عناصر الخطبة
1/الغاية من خلق الناس 2/فضل الاستقامة على الدين 3/معيار الاستقامة الحقة 4/من مظاهر الخلل في الاستقامةاقتباس
فلا يكون مستقيمًا كما أمر الله ورسوله من يظلم الناس, ويسعى في الأرض فسادا، ولو كان ممن يبيتون سجدًّا وقياما, وليس مستقيمًا كما أمر الله ورسوله من يأكل الأموال بالغش والربا والباطل، ولو كان يسابق المؤذنين إلى المساجد, وليس مستقيمًا...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
عباد الله: إن أعظم ما ينبغي أن يسعى إليه المسلم في هذه الحياة أن يستقيم على عبودية الله -جل جلاله-؛ إذ الإنسان مخلوق في هذه الدنيا من أجل هذه العبودية؛ كما قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات: 56].
وهل يقرأ المسلمُ الفاتحةَ في كل يوم ما لا يقلُّ عن سبعَ عشرةَ مرة؛ إلا ليعلن عبوديته لله، ويدعوه أن يهديه الصراط المستقيم؟؛ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)[الفاتحة: 1 - 7].
وإن الجزاء في الدنيا والآخرة على الاستقامة لعظيم، قال الله -جل جلاله-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)[فصلت: 30 - 32].
ولكن -يا عباد الله- ما معيار الاستقامة؟ ومتى يقال: إن هذا الإنسان مستقيم, وهذا غير مستقيم؟ أهو بحسب الأعراف الاجتماعية؟, أم هو بحسب القوانين البشرية؟ أم هو بحسب الأهواء العقلية؟, كلا يا -عباد الله-؛ لا هذا، ولا هذا، ولا ذاك, وإنما هو بحسب الأوامر الإلهية؛ فمن حققها فقد حقق الاستقامة والصلاح، ومن لم يحققها فليس هو بالمستقيم ولا بالصالح.
ولقد قال الله -جل جلاله- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ)[الشورى: 15], وقال له: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ)[هود: 112، 113], وقال: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الأنعام: 153].
إذن -أيها المسلم- (اسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)، لا كما تهوى وتريد، ولا كما تهوى عشيرتك وتريد، ولا كما يهوى مجتمعك ويريد، ولا كما يهوى المجتمع الدولي ويريد، ولا كما يهوى أي أحد من أهل الدنيا ويريد, ولكن كما يريد الله، وكما يحبه الله، وكما يرضاه الله, وما سوى ذلك فهو الطغيان؛ كما قال الله: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[هود: 112], وهو الضلال؛ كما قال -سبحانه-: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)[ص: 26]، وقال: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[الملك: 22].
وليست الاستقامة في العبودية القاصرة على النفس فحسب؛ بل هي شاملة لكل العبادات، ولفعل الأوامر واجتناب النواهي، ولكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال والاعتقادات الظاهرة والباطنة.
فلا يكون مستقيمًا كما أمر الله ورسوله من يظلم الناس, ويسعى في الأرض فسادا، ولو كان ممن يبيتون سجدًّا وقياما.
وليس مستقيمًا كما أمر الله ورسوله من يأكل الأموال بالغش والربا والباطل، ولو كان يسابق المؤذنين إلى المساجد.
وليس مستقيمًا كما أمر الله ورسوله من يحافظ على الصلوات، ولكنه يقارف المنكرات, ويسيء الأخلاق والتعاملات.
وليس مستقيمًا كما أمر الله ورسوله من يحسن الأخلاق والتعاملات، ولكنه تارك لما أمره الله به من الواجبات.
وليس مستقيمًا كما أمر الله ورسوله من يتعبد الله ليلاً ونهارًا بالبدع المحدثات، وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إيَّاكم ومحدثاتِ الأمورِ؛ فإنَّ كلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ"(أخرجه أحمد وغيره)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن أَحْدَثَ في أَمْرِنَا هذا ما ليسَ فِيهِ، فَهو رَدٌّ"(متفق عليه).
وليس مستقيمًا كما أمر الله ورسوله من يخالف منهجهما, ويعارض أمرهما بآراء مُبتدَعة، وأفكارٍ منحرفة، ولو كان يقوم الليل، ويصوم النهار، ولا يفارق القرآن؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بعض أهل البدع والأهواء: "سَيَكُونُ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ يَقْرَؤونَ الْقُرْآنَ، لاَ يُجَاوِزُ حَلاَقِيمَهُمْ، يَخْرُجُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ"(رواه مسلم).
فاتقوا الله -عباد الله-، واستقيموا كما أراد الله، تفلحوا في الدنيا والآخرة؛ (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الأحقاف: 13، 14].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم وبسنة سيد المرسلين, أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وجعلنا من أتباع سيد الأنام، عليه الصلاة والسلام.
أما بعد: فإن الطريق إلى الاستقامة على ما أراد الله -جل جلاله- إنما يكون بالاستمساك بكتاب الله, وبما جاء فيه من عند الله، قال -سبحانه-: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[الزخرف: 43], وقال عن القرآن: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)[التكوير: 28، 29].
ألا وإن الاستقامة على أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الاستقامة على أمر الله، فما يأمر به النبي -صلى الله عليه وسلم-, وما ينهى عنه إنما هو من وحي الله؛ كما قال -سبحانه-: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)[النجم: 1 - 4], وقال -سبحانه-: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا)[النساء: 80], وقال: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ)[الحشر: 7], وقال: (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ)[المؤمنون: 73، 74], وقال: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النور: 63], والآيات في هذا الشأن كثيرة معلومة.
وصَحّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ, يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لَا نَدْرِي؛ مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ".
وصح أنه -صلى الله عليه وسلم- حَرَّم أشياء يوم خيبر، كلحوم الحمر الإنسية وغيرها، ثم قال: "أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ", وقال: "يُوشِكُ أَحَدُكُمْ أَنْ يُكَذِّبَنِي، وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ، يُحَدَّثُ بِحَدِيثِي، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ؛ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ", ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: "أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ".
فاتقوا الله -عباد الله-، واستمسكوا بكتاب الله، وبسنة رسول الله، واسألوا الهداية من الله (وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[الحج: 54], اللهم اهدنا بالقرآن العظيم، وبسنة سيد المرسلين.
عباد الله: صلوا وسلموا على رسول الله, فإنه من صلى عليه صلاة واحدة؛ صلى الله عليه بها عشرا, اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله الطاهرين، وخلفائه الراشدين، وصحابته الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين, اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك, اللهم من أراد بلادنا وبلاد المسلمين بسوء وفتنة فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميرًا عليه يا قوي يا عزيز.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم