عناصر الخطبة
1/ وقفة مع انقضاء الإجازة 2/ أصناف الناس مع بداية العام الدراسي 3/ رسالة إلى الطلاب والطالبات 4/ رسالة إلى المعلمين والمعلمات 5/ رسالة إلى الآباء وأولياء الأمور 6/ رسالة عامة للجميعاقتباس
إن الأمة مقبلة على مستقبل مخيف، تتناوشه أطروحات غريبة، ومطالب عجيبة، أهل الشرّ فيه أجلبوا بخيلهم ورَجِلِهم على إفساد شباب الأمة بما أوتوا من قوة، ولست أقول هذا تشاؤمًا، بل والله إني متفائل! ولكن هذا الطوفان لا بد له من رجال، لذا فعلينا جميعًا أن نتكاتف لنحقّق الهدف الأسمى والمطلَب الأعلى من التعليم، ألا وهو العمل. فما قيمة العلم بلا عمل؟!.
أما بعد: اتقوا الله -معاشر المسلمين- في سرَّكم وعلانيتكم، فغدًا تبلى السراء، وتكشف الخبايا، والناجون هم الصادقون المتقون، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119].
عباد الله: انقضت الإجازة، وطويت فيها صحائف، ورحل فيها عن الدنيا مَن رحَل، ووُلد فيها من ولد، وأطلّ على الدنيا خلالها جيل جديد وعمّر من عمرّ، (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [فاطر:11].
وإن المتأمِّل للمسافة التي بين امتحانات الفصل الماضي وبدء الدراسة في هذا الفصل الحالي وإن كانت قصيرة في عمر الزمن إلا أنها طويلة في حساب المكاسب والخسائر.
أجل، لقد غنم فيها قومٌ وخسر آخرون. وعجلة الزمن تدور على الجميع، لكنهما لا يستويان، ذاك يطوي صفحات من الحسنات في الصالحات الباقيات، في خطوات تقربه إلى روضات الجنات، وذاك يعبُّ فيها من سجلات السيئات في الطالحات الموبقات، في استدراج يدنيه من دركات النار، عياذًا بالله.
وليعُد كل منا بذاكرته إلى الوراء قليلاً، إلى بداية إجازته، ولْيحاسب نفسه: ماذا جنى؟ ماذا قدَّم؟ هل تقدم للخير أم تأخَّر؟ هل ازداد من الصالحات أم قصّر؟ تالله، لتسعدنَّ أقوام عندما تذكر أنها حفظت في إجازتها من القرآن جزءًا، وقرأَتْ شيئًا كثيرًا، واستفادت علمًا عظيمًا، ووصلت رحمًا، وزارت بيته الحرام، فأكثرت من طاعاته وصالحاته.
وأقوام أخرى لا تذكر من صيفها إلا سهرًا وصخبًا، ليلها نهار، ونهارها ليل، غارقة في بحر شهوتها، منغمسة في نشوة سكرتها، ثم الحسرة والندامة في الدنيا قبل الآخرة، والآخرة أشد وأنكى.
إخواني في الله: ويوم غدٍ يوم بدء الدراسة، مشهَد حافل وملتقى هام، في هذا اليوم تستأنف رحلة العلم، وتبدأ مسيرة الفكر، وتُفتح حصون العلم، وتهيأ قلاع المعرفة، يبرق فجر غد والناس أمامه أصناف، والمستقبلون له ألوان، بين مُحِبٍّ وكاره، ومتقدم ومحجم، ومتفكر ومتحير، ومتفائل ومتشائم.
كم مِن مُحِبٍّ لهذا اليوم يترقب قدومه بفارغ الشوق، وكم من كارهٍ له يتمنّى لو أن بينه وبينه أمدًا بعيدًا.
وإني بهذه المناسبة المهمَّة أوجِّه رسائل عدة، علها تكون نذر خير، ورقاع إصلاح ومشاعل هداية تضيء لقائلها وسامعها الطريق، وتهدي جميعنا السبيل:
الرسالة الأولى إلى الطلاب والطالبات: أُخَيَّ، يا رعاك الله، إنه ليتألم الفؤاد ويضيق العقلاء ذرعًا عندما نراك حزين القلب كسير النفس، لمه؟ لأن الدراسة غدًا. يا لله! ألا ترى أمم الكفر شرقيها وغربيها تفاخر الأمم بصناعتها وتعلمها وأجيالها؟! وأنت تتبرم كثيرًا، وتعطي الدعة والكسل والراحة من وقتك شيئًا كبيرًا، قل لي بالله عليك: ماذا تتعلم في مدرستك؟ ألست تدرس كتاب الله، وتتعلم توحيد خالقك، وتتفقه في دينه، وتقرأ شيئًا من تفسير خطابه، وتسمع لطرف من سنة نبيه، وغيرها من المواد والتجربة التي تُبَصِّرك في أمر دنياك؟! أأنت تكره هذا؟!.
لكنها الحقيقة يوم تغيرت النيات، وأصبح العلم لِينال به الرُّتَب، وتُستَلَم به الشهادات، ويرتقى به في درجات الوظائف والمرتبات، أصبح العلم هنا ثقيلاً، وإلَّا فأسلافنا طلبوه في حرّ الرمضاء، وفي الليلة الظلماء، لحاف بعضهم من أديم السماء، وفراشه الغبراء، ومع ذلك لذتهم فيه لا توصف، ونهمهم منه لا ينتهي، لمه؟ لأنهم طلبوه لله، نعم، لا لغيره، طلبوه ليكشفوا عن وجوههم أقنعة الجهل، ويخلعوا عن أكتافهم أردية الجهالات.
اسمع لأحدهم وهو يصفه، ولَكأنه يصف لك ما أحسّه، وهو ابن القيم -رحمه الله- إذ يقول: العلم هو حياة في القلوب، ونور البصائر، وشفاء الصدور، ورياض العقول، ولَذة الأرواح، وأنس المستوحشين، ودليل المتحيرين، به يعرف الله ويُعبد، ويُذكر ويوحّد، ويحمد ويمجّد، به اهتدى إليه السالكون، ومن طريقه وصل إليه الواصلون، ومنه دخل عليه القاصدون.
به تعرف الشرائع والأحكام، وتمييز الحلال والحرام، وبه توصل الأرحام، وبه تُعرَفُ مراضي الحبيب، وبمعرفتها ومتابعتها يوصل إليه من قريب، هو الصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والأنيس في الوحشة، والكاشف عن الشّبهة، مذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وطلبه قُربة، وبذله صدقة، ومدارسته تعدل الصيام والقيام، والحاجة إليه أعظم منها إلى الشراب والطعام. انتهى كلامه.
أخي، يا رعاك الله، أبعد هذا تزهَد في عظيمٍ هذا شأنُه، وكبير هذا شيء من وزنه؟!
فاللهَ اللهَ! اطلب العلم بإخلاص وتجرّد، والله يسدّدك ويؤيدك، ومن ثم، إن كنتَ تريد فهو عزيز المنال، يلزم أن تحسن فيه المقال، وأن تزين بأخلاق العلم، وأن ترتدي لَبوس العلماء.
كن صبورًا، ذا خلق رفيع، فلن ينال العلمَ مستكبرٌ ولا أحمقُ، ولْتعلم؛ بل ليعلم الجميع، أن الأمة والأجيال الناشئة إذا لم تقدِّر معلميها ومربيها فعلى الأمة السلام.
اجعل أمام ناظريك قول حبيبك -صلى الله عليه وسلم-: "مَن سلَك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة"، واجعل في سويداء قلبك قول ربك وخالقك: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ) [البقرة:282].
جدّ واجتهد، ولا يغرنك كثرة البطالين؛ فإن ابن عطاء الإسكندري يقول: مَنْ لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة.
الرسالة الثانية إلى المعلمين والمعلمات: إلى رعاة الجيل، وأمَنة التعليم، ورُوَّاد العلم وسُلّم الرقي، أنتم بيت القصيد، ومحطُّ الركب، بين أيديكم عقول الناشئة، وعدة المجتمع وأمله، عليكم تُعقد الآمال، ولسنوات عدة تحط عندكم الرحال، نبيكم -صلى الله عليه وسلم- أكبر شأنكم، وأعلى مقامكم، ألم يقل فيما صَح من سُنَّته: " إنَّ الله وملائكته ليصلون على معلم الناس الخير، حتى النملة في جحرها". فجمِّلوا عملكم بالإخلاص، فأجر الدنيا آت، وإلا فأجر الآخرة أعلى وأبقى.
كم هدى الله بكم من ضال! وكم أنقذ بكم من عمى! وكم بصَّر بكم من جهل! أنتم مشاعل الهدى، ومصابيح الدجى، كلَّا، ليس هذا خيالاً أو تلاعبًا بالأقوال، بل هو الحق -وَرَبِّي!- أقوله.
يُكدَّر الخاطر، ويُكسَر الناظر عندما نراكم تتبرمون من الأجيال، وتتضجرون من الناشئة، نسمع هنا وهناك بعض صيحاتكم أن الأجيال تغيرت، الملهيات كثيرة، لكن قولوا لي بربكم: ماذا ينفع تضجركم؟! وماذا يجدي تبرمكم؟! اليأس والقنوط سمة الكفار، (إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ) [يوسف:87]، ابذلوا ما تستطيعون، وقدموا ما تطيقون، زاحموا الشر الذي ترون، واعلموا أن الله يؤيدكم ويسددكم، والحق أبلج، والزبد جفاء.
اجتهدوا في تعليمكم، وضعوا رقابة الله دائمًا نصب أعينكم قبل رقابة البشر عليكم، ولا يكن شبح الامتحان همكم الوحيد.
تخلقوا بالخلق الحسن، اصبروا وارحموا واعطفوا، فإن من المعلمين من تبقى ذكراه عاطرة في أذهان طلابه، ومنهم مَن لسان حال طلابه ومقالهم مستريح ومستراح منه.
واعلموا أن الدارسين يسمعون بأعينهم أكثر من سماعهم بآذانهم، فالقدوة الحقة في الفعال قبل الأقوال.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: وثمة رسالة ثالثة إلى الآباء وأولياء الأمور أقول فيها: معاشر الأولياء، أنتم شركاء للمدرسة في مسؤوليتها، وإننا نشكو مِن قِصر نظر بعض أولياء الأمور، تسأله عن ابنه فيبادرك أن قد أكمل الجوانبَ الفنية والوسائل الحاجية، فقد أمّن له الأدوات المدرسية، بل وبالغ فيها وأسرف وشكّل ولون، حتى إنك لتجد بين يدي الطلاب غرائب الأدوات مما لا حاجة لهم بها، بل وربما كسر قلوب الفقراء الذين لا يجدون ما يوفرون به هذه المتطلبات.
وإني -بهذه المناسبة -لأدعوك عندما تذهب تشتري حاجيات أبنائك الدراسية أن تنظر إلى طفل أو ولد في عمر أبنائك، بل ولربما كان يدرس مع أبنائك في مدرسة واحدة، أبناؤك قد سعدوا بحقائبهم وأدواتهم، وهو حسير الطرف، كسير النظر، فينظر إليهم وهو محروم مما في أيديهم، لمه؟ لفقره وقلة ما بيده؛ لذا فإن من تمام نعم الله أن قامت جمعية البر الخيرية في هذا البلد بمشروع جميل وعظيم ألا وهو الحقائب المدرسية، توزع على أبناء الفقراء، وفيها ما يحتاجونه من أدواتهم، فلا تحرمنّ نفسك المشاركة في الأجر، فقلَم يُكتَب به مِن صدقتك كفى به أجرًا كثيرًا.
ويأتي السؤال مرة أخرى للأولياء: هل تابعت أبناءك في دراستهم؟ هل زرت مدارسهم وسألت عن حالهم؟ إن من الآباء مَن آخر عهده بالمدرسة تسجيل أبنائه فيها! هل اخترت جلساء ابنك؟ هل عرفت ذهابه وإيابه؟ اصحبه للمسجد ومجامع الخير، علمه مكارم الأخلاق، صوِّب خطأه واشكر صوابه، واعلم أن تربيتهم جهاد، وأعظم به من جهاد تؤجر عليه، علَّك إذا كنت في قبرك وحيدًا فريدًا تأتيك أنوار دعواتهم في ظُلَم الليالي تنير لك قبرك، وتسعدك عند ربك.
وأما الرسالة الرابعة والأخيرة فأفردتها لعِظمها، وهي موجهة للجميع، طلابًا كانوا أم معلمين أم آباء، أقول فيها: إن الأمة مقبلة على مستقبل مخيف، تتناوشه أطروحات غريبة، ومطالب عجيبة، أهل الشرّ فيه أجلبوا بخيلهم ورَجِلِهم على إفساد شباب الأمة بما أوتوا من قوة، ولست أقول هذا تشاؤمًا، بل والله إني متفائل! ولكن هذا الطوفان لا بد له من رجال، لذا فعلينا جميعًا أن نتكاتف لنحقّق الهدف الأسمى والمطلَب الأعلى من التعليم، ألا وهو العمل. فما قيمة العلم بلا عمل؟!.
إن رسالة التعليم لا تعني في أهدافها أن يحمل الطلاب على عواتقهم كمًّا من المقررات طيلة فصل أو عام ثم يتخففون منها بأداء الامتحان، إن رسالة التعليم لم تبلغ غايتها إذا حفظ الطالب أو الطالبة نصوصًا في أهمية الصلاة وكيفيتها وشروطها وواجباتها وهو لا يصلي إلا قليلاً أو يصليها على غير ما تعلمها، إن رسالة التعليم لن تحقق هدفها إذا كان الطالب يقرأ في المدرسة موضوعًا في مادة المطالعة وغيرها عن الصدق وبعده بهنيهة يكذب على معلمه وزملائه، إن رسالة التعليم لن تحقق غايتها إذا كان الطالب في المدرسة يكتب موضوعًا في التعبير -مثلاً- عن الوالدين ويحليه ويجمله ثم هو يخرج من المدرسة ليرعد ويزبد على أمه ويعرض عن أمر أبيه.
هذا -والله- فِصام نكِد نعانيه في حياتنا، لكن التقصير من الأطراف كلها حاصل، فلا بد من تلافيه، المدرسة والمعلمون يسعون بالتوجيه والتربية بالأسلوب الأمثل، ويكونون قدوة في فعالهم قبل مقالهم، والآباء والأمهات يسعون لأن يكون البيت خالياً من وسائل الانحراف وفساد الأخلاق، ويسعى للصحبة الصالحة لهم ما استطعنا لذلك سبيلاً، وقبل هذا وبعده دعاء ربّ العالمين، والله يقول(إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [القصص:56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم