيشهم كفافًا، كان يمر الهلال ثم الهلال ثم الهلال -ثلاثة أهلة في شهرين- ولا يوقد في أبيات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نار، وكان عيشُهم فيها الأسودين: التمر والماء، وكان -صلى الله عليه وسلم- لا يعيب موجودًا -أي من الطعام- ولا يتكلف مفقودًا، وربما دخل على أزواجه في أول يومه قبل أن يطعم شيئًا فيسأل: "هل من طعام؟!"، فإن لم يجد قال: "إني صائم"، وكان إذا اشتهى طعامًا أكله وإلا تركه ولا يعيبه، وكان لا يأكل البصل والثوم -ولكن يبيحه لأصحابه- لأن جبريل يناجيه بالوحي، وكان أصحابه يسمعون تسبيح الطعام بين أصابعه وهو يأكل، وكان ربما أتى بالطعام القليل، فيدعو ويجري الله البركة فيه على يديه، فيكفي المئات من المسلمين، وما قُرِّب إليه شيء من الطيبات إلا أكله؛ قال ابن القيم: وأكل البطيخ بالرطب، وأكل التمر بالزبد، وكان يحبه، ولم يكن يرد طيبًا ولا يتكلفه، بل كان هديه أكل ما يتيسر، فإن أعوزه صَبَرَ. فهكذا كان حاله -صلى الله عليه وسلم- في كل شأنه: زهد في غير تكلف أو تشنج أو تصنع، صلوات الله وسلامه عليه.
وخرج -صلى الله عليه وسلم- يومًا وقد اشتد به الجوع، ولقي أبا بكر وعمر، فذهبوا إلى دار أبي الهيثم بن التيهان، فجاء أبو الهيثم يلتزم النبي -صلى الله عليه وسلم- ويعانقه، ثم انطلق فأتاهم برطب وماء، فأكلوا وشربوا، ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: "هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تُسألون عنه يوم القيامة: ظِلٌّ بارد، ورطب طيب، وماء بارد".
اللهم ارزقنا شكر نعمك، وارزقنا اليسر في الأمور كلها، والزهد في الدنيا بأسرها، والاستعداد للآخرة والعمل لها. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده..
أما بعد:
فبعد أن ذكرنا طرفًا من حاله -صلى الله عليه وسلم- في طعامه، فلنذكر طرفًا من حاله -صلى الله عليه وسلم- وهديه في لباسه، فكان أحب اللباس إليه القميص، وأحب شيء منها إليه البياض، ومع ذلك لم يلزم نفسه نوعًا واحدًا من اللباس، وكان ربما يلبس العمامة ويلبس تحتها القلنسوة، وربما يلبس القلنسوة بغير عمامة، وربما يلبس العمامة بغير قلنسوة، وربما أرخى طرفها بين كتفيه، وربما لم يرخها، ولبس حلة حمراء، ولبس بردًا أخضر، ودخل مكة وعليه أهبة القتال والمغفر على رأسه. قال ابن القيم: فلبس في كل موطن ما يناسبه.
وقال: هديه -صلى الله عليه وسلم- في اللباس أن يلبس ما تيسر من اللباس، من الصوف تارة، والقطن تارة، والكتان تارة، ولبس البرد واليمانية والبرد الأخضر، ولبس الجبة والقباء والقميص والسراويل والإزار والرداء والخف والنعل، وأرخى الذؤابة من خلفه تارة، وتركها تارة.
هكذا كان شأنه: اليسر وعدم التعقيد وعدم التكلف، وهذا كله كما سبق أن ذكرنا أنه في حدود الأمور المباحة، ما لم يكن فيها إثم أو كراهة أو مجرد شبهة، فحينئذ يكون شديد البعد عنها، شديد الورع، صلى الله عليه وسلم.
أما عن هديه في نومه، فيقول ابن القيم رحمه الله: كان ينام على فراشه تارة، وعلى الحصير تارة، وعلى الأرض تارة، وعلى السرير تارة، وتارة على كساء أسود. ولا يحب أحدٌ أن يراه في ساعة من الليل قائمًا إلا رآه، ولا ساعة من الليل نائمًا إلا رآه.
أما في معاملته لأصحابه، فكان غاية في اليسر في كل شيء، في بيعه وشرائه ومداينته، وحديثه ومجلسه، وكانت الأَمة تلقاه في الطريق فتريده لأمر من الأمور، فينطلق إلى حيث شاءت، وكان يجالس أصحابه، فيتذاكرون أمورًا كانت في جاهليتهم، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينهم فيبتسم، وربما أتاه بعضهم فأنشد الشعر بين يديه، وكان يمزح معهم ولكن لا يقول إلا حقًّا، وكان يتبسم، وكان هينًا لينًا ألوفًا، وكان يقول: "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم"، ويقول: "المؤمن يألف ويؤلف"، ويقول: "المؤمن هين لين".
وكان -صلى الله عليه وسلم- القدوة المثلى في اللين للمؤمنين، والشدة على الكافرين؛ قال الله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159].
وكان -صلى الله عليه وسلم- لا يستكبر أن ينفرد ببعض أصحابه، كبيرًا كان أو صغيرًا، رجلاً كان أو غلامًا، فيخصه بالحديث، أو يتسامر معه بالخير والعلم، صحب عبد الله بن عباس يومًا ما وهو غلام، فأوصاه بوصايا عظيمة، يقول ابن عباس فيها: كنت خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لي: "يا غلام: إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف".
وكذلك قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: كنت رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- على حمار، فقال لي: "يا معاذ: أتدري ما حق الله على العباد؟! وما حق العباد على الله؟!"... وأريدكم -أيها الإخوة المسلمون- أن تتخيلوا هذا الموقف، وكأني بذلك الحمار يسير برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبمعاذ بن جبل وهو راكب خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- والحمار يسير، فيهتز ويميل، ويعلو بهما تارة، وينزل بهما تارة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعاذ بن جبل يتحادثان بأعظم حديث، فيقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ الذي يركب خلفه: "يا معاذ: أتدري ما حق الله على العباد؟! وما حق العباد على الله؟!"، فيجيب معاذ: الله ورسوله أعلم. فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا". كل ذلك وهما على ظهر الحمار وهو يسير بهما، فيقول معاذ: يا رسول الله: أفلا أبشر الناس؟! فيقول -صلى الله عليه وسلم- وهو يقود الدابة: "لا تبشرهم فيتكلوا".
هذا الحديث -الذي سوَّد عليه العلماء الكتب، وصنفوا له التصانيف- يعجب الإنسان حين يتذكر أن مخرجه كان ذلك المخرج السهل، في ذلك الموقف المتواضع، في تلك المحادثة الجميلة البعيدة عن التكلف، التي جرت بينه -صلى الله عليه وسلم- ومعاذ بن جبل، وهما على الحمار يسير بهما.
وهذا أبو ذر -رضي الله عنه- يقول: خرجت ليلة من الليالي، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمشي وحده وليس معه إنسان، فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد، فجعلت أمشي في ظل القمر، وهذا من أدبه -رضي الله عنه- قال: فالتفت فرآني، فقال: "من هذا؟!"، قلت: أبو ذر، جعلني الله فداءك. قال: "يا أبا ذر: تعال"، وهذا من تبسطه -صلى الله عليه وسلم- ومراعاته لنفوس أصحابه واقترابه منهم. قال أبو ذر: فمشيت معه ساعة، فقال لي: "إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من أعطاه الله خيرًا، فنفح فيه يمينه وشماله وبين يديه ووراءه، وعمل فيه خيرًا". وفي الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- غاب عنه ثم رجع إليه وقال: "ذلك جبريل -عليه السلام- عرض لي في جانب الحرة، قال: بشر أمتك: أن من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة".
ويذكر لنا ابن عمر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ بمنكبه فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"، وذكر ابن عمر أخذه –صلى الله عليه وسلم- بمنكبه لفائدة؛ حيث كان له أثر على ابن عمر، لذا ذكره؛ فإن ذلك يشعر بشفقة الناصح واهتمامه.
هكذا كان هديه -صلى الله عليه وسلم- وتلك سيرته، وكذلك كانت دعوته إلى ربه، يصحب هذا الرجل فيحدثه وهما يسيران في ظل القمر، ويردف خلفه هذا الغلام، فيوصيه بوصايا جامعة، أو يردف آخر فيقرر له أصل التوحيد وحقيقته، ويأخذ بمنكب ذلك فيوصيه وصية؛ فالدعوة إلى الله -عز وجل- أعمّ وأكبر من أن تكون كلمات منسقة من تحت قبة عالية، أو من وراء مكتب فخم، أو من خلال مؤتمر حافل، الدعوة إلى الله أعم وأكبر من أن تكون مجرد جهاز إرسال وجهاز استقبال، وإنما الأهم في الدعوة الاقتراب إلى النفوس، والصحبة الطيبة، والسيرة العطرة، وتبليغ الدعوة في ثنايا ذلك كله في يسر ودون تكلف.
أما هديه -صلى الله عليه وسلم- في تقويم الأشخاص وعلاج النفوس، فكان فيه ذلك السير كذلك، أتاه شاب فقال: يا رسول الله: ائذن لي بالزنا، فقال: "أترضاه لأمك؟! أترضاه لأختك؟! ... فما لك ترضى للناس ما لا ترضاه لنفسك؟!". فقال الرجل: لا أعود.
وأتي بحاطب بن أبي بلتعة، وقد أخبر المشركين بمسير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم، فلم يعنفه حتى سأله وتبين منه قائلاً له: "ما حملك على ما صنعت؟!".
وأتاه أعرابي غليظ فقال: يا محمد أعطني من مال الله؛ فإنه ليس مال أبيك ولا أمك. فأعطاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولم يغضب، وقال له: "أحسنت إليك؟!". فقال الرجل: لا، فما زال يزيده حتى أثنى عليه بين أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد أرادوا حين دخل الأعرابي أن يقتلوه، فقال -صلى الله عليه وسلم- لهم بعد انصراف الأعرابي: "إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه، فتبعها الناس، فلم يزيدوها إلا نفورًا، فناداهم صاحب الناقة: خلوا بيني وبين ناقتي، فإني أرفق بها وأعلم، فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها، فأخذ لها من قمام الأرض، فردها هونًا هونًا، حتى جاءت واستناخت، وشد عليها رحله، واستوى عليها. وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه، دخل النار".
وجاءه -صلى الله عليه وسلم- أسيد بن حضير وعباد بن بشر فحدثاه في شيء، فتغير وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فظن الرجلان أنه وجد عليهما، أي تضجّر منهما، فلما خرجا أتت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هدية من لبن، فأرسل في آثارهما، فسقاهما تطييبًا لنفوسهما، وإبعادًا للشيطان عنهما، فعرف الرجلان أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يجد عليهما.
وكان -صلى الله عليه وسلم- واسع الصدر، حليمًا متواضعًا في استقبال حديث العوام والبسطاء، أتته امرأة رفاعة القرظي تقول له: إن رفاعة طلقني البتة، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني، وإنما عنده مثل الهدبة، وأخذت هدبة من جلبابها. فقال سعيد بن العاص: يا أبا بكر: ألا تنهى هذه عما تجهر به بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟! فما زاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن التبسم.
وكان يكره التصنع والتكلف والصعوبة في الأمور كلها، حتى في الأسماء؛ فعن سعيد بن المسيب عن أبيه أنه جاء للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له -صلى الله عليه وسلم-: ما اسمك؟! فقال: حَزْن، أي صعب وعر. فقال: "بل أنت سهل"، فقال: لا أغير اسمًا سمانيه أبي. قال سعيد بن المسيب -رحمه الله-: فما زالت فينا حزونة بعد.
وكان يمر على الصبيان فيسلم عليهم، وربما كلف بعضهم بشيء، يشعر فيه بقربه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويتعود تحمل المسئولية.
هذا أنس -رضي الله عنه- يقول: أتى عليّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا ألعب مع الصبيان، فسلم علينا، فبعثني في حاجة، فأبطأت على أمي، فلما جئت قالت: ما حبسك؟! فقلت: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحاجة، قالت: ما حاجته؟! فقال لها أنس -وما أعقلها وما أحكمها من مقالة-: إنها سر. وروى أنس هذا الحديث بعدما كبر وحمله عنه ثابت، وقال له أنس: والله لو حدثت به أحدًا لحدثتك به يا ثابت. وهكذا بقي هذا السر عند أنس منذ أسر به إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين كان غلامًا صغيرًا.
كذلك كان يشارك أصحابه في بعض لعبهم كالمصارعة، وصارع ركانة فصرعه -صلى الله عليه وسلم- وكان أبعد شيء عن التشنج والتكلف، وكان يشاركهم في الأعمال، فشاركهم في بناء المسجد وفي حفر الخندق، وكان -صلى الله عليه وسلم- يحب المساكين، ويحب مجالستهم، وكان يحب التوابين النادمين على ذنوبهم، ويفسح لهم صدره بعد التوبة، ويكره التضييق عليهم أو إحراجهم بعدما صحت توبتهم، وأتته الغامدية امرأة من غامد اعترفت بالزنا فأمر بها فرُجمت، فسبها بعض أصحابه احتقارًا لها، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تسبها، والذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم".
ويطول بنا الحديث في هديه -صلى الله عليه وسلم- في جميع أمور حياته، ولكن نختم بهديه -صلى الله عليه وسلم- وهو على فراش الموت، كان مهتمًّا بالسواك، فكان يشير للسواك في يد أصحابه، فيعلمون حبه له، فيناوله بعضهم السواك، فيتسوك به شديدًا، وكان يضع يده في ركوة فيها ماء ويمسح جبهته، يخفف على نفسه وهو في سكرات الموت، ولا يمنعه ذلك من النصح للأمة.
وكان كل حرصه -وهو موشك على الرحيل للآخرة- على ما ينفع المسلمين في دينهم وآخرتهم، فكان يضع ثوبًا على وجهه ثم يكشفه، ويقول: "لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، يحذر ما صنعوا، وكان من آخر كلامه قبل أن يفارق الدنيا: "الصلاة، الصلاة، وما ملكت أيمانكم".
(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة:128]، فحق لجميع المؤمنين أن يحزنوا لفراقه، ويتشوقوا للقائه، وحق لفاطمة -رضي الله عنها- أن تعجب من جَلَد المؤمنين وقوة تحملهم، وتقول لهم بعدما دفنوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كيف طابت نفوسكم أن تحثوا التراب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟! فإذا كان جذع –جماد- حن وبكى لفراقه -صلى الله عليه وسلم- لما اتخذ المنبر فخطب عليه وترك الجذع الذي كان يخطب إليه، فما بالك بالمؤمن صاحب القلب الحي؟!
اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، اللهم اجمعنا به في الدار الآخرة، وأوردنا حوضه، واسقنا منه شربة لا نظمأ بعدها أبدًا.. اللهم أحينا على ملته، وتوفنا على منهجه وسنته، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم