معرفة الله تعالى

مبارك بن عبد العزيز بن صالح الزهراني

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: الإيمان
عناصر الخطبة
1/ اهتمام ثقافة عصرنا بالمخلوقات لا بالخالق 2/ ضرورة المعرفة بالله تعالى 3/ تيسير الله تعالى السبيل لمعرفته 4/ رؤية العارفين بالله الربانية للناس والأحداث 5/ نماذج قرآنية تجسد العارفين بالله والجاهلين به 6/ ما ينبغي معرفته عن الله تعالى

اقتباس

المعرفة بالله ضرورةٌ فوق كُلِّ ضرورة، وحاجَةٌ فوق كل حاجة، فورَبِّي! لا ضرورة فوقها، ولا حاجة تعلوها، وهل هناك حاجة أو ضرورة تقوم مقام حاجتنا إلى معرفة خالقِنا وفاطِرِنا؟ ومعرفة أمره فينا؟ وخَلقه لنا، وسبيلنا إليه؟ إن السعادة للعبد في الدارين مَنوطةٌ بهذه المعرفة؛ فكلما كملت معرفتك بربك كملت لك سعادتك، وأي معرفة أشد ضرورة من معرفة قامت عليها السموات والأرض، وتعلقت بها السعادة والشقاوة، وخُلقت من أجلها الجنة والنار ..

 

 

 

 

الحمد لله المعروف بالإحسان، الموصوف بذي الجلال، والإكرام الذي ظهرت في الخلائق عظمته، ووضحت في الكون وحدانيته، وتفرد بالتدبير والتقدير، وتعالى في ذاته وفي أسمائه وصفاته وفي أفعاله عن الشبيه والمعاون والمشير. 

أشهد أن لا إله إلا هو الله الواحد الأحد، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الهادي إلى الصراط المستقيم، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

أما بعد: فإنَّا على وشك التقضِّي والانصرام، وقد دنا لكل منا الرحيل والاخترام؛ فما لنا من زاد نافع إلا تقوى ربنا، (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة:197]، فاستمسكوا بها، واستقيموا عليها؛ فإنها لنا لمنجية من الهلكات، ومفضية بنا إلى الرحَمات، ومنزلة إيانا عالي الدرجات، ومُنِيلة لنا رضوان الرب -سبحانه- عالي الذات والصفات.

أيها المسلمون: لقد شُغل الإنسان في سائر عصره وحياته بتطلب المعرفة، والجهاد في سبيلها، وما شغل في زمن من الأزمان بالعلم والمعرفة مثلما شغل بها في هذا الزمان، وإنك حين تتأمل في تاريخ المعارف والعلوم ترى شغفاً بعلوم الدنيا والطبيعة يستحوذ على اهتمام الإنسان، ويسيطر على شغله وفكره؛ بينما أجلُّ العلوم، بل أصل كل معلوم، وأسّ كل مَرُوم، وينبوع المعارف، ومصدر كل عارف، لا يعنى بشأنه الإنسان إلا قليلاً، ولا يأخذ من وقته إلا نزراً يسيراً.

وإنه فوق ذلك لهو غاية خلق الخلق، وأفرض ما على العبد وأحق، وأوجب ما قام به وأوفق، وأخطر ما على حياته أثره وأخلق؛ والشأن شأنه في العاقبة، والميزان ميزانه في الخاتمة، والمأوى وتحديد المصير به لا بغيره، فكفى به علماً ومعلوماً؛ ومع علو هذا الشأن إلا أنَّ العباد في الجُلِّ مصرفون عنه منصرفون إلى غيره.

أعرفتم ما هذا العِلم؟ إنه العلم بالله تعالى، وبأسمائه وصفاته، وبما شرع وأمر فذلك العلم ما وراءه من علم، وكل علم ومعلوم لا يقود إلى ذلك، ولا يخرج من مشكاته كان ويلاً على صاحبه، وشؤماً على أهله وذويه.

ورحم الله الأئمة الأجِلاء أهل الهدى والحكمة يوم قالوا: العلم هو معرفة الحق بدليله، وأوجبه على العبد معرفة العبد ربه، ومعرفة العبد نبيه، ومعرفة العبد دينه الذي شرعه له ربه تعالى، فعن ذلك يسأل في قبره، ويحاسب في آخرته.

أيها المسلمون: ولقد تأملت ما يذاع في كثير من الإذاعات، ويعلن في كثير من الفضائيات، ويكتب في كثير من الصحف والمجلات، ويُدار في الندوات والحوارات، وتشتعل من أجله الأفكار، وتتسابق عليه الأجيال، وتتشاغل به مجالس الناس وسهراتهم، وما توضع من أجله المناهج والطرق وتمحص، فوجدت أنَّ أغلبه عن اسم الله تعالى منزوع، وعن غايته يمرق ويروغ، إن لم يكن لله محاداً، ولشرعه مناهضاً، ولأولياء الله تعالى وحزبه معادياً.

كما وجدت أنه يعنى بالإنسان، ذات الإنسان: حقوقه، مساواته، حريته، شهواته. حتى كاد أن يكون هذا الإنسان إلهاً من دون الله يعبد، ومن أجل ذاته تقام الحروب، متناسياً حق الله تعالى فيه، وما قاله الله تعالى بشأنه؛ بل انقلب البعض إلى أن يأخذ من دين الله تعالى ما وافق مصلحة الإنسان وهواه، ويكاد يعبَّد الشرع للإنسان. فيا الله! (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [عبس:17-18].

وصارت حرمات الإنسان أحق بالحماية والرعاية من حرمات ربنا الرحمان، وعلى ذلك مئات الشواهد والدلائل، خذ على ذلك مثالاً مكرراً في الصحف اليومية، والمسلسلات اليومية، ألا ترون كيف تمارس الصحف عملية التجاوز الصريح لحدود الله تعالى كنشر كتابات مكذبة لله تعالى ورسوله، كتلك التي يزعم فيها صاحبها أن اليهود والنصارى ونحوهم من أهل الملل مسلمون لا كفار! أو تلك الأخرى التي يزعم فيها الآخر أن الولاء والبراء والكفر بالطاغوت فكرة مؤدلجة من العلماء! وكتابات أخرى كثيرة دون ذلك تتعرض لحدود الله تعالى وشريعته، وتنال من حملة العلم الربانيين، كاتبوها ليس لهم بالله ولا بشرع الله علم، ولا هم من أهله.

وكل هذا الفحش والمحادة والنكر لا يحرك في الناس شيئاً، بينما تجد ذات الصحف ذاتها تتباكى؛ بل وتفتري الكذب كل ذلك الافتراء، وتلك الضجة، وتلك الفرية، من أجل أن تظهر عنايتها بحق الإنسان، وحرية الأديان، والناس في كثير خلفها يغارون بغيرتها، ويخدعون بافترآتها، ويصدقون بكذبها، وينسون حق الله تعالى وحده وأمره في هذا الشأن.

إن المقصود من هذا كله أن الخلق اليوم يعلمون عن شؤون الخلق وتفاصيلها ما لا يعلمون عن خالقهم، ويعنون بالكون وينسون مبدع الكون، يعنون بالإنسان ويغيبون عن الرحمان، خالق الإنسان، معلمه البيان.

إنَّ الواقع الذي نعيش ثقافته فيها بعد عن العلم بالله، والاعتناء به، ولذا رأيت أنَّ من أوجب ما على العبد -خصوصاً في هذا العصر- أن يلتفت إلى ربه، ويقبل على العلم بخالقه وإلهه المعبود؛ ليجد عنده من الخير والفرقان والهداية والرشاد ما ليس له في حسبان.

أيها الأحباب: المعرفة بالله ضرورةٌ فوق كُلِّ ضرورة، وحاجَةٌ فوق كل حاجة، فورَبِّي! لا ضرورة فوقها، ولا حاجة تعلوها، وهل هناك حاجة أو ضرورة تقوم مقام حاجتنا إلى معرفة خالقِنا وفاطِرِنا؟ ومعرفة أمره فينا؟ وخَلقه لنا، وسبيلنا إليه؟ إن السعادة للعبد في الدارين مَنوطةٌ بهذه المعرفة، فكلما كملت معرفتك بربك كملت لك سعادتك، وأي معرفة أشد ضرورة من معرفة قامت عليها السموات والأرض، وتعلقت بها السعادة والشقاوة، وخُلقت من أجلها الجنة والنار، وبعثت من أجلها الرسل، وأنزلت من أجلها الكتب؟!.

ونحن نجد الشارع الكريم، وربنا الرحيم، جعل هذه المعرفة أعظم معرفة، وأجلّ العلوم؛ لقد حشد الله تعالى وصرَّف في كتابه الآيات التي تعرف الخلق به غاية التعريف، وتقودهم إليه من أوضح سبيل، وأقصر طريق، وأسلم منهاج، كل ذلك من أجل أن يعرف الخلق خالقهم حقاً، ويقوموا بحقه حقاً؛ وحين تتأمل القرآن تجد أنَّ القرآن كله من أوله إلى آخره حديث عن الله تعالى، إما عن ذاته، وإما عن صفته، وإما عن فعله وخلقه، وإما عن أمره؛ ذلك لأن العلم بالله وبأفعاله وبأمره منجاة في الدنيا والآخرة، وتسديد يصيب به العبد السداد، ويرزق به الفرقان والرشاد.

تأملوا -عباد الله- هذه النماذج لعباد عرفوا الله تعالى، وآخرين كانوا بالله جاهلين، ماذا تجني الحياة والأحياء من أولئك من خير، وماذا تذوق من هؤلاء من شر؟! هذا قارون مثلاً قرآنياً للإنسان الجاهل بربه، يؤتيه الله تعالى أموالاً وخزائن من الرزق فيبغي على قومه، وهذه هو حال الجاهلين بالله دائما بغاة على العباد. لماذا؟! لأنه نسي ربه وجهل خالقه ورازقه فقال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص:78]؛ فماذا كان شأن المؤمنين العالمين بالله تعالى؟ لقد كان نظرهم أعمق، وبصيرتهم أدق، فقالوا له: ( لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [القصص:76]. ثانياً: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ). ثالثاً: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [القصص:77]. الله أكبر! ما هذا العلم؟ ما هذا الهدى؟ كم من خير ونعمة ستصيب قارون وقومه لو أصغى إلى هذه النصائح.

ومثلٌ آخر من ذات قصة قارون، لما خرج في زيتنه في أتمها ماذا قال الجاهلون بالله؟! وماذا قال العالمون بالله؟! قال الجاهلون: (قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [القصص:79]، وهكذا تُعمي الدنيا بصائر الناس، وتغشي على عقولهم، فليس لديهم ميزان سديد؛ أما الذين أوتوا العلم بالله فماذا قالوا؟: " قال الذين أوتوا العلم: ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً " عرفوا ربهم فلم ينسوه، يقيسون باسمه الأشخاص، ويقرؤون باسمه تعالى الأحداث، ويفسرون باسمه المواقف والأحوال والأزمات.

اقرؤوا مثلا آخر لملِكين أحدهما عالم بالله حق العلم، وآخر معاند جاهل بربه، ذو القرنين، ذلك الملك العالم بالله، كيف كان يقضي ملكه ويدبر رعيته؟ وباسم من؟! (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً * فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً) [الكهف:93-98]. أرأيتم كم من خير أجراه الله علي يديه؟!.

وانظروا في فرعون، كم قتل من أقوام، وكم اسر من رجال، وكم استعبد من أحرار، وكم فجع من أم؟! إنه كان من المفسدين؛ و هكذا نماذج كثيرة في كتاب الله تجسد لنا أهمية العلم بالله تعالى .
كيف لا تكون المعرفة بالله ضرورة لنا وكل ذرة في أجسادنا .. وكل عرق فينا وكل قطرة دم وكل شيء فينا ينادي ربه ويستجيب لخالقه وآمره ..

إن هذا الجسد عروقه تنبض بأمر الله، ودماؤه تجري باسم الله، أعصابه، خلاياه، أمعاؤه، كبده، كله بالله، وبأمر الله يحيا ويتحرك، ونحن لا نعلم كيف يكون؟! ولا نفكر مَن الذي حركه، من الذي أنبض منه العرق، وأجرى فيه الدم، إنه الله تعالى. ألا يستحق من قام بفضله على أجسادنا أن نعرفه.
إن كل شيء تتعلمه يغيب عنك وتغيب عنه إلا ربك سبحانه وتعالى، لا يغيب عنك، فضله عليك في جسدك، وآياته في خلقك وفيما حولك، فلماذا نصر على الإعراض عن ربنا؟! وكذلك أنت لا تغيب عن ربك لحظة واحدة أبدا، فأنت تحت سمعه وبصره وعلمه، وتشملك رحمته وقدرته وتدبيره، فكيف نولي أعمارنا غيره؟!.

ثم إن سؤال المصير في القبر أول ما يكون: مَن ربك؟! ألا يجدر بنا أن نتعرف على ربنا حقاً قبل أن نتعرض لسؤال المصير، ولنا أن نتأمل حال الناس يوم يضلون عن هذه المعرفة الحقة المفصلة كيف يعبدون إلها لا يعقل ولا يسمع ولا يبصر ولا ينفع، فيتهاوون من العقل إلى السفه، ومن الرشد إلى العمى والضلال المبين.

والعلم بالله يشمل ثلاثة أمور: العلم بأسمائه وصفاته، العلم بأفعاله، العلم بأمره. ليسأل كل امرئ منا نفسه: ماذا يعرف من أسماء الله؟ ماذا لديه من علم بصفات الله تعالى؟ ماذا عنده من معرفة بأفعال الله تعالى؟.

فغُذُّو السير -رحمكم الله- إلى ربكم، وجدِّدُوا العزم...

 

 

 

 

 

المرفقات

الله تعالى

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات