مع المطر والنبات كذلك الخروج

عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: الحياة الآخرة
عناصر الخطبة
1/ نهج القرآن في الرد على منكري البعث 2/ البرهان العقلي على البعث والنشور 3/ الثمرات النفسية والسلوكية للإيمان باليوم الآخر 4/ من أهوال القيامة 5/ غفلتنا عنها 6/ التوبة والاستعداد ليوم المعاد

اقتباس

حديثنا -عباد الله- عن ركن من أركان الإيمان، برهن عليه القرآن، وبلَّغ الرسلُ عنه، ومع نزول الأمطار وموسمها نتذكره لأنه شُبّه به في القرآن لإثباته: (وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) [ق:9-11]. نتحدث عن البعث والنشور؛ موعظةً للقلوب، وذكرى للنفوس، فاستحضروا قلوباً خاشعةً لتُجدّدوا إيمانكم...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور، وأشهد ألا إله إلا الله يُجدِّدُ الأيامَ والشهور، ويصرِّفُ الأعوامَ والدهور، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الشافع المشفع يوم النشور، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18]، يا رب إن كانت ذنُوبُنا كبيرةً بجانبِ نهيك فإنَّها صغيرةٌ بجانبِ عفوِك، ربنا اكشفْ عنَّا العذابَ إنا مؤمنون، وأفرغْ علينا صبراً وتوفنا مسلمين يا أرحمَ الراحمين.

 

أتى العاصُ بنُ وائلٍ السهمي رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- بعظْمٍ قديم ففتَّه بينَ يديه ثم قال: يا محمد، أتزعمُ أنَّ هذا العظمَ يُبعثُ بعدَما أرِم؟ فقال -عليه الصلاة والسلام-: "نعم، يبعثُ اللهُ هذا، ويُميتُك، ثم يُحييك، ثم يدخلُك النار"، (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيم * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس:78-79].

 

إلى الله نشكو قسوة في قلوبِنا *** وفي كل يومٍ واعظ الموت يندبُ

 

كم من أَقوامٍ أَمَّلوُا طويلاً وعاشوا قصيراً! منظر الجنائز رهيبٌ، ومشهدٌ مهيب، تقشعرُّ منه الأبدان، وترتَجِفُ له القلوب، فهل نعتبر؟! وسَرْعَان ما يطْغَى على النفوسِ لهوُ الحياةِ فتسهو ثم تنسى، وتذهلُ ثم تغفل، فهل الموتُ نهايةُ الحياة؟ وهل سعيُ العالمين نهايتُه التراب؟ ذلكم هو ظنُّ الذين كفروا! (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ) [الجاثية:24].

 

حديثنا -عباد الله- عن ركن من أركان الإيمان، برهن عليه القرآن، وبلَّغ الرسلُ عنه، ومع نزول الأمطار وموسمها نتذكره لأنه شُبّه به في القرآن لإثباته: (وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) [ق:9-11].

 

نتحدث عن البعث والنشور؛ موعظةً للقلوب، وذكرى للنفوس، فاستحضروا قلوباً خاشعةً لتُجدّدوا إيمانكم، فهو اليوم الآخر، حيث الخروجُ من الأجداثِ والقبور، والوقوفُ بين يدي الكبير المتعال للحسابِ والجزاءِ، (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران:185].

 

ما من شيء في دعوة الرسل عبر التاريخ استبعدهُ الكفارُ وأنكرْه الملاحدةُ واستهزَأَ به الزنادقةُ أشدّ من إنكارِهم لليومِ الآخر، (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ) [النحل:38]، (وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءذَا كُنَّا تُرَابًا أَءنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ) [الرعد:5]، هذا افتراؤهم، وهذا عجبهم! فيتولَّى القرآنُ الردَّ والبرهان: (وَيَقُولُ الأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً * أَوَلا يَذْكُرُ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً * فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً) [مريم:66-68].

 

لا إله إلا الله! خلقَ آدمَ من عدم، وخَلَق حوَّاء من غيرِ أم، وخلقَ عيسى بكلمةٍ ألقاها إلى مريمَ، وروح منه، وقالَ له: كن فيكون.

 

مسكينٌ -واللهِ- من يتّبع الهوى ويعطل العقل فيُنكر ذلك، (بَلْ يُرِيدُ الأِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ) [القيامة:5]، فهل من العقل أن قومًا أحسنُوا وأصلحوا وأنفقوا وجاهدُوا ثم لا ينالون أجرَ ما قدَّموا؟ (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى) [طه:16]، وهل مَن ظلم وطغى وتجبّر وآذى واضطهدَ يبقى في أمنٍ من سوء العاقبة؟ لا بد من يومٍ يُجازى فيه المحسنُ والمسيءُ، هذا هو نهجُ العقلِ والإيمانِ، والعلمُ والحكمةُ والبرهان، (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [الجاثية:21]، فالحكمة تقتضي الجزاء على العمل.

 

ولو أنا إذا مُتنا تُركنا *** لكانَ المَوْتُ غايةَ كُلِّ حَيِّ

ولكنا إذا متنا بُعثنا *** ونُسألُ بعدَه عن كلِّ شيّ

 

مساكين! ينكرون عجائب يومِ القيامة لمخالفتِه قياسَ عقولهم وإدراكهم ثم يصدّقون عجائبَ الدنيا وتقنيات العصر التي ما كانوا يتصورونها! وقد قيل للكفار والمنكرين: (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) [الإسراء:50-51].

 

إن حياةَ مُنكري البعث بؤسٌ وشقاء، لا أملَ لهم ولا رجاء، لا يرجون عدلاً في الجزاء، ولا عِوَضًا عما يلاقونَ في الدنيا من عناء، نظرهم قاصر على متعتهم بالدنيا، فهم في ضيقٍ وبؤس بما نسُوا يومَ الحساب: (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يونس:8].

 

أما المصدِّقُون بيومِ الدينِ، والذين هم مِنْ عذاب ربهم مشفقون، فيحملُهم إيمانُهم باليوم الآخر والتصديق بلقاء ربِّهم على الصبرِ، والبذلِ، والإحسانِ؛ (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) [الإنسان:7-11]، نسألُ الله من فضله.

 

يومُ البعثِ -أَيُّهَا المسلمون- يومٌ مشهود، تعدَّدَتْ أسماؤُه لعظيمِ أهوالهِ وأعمالهِ، فهوَ يومُ الحشرِ والنشور، ويومُ الفصلِ والقيامة، ويومُ الدينِ والحساب، ويوم ترجفُ الراجفة، تتبعهَا الرادفة، حينَ تحِقُّ الحاَّقةُ، وتقَع الواقعةُ والقارعةُ، وتجيءُ الصاخَّةُ والطامَّةُ، يومُ الآزفةِ إذ القلوبُ لدى الحناجرِ كاظمين، ذلكَ يومُ الخروج، يومَ تُبْلَى السرائرُ، وتتكشَّفُ خبيئاتُ الضمائر؛ (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ) [النحل:39].

 

فكلُّ إنسانٍ حسيبُ نفسِهِ ورقيبُ عملهِ: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء:14]، تشهدُ عليه صحائفُه، وتحكمُ عليه أعمالُه، وتنطقُ عليه جوارحه، (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [فصلت:20-21].

 

يومٌ يجمعُ اللهُ فيه الأولين والآخرين في صعيدٍ واحدٍ، أجسامُهم عاريةٌ، وأقدامُهم حافيةٌ، وقلوبُهم وَجِلَةٌ خائِفَة، مُهطعين إلى الداعِ يقولُ الكافرون هذا يومٌ عسر. قال -صلى الله عليه وسلم-: يقولُ الله: "يَا آدَمُ، قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ، فَيَقُولُ، لبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ، مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَة وَتِسْعِينَ"، قَالَ: "فَحِينَئِذٍ يَشِيبُ الْمَوْلُودُ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ"، قَالَ الصحابة: وَأَيُّنَا ذَلِكَ الْوَاحِدُ؟ فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "تِسْعَمِائَة وَتِسْعَة وَتِسْعِينَ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَمِنْكُمْ وَاحِدٌ "، قَالَ النَّاسُ: اللَّهُ أَكْبَرُ! فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وأنتم يَوْمَئِذٍ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ" متفق عليه. نسأل الله أن يرحمنا بواسع رحمته.

 

يومٌ تكونُ فيه السماءُ كالمُهل، والجبالُ كالعهن، ولا يسألُ حميمٌ حميماً! بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس إذ ضَحِكَ حتى بدت ثناياه، فقال عمر: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟! فقال -صلى الله عليه وسلم-: "رجلان من أمتي جثيا بين يدي ربِّ العزة، فقال أحدُهما: يا ربِّ خذ لي مظلمتي من أخي، فقال الله: أعطِ أخاك مظلمته، قال: يا رب، لم يبق من حسناتي شيء؟ قال: يا رب، فليحملْ من أوزاري؟ قال: ففاضت عينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبكاء ثم قال: إن ذلك ليومٌ عظيمٌ يحتاجُ الناس أن يُحمَلَ عنْهُم أوزارُهم..." أخرجه الحاكم وصححه.

 

يومُ الحسابِ -إخوتي- كلُّنا نُؤمنُ به، غيرَ أنَّا لا نستعد له، نحن غافلون، بدنيانا الدنيئةِ وبلذائِذها منغمسون، يومٌ توضعُ فيه الموازينُ لأعمالِ العبادِ من خيرٍ وشرٍ، تدنُو فيه الشمسُ مقدارَ ميلٍ، فيُظلُّ الله من يشاءُ بظلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه، الصراطُ أدقُّ من الشعرة، وأحدُّ من السيف ورسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يا ربِّ سلِّم سلِّم!"، فيكونُ أوَّلَ من يجوزُ عليه، ثم أمته، وفي حافته كلاليبُ تنزِعُ الناسَ، فمخدوشٌ ناجٍ ومكردسٌ في النار عياذاً بالله، قال -صلى الله عليه وسلم-: "يُحشر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً"، قالت عائشة: "يا رسول الله، الرجال والنساء ينظر بعضهم بعضاً؟ فقال: "يا عائشة، الأمر أشد من ذلك" متفق عليه.

 

يومٌ يبلغُ فيه العطشُ كلَّ الناس فيرِدُ رسولُ الله الحوضَ المورود، يشربون شربة لايظمؤون بعدها، يوم الحسنى وزيادة برؤية ربنا الكريم كالقمر ليلة البدر، لا تمارون في رؤيته، نسأل الله من فضله.

 

والله -يا عباَد الله- لو أدركَ كلُّ واحدٍ منا أهميةَ البعث والنشور لأعدَّ العدّة ولما طغى وتجبر إن كان فيه إيمان، (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) [الأنبياء:104]، لو أدركنا حقيقة اليوم الآخر لما ظلمنا بعضنا أو اغتبنا بعضنا ولعباد الله آذينا، ولحسَنَّا خُلقَنا وما تكبّرنا!.

 

 

واذكـرْ مناقشـةَ الحسـابِ فـإنـه *** لا بَدَّ يُحصـي مـا جنيـتَ ويَكتُـبُ

لـم ينسَـهُ الملَكـانِ حيـنَ نسيتَـهُ *** بـل أثبـتـاهُ وأنــتَ لاهٍ تلـعـبُ

 

فاتقوا الله عباد الله، واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، يومئذٍ تُعرضون لا تخفى منكم خافية، يوم ينفخُ في الصورِ فتأتون أفواجًا حُفَاةً عُراةً غرلاً، في موقف يُذيبُ هولهُ الأكباد، تذهلُ فيه كلُّ مرضعةٍ عما أرضعت، وتضعُ كل ذاتِ حملٍ حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، يجمعُ الله الأولينَ والآخرين في صعيد واحد يُسمعهم الداعي، ويُنفِذُهم البصر، يجمعُ الله فيه بين كلِّ عاملٍ وعمله، وبين كل نبيٍّ وأمَّته، ومظلوم ومظلمته، (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [غافر:17].

 

الأبصارُ شاخصةٌ، في يومٍ كخمسينَ ألفِ سنة، يفرُّ المرء من أخيه، وأمِّه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكلِّ امرئٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يغنيه، أهوالٌ شداد، وأحوالٌ عظام، تُبدَّل فيه الأرضُ غيرَ الأرض والسموات، فالسماءُ فُرجت وكُشطت وانشقَّت، وفُتحت فكانت أبوابًا، والشمس كُوِّرَت وخَسَفَ القَمر وجُمِعَ الشمسُ والقمرُ والنجومُ انكَدَرت، وطُمست، أما البحار فسُجِّرت، ودُكّت الجبال ونُسفَت وسُيَّرت فكانت سرَابًا، وزُلزِلَت الأرضُ زلزالَها، وأَخرجت أثقالها، وألَّقت ما فيها وتخلَّت.

 

سألت عائشةُ -رضي الله عنها- رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أينَ يكونُ الناسُ يومَ تُبدّلُ الأرض غيرَ الأرض والسموات؟"، قال: "على الصراط"، وحينئذٍ يحشرُ المتقون إلى الرحمن وفدًا، فنعم المُوفِدُ ونعم الوافدون!.

 

ويساقُ المجرمون إلى جهنَّم ظمأى عطشى، يتمثَّلُ لهم السرابُ كالماء وما هو إلا الحرُّ والسعير، والنارُ والزفير، عياذًا بالله من غضبه وأليم عقابه!.

 

فمتى يستفيقُ الغافل؟ ومتى التوبة وواعظ الموت كل يوم يندب؟!ومتى نحاسب أنفسَنا قبل القيامة؟ (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَات وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يس:81-83].

 

ربنا لا تؤاخذنا بذنوبنا وغفلتنا، اللهم اختم لنا بخاتمة الإيمان والصفح والغفران، واسترنا يوم العرض، وآمنا يوم البعث النشور، واجعلنا من أهل جنتك ورضوانك يا أرحم الراحمين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

 

أما بعد: ألا فاتقوا الله -رحمكم الله-، وأعِّدوا ليومِ العرضِ والحسابِ وقراءةِ الكتاب، وجواز الصراط، وإثقالِ الميزان، فالساعةُ آتية لا ريبَ فيها، لا تأتيكم إلا بغتة، ولا يُجلِّيها لوقتها إلا الله -جل جلاله-، وهو عسيرُ على الكافرين، وعلى عظم أهواله يسيرٌ على المؤمنين.

 

إن العبد سينصلح حاله إذا تذكّر الآخرة والبعث والنشور والجزاء والعقاب، فهل يسرّك -يا عبد الله- أن تأتيك قيامتك وأنت قائم على معصية؟ وأنت، أيها العاق بوالديه، ويا قاطع الرحم، ويا من تأكل حق الغير وتسعى بالنميمة والفساد؛ تذكَّر الموت والبعث والنشور، فهو خير واعظ قبل دخول القبور.

 

 اللهمَّ فاطرَ السمواتِ والأرضِ، عالمَ الغيبِ والشهادة، لا إله إلا أنت، يا حي يا قيوم، خَفِّفْ عنا أهوالَ القيامة، وخفف حسابنا، وثقّل بالخير ميزاننا، واجعلنا فيها من السعداء الناجين، وألحقنا ووالدينا وذرياتنا بالصالحين يا رب العالمين.

 

اللهم لا تجعلنا من أهل الفضائح والنكبات، وأهل البوار والخسارات، برحمتك يا ربّ الأرض والسموات.

 

اللهم انصر جندنا المرابطين، ووفق ولاة أمور المسلمين، وكن لإخواننا المستضعفين، في العراق واليمن والشام وبورما وفلسطين، انصرهم على عدوك وعدوهم، وأهلك الطغاة أجمعين، وأخرج المسلمين من بينهم سالمين غانمين.

 

اللهم طال العناء، واشتدت اللأواء، بإخواننا في الموصل وحلب، تكالب عليهم الظالمون، وخانهم الغلاة والمرجفون، اللهم مالهم غيرك، يا الله انصرهم وأعنهم، فك حصارهم، وأطعم جائعهم، وتقبل شهيدهم.

 

يا رب سامحنا لما قصرت هممنا عن نصرتهم، انصرهم يا الله فأنت القوي العزيز، عليك بالطاغية بشار، وحشد الرافضة الأشرار، وأرنا فيهم عجائب قدرتك يا قوي يا جبار.

 

وصلى الله وسلم و بارك على نبينا محمد.

 

 

المرفقات

المطر والنبات كذلك الخروج

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات