مصعب بن عمير؛ الداعية المجاهد

ناصر بن محمد الأحمد

2010-03-03 - 1431/03/17
عناصر الخطبة
1/ بداية دعوته صلى الله عليه وسلم 2/ إسلام مصعب رضي الله عنه وإخفاؤه لإسلامه 3/ تحمل الصحابة للأذى في سبيل الدعوة 4/ حال مصعب قبل الإسلام وبعده 5/ بكاءه عليه الصلاة والسلام وثناؤه عليه 6/ سفير الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة 7/ جهاده واستشهاده رضي الله عنه 8/ وقفات مع الصحابي الجليل

اقتباس

وقد كان منهم صحبٌ كرامٌ كانوا من السابقين الأولين إلى الإسلام، فتوالى عليهم من البلاء والمحن والتعذيب ما لا يعلمه إلا الله، ولكنهم صبروا وصدقوا ما عاهدوا الله تعالى عليه، وصدق المولى القدير سبحانه وتعالى حيث قال: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب:23].
ومن هؤلاء النفر القلائل: مصعب بن عمير، الداعية المجاهد، والصحابي المناضل، سفير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ..

 

  

 

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71]

 

أما بعد:

فيا أيها الناس: اتقوا الله سبحانه وتعالى حق التقوى. اتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، يومَ يُنفخ في الصور، ويبعث من في القبور، ويظهر المستور. يوم تبلى السرائر، وتُكشف الضمائر، ويتميز البر من الفاجر.

عباد الله: تصوغُ العقيدة الإسلامية رجالها صياغة فذة، في صورة من يرى الناس في سيرتهم مرآةً صادقة عن الإسلام، يتمثل فيها عمق الإيمان بالله تعالى، وعظيم البلاء في سبيل نصرة دينه، والتضحية في سبيله بالنفس والمال والأهل والجاه.

ولقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله تعالى عنهم خير البشر على الإطلاق بعد الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، أسلموا فحسن إسلامهم، وابتلوا بالسراء والضراء والشدة والرخاء حتى كانوا خير المؤمنين الذين حملوا لواء الدعوة إلى الله بكل إخلاص وأمانة، حتى تصدق فيهم قول الحق سبحانه وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:111].

وما زلنا في القرن الخامس عشر نترحم عليهم، ونترضى عنهم؛ لما بذلوه في سبيل الإسلام؛ ولما علم الله صدقهم خلد ذكرهم؛ وفي الحديث أنَ المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحب الله عبداً نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في أهل الأرض" رواه البخاري.

وحين نتذكر حياة سلفنا الصالح نتذكر معهم الحياة الإيمانية الحقة بأبهى صورها، نتذكر معهم الزهد والورع والتقوى والجهاد والبلاء والشجاعة في الحق، والصبر والثبات في سبيل نشر العقيدة وحمايتها؛ ابتغاء ما عند الله.

وقد كان منهم صحبٌ كرامٌ كانوا من السابقين الأولين إلى الإسلام، فتوالى عليهم من البلاء والمحن والتعذيب ما لا يعلمه إلا الله، ولكنهم صبروا وصدقوا ما عاهدوا الله تعالى عليه، وصدق المولى القدير سبحانه وتعالى حيث قال: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب:23].

ومن هؤلاء النفر القلائل: مصعب بن عمير، الداعية المجاهد، والصحابي المناضل، سفير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وحامل لواء الدعوة إلى الأوس والخزرج قبل قدوم النبي إلى يثرب.

معاشر المسلمين: بدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته سرّاً والمشركون يتربصون به الدوائر، كل منهم يحاول قتله وإخماد أمره ودعوته، ولكنّ الله تعالى إذا أراد أمراً فإنما يقول له كن فيكون، ولو اجتمع البشر كلهم على خلافه ومقاومته فلن يستطيعوا؛ فما لأحدٍ بالله تعالى من طاقة (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [الصف:8].

واتخذ المصطفى صلى الله عليه وسلم من دار الأرقم بن أبي الأرقم -رضي الله عنه- ملتقى لأصحابه، يلتقي فيها مع القلة المستضعفين الذين آمنوا به على خوفٍ من دعاة الضلالة وعبدة الأوثان أن يعلموا بهم فيكيدوا لهم كيداً، ويستقبل فيها المسلمين الجدد؛ الذين يريدون الدخول في هذا النور الجديد.

قدم مصعب بن عمير -رضي الله عنه- مستخفياً إلى النبي صلى الله عليه في دار الأرقم بن أبي الأرقم فأسلم وكتم إسلامه؛ خوفاً من أمّه وقومه.

قال محمد بن سعدٍ -رحمه الله- في طبقاته: "لما بلغ مصعب بن عمير أنّ رسول الله يدعو إلى الإسلام في دار الأرقم بن أبي الأرقم دخل عليه فأسلم، وصدَّق به، وخرج فكتم إسلامه؛ خوفاً من أمّه وقومه، وكان يختلف؛ أي: يأتي إلى رسول الله سراً، وكان إسلامه في السنوات الثلاث الأولى من الدعوة قبل أن يَصْدَعَ النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة الجهرية".

وقد لقي السابقون إلى الإسلام من الأذى والنَّكال ما تنهد له الجبال الراسيات، ولكنَّهم آثروا ما عند الله تعالى على مُتَعِ هذه الحياة الفانية؛ لما خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم. أُلقوا في رمضاء مكة المُحْرِقَةِ، ووُضِعَتِ الحجارةُ القاسية على صدورهم، وضُربوا بالسياط، وشنقوا بالحبال، وقُطعوا بالسيوف، وأدُميت جلودهم وقلوبهم على أيدي كفار مكة وسادات الشرك، وعبّاد الأوثان.

يقول خبّاب بن الأرت -رضي الله عنه-: "أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فشكونا إليه فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعوا الله لنا، فجلس مُحمراً وجهه، فقال: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، ثم يؤتى بالمنشار فجعل على رأسه فيجعل فرقتين، ما يصرفه ذلك عن دينه".

ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليُتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين صنعاء وحضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون". رواه البخاري، وأحمد، وأبو داود.
أخفى مصعب -رضي الله عنه- إسلامه على أمه وأهله؛ خوفاً على نفسه من الفتنة؛ وكتماناً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنّ الواشين من المشركين لما علموا بإسلامه سارعوا إلى الوشاية به عند أمه وقومه؛ نكاية فيه، وصدَّاً له عن سبيل الله (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ) [النساء: 89]

ولما علم عثمان بن طلحة بإسلام مصعب أخبر قومه، فغضبوا عليه، وحبسوه وأوثقوه، فلم يزل -رضي الله عنه- محبوساً حتى فرَّ بدينه وهاجر إلى الحبشة؛ طَمَعَاً في الأمنِ بجوار ملكها النجاشي -رضي الله عنه- الذي تواترت عنه الأخبار أنّه لا يُظلمُ عنده أحد.

كان معصب بن عمير -رضي الله عنه- فتى مكة شباباً وجمالاً، وكان أبواه يحبانه حباً عظيماً، وكانت أمه من أعظم أهل مكة، تكسوه أحسن الثياب، وأجمل اللباس، وكان أعطر أهل مكة، يلبس الحضرمي من النعال -أنفس ما يوجد ذلك الزمان-.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكره ويقول: "ما رأيت بمكة أحسن لمةً، وأرق حلة، ولا أنعم من مصعب بن عمير" رواه الترمذي.

وكانت أمّه شديدة الكَلَفِ به، وكان يبيتُ وقدحُ الحِْيسِ عند رأسه، يستيقظ فيأكل؛ لئلا تصيبه جوعة.

فلما أسلم انخلع من ذلك كله، وأصابه من الشدة والتعذيب والبلاء ما غير لونه، وأذهب لحمه، ونهك جسمه، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، وعليه فروةٌ قد رقعها، فيبكي صلى الله عليه وسلم؛ لِما كان يعرف من نعمته.

وحلفت أمُّهُ -حين أسلم وهاجر- ألا تأكل ولا تشرب ولا تستظل حتى يرجع إليها، فكانت تقف في الشمس حتى تسقط مغشياً عليها، وكان بنوها يحشون فاها بالأعواد فيصبون فيه الطعام حتى لا تموت.

أقبل مصعب بن عمير -رضي الله عنه- ذات يوم، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه، وقد ارتدى ثوباً موصولاً بإهابٍ فبكى للذي كان فيه من النعمة، ونكس أصحاب النبي -رضي الله عنهم- رؤوسهم رحمة له، ليس عندهم من الثياب ما يقدمونه له، فسلم، فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وأحسن عليه الثناء ثم قال: "الحمد لله الذي يُقلبُ الدنيا بأهلها، لقد رأيتُ هذا -يعني مصعباً- وما بمكة فتىً من قريش أنعمَ عند أبويه نعيماً منه، ثم أخرجه من ذلك الرغبةُ في الخير؛ في حب الله ورسوله" رواه الترمذي.

وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصعب، فقال: "انظروا إلى هذا الرجل الذي قد نور الله قلبه، لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، فدعاه حبُّ الله ورسولهِ إلى ما ترون" رواه الطبراني والبيهقي.

وعند الحاكم من حديث الزبير -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً بقباء، ومعه نفرٌ، فقدم مصعب بن عمير عليه بردة ما تكاد تواريه، ونكس القوم رؤوسهم، فجاء فسلم، فردوا عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم خيراً، وأثنى عليه، ثم قال: "لقد رأيت هذا عند أبويه بمكة يُكرمانه وينعمانه، وما فتىً من قريش مثله، ثم خرج ابتغاء مرضاة الله ونصرة رسوله، أما إنه لا يأتي عليكم كذا وكذا حتى يفتح الله عليكم فارس والروم، فيغدوا أحدكم في حلة، ويروح في حلة، ويُغدى عليكم بقصعة"، قالوا: يا رسول الله: نحن اليوم خيرٌ أو ذلك اليوم؟. قال: "بل أنتم اليوم خيرٌ من ذلك اليوم، أما لو تعلمون من الدنيا ما أعلم لاستراحت نفوسكم منها".

وخرج مصعب بن عمير من النعمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثراً الشظف والفاقة، وأصبح الغنيُّ المتأنقُ المعطرُ لا يرى إلا مرتدياً أخشن الثياب، يأكل يوماً ويجوع أياماً، ولكن روحه المشربة بسمو العقيدة كانت قد جعلت منه إنساناً آخر يملأ الأعين إجلالاً، والأنفس روعةً وحياءاً.

هذه الصفات كلها جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يختاره لأعظم مهمة في حياة الدعوة الإسلامية؛ حيث اختاره ليكون سفيره إلى المدينة، فلما انصرف أهل العقبة الأولى، وفشا الإسلام في دور الأنصار أرسلوا لرسول الله يطلبون منه أن يرسل لهم رجلاً يُفقههم في الدين ويقرئهم القرآن.

فأرسل -صلى الله عليه وسلم- مصعب بن عمير -رضي الله عنه- إليهم، فلما قدم المدينة نزل على أسعد بن زرارة، وكان يأتي الأنصار في دورهم في عوالي المدينة فيدعوهم، فيسلم الرجل والرجلان حتى ظهر الإسلام وفشا في المدينة، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه أن يُجِّمعَ بالأنصار، فأذن له، وكتب له: "أن انظر من اليوم الذي يجهر فيه اليهود لسبتهم، فإذا زالت الشمس فازدلف إلى الله فيه بركعتين، واخطب فيهم". الحديث في الصحيح.

فجمع بهم مصعب في دار سعد بن خيثمة، -وهم اثنا عشر رجلاً رضي الله عنهم أجمعين-، فكان أول من جمع في الإسلام جمعة -ر ضي الله عنه وأرضاه-.

وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واستبشر المسلمون في المدينة بقدومه، واستمر مصعب يدعو إلى الله، وينشر الإسلام، ويغرس العقيدة، سيفاً شهيراً في يد النبي صلى الله عليه وسلم يوجهه حيث شاء.

ووقعت معركة أحد في العام الثالث من الهجرة النبوية، وشارك فيها مصعب بن عمير مشاركة الأبطال، وأبلى فيها بلاء المؤمنين الصابرين المحتسبين، وحمله المصطفى صلى الله عليه وسلم راية المسلمين، وثبت مصعب -رضي الله عنه- مع القلة المؤمنة التي أحاطت بالنبي صلى الله عليه وسلم، ودافعت المشركين عنه لما تخلخلت صفوف المسلمين وأصبحت الجولة للمشركين، وبقي اللواء في يد معصب يمسكه بقوةٍ وثبات ويدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وتدافع المشركون نحو اللواء، وأقبل ابن قُمَئْةَ -عليه من الله ما يستحق-، فشدّ على مصعب، فضرب يده اليمنى فقطعها، ومصعب يردد قول الحق سبحانه وتعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران:144]

ثم أخذ اللواء بيده اليسرى؛ حتى لا يقع، فضرب ابنُ قُمئة يده اليسرى فقطعها، فحنا على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره، ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه إلى صدره، ووقع مصعب بن عمير -رضي الله عنه- شهيداً مضرجاً بدمائه، فلما انتهت المعركة وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مصعب -وهو مُنجَعِفٌ على وجهه-، فقرأ قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب:23].

أيها المسلمون: وهكذا سقط مصعب بن عمير -رضي الله عنه- مجاهداً شهيداً، وهو ابن أربعين سنة، في ريعان شبابه وفتوته، مات -رضي الله عنه- ميتة الأبطال، وهو عند الله تعالى من الشهداء الأبرار -إن شاء الله سبحانه- (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً) [النساء:69-70].

وأشرف المصطفى صلى الله عليه وسلم على الشهداء من أصحابه -رضي الله عنهم- ودموعه تسيل من عينيه، فقال: "أنا شهيدٌ على هؤلاء أنّه ما من جريح يجرح في سبيل الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمي جرحه، اللون لون الدم، والريح ريح المسك، انظروا أكثر هؤلاء جمعاً للقرآن فاجعلوه أمام صاحبه في القبر، ثم قال: "أشهدُ أنّ هؤلاء شهداءٌ عند الله يوم القيامة، فأتوهم فزوروهم، والذي نفسي بيده لا يُسلم عليه أحدٌ إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه" الحديث في الصحيح.

قال الصحابي الجليل خباب بن الأرت -رضي الله عنه-: "هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، ومنا من مضى أو ذهب لم يأكل من أجره شيئاً كان منهم مصعب بن عمير، قُتل يوم أحد لم يترك إلا نمرةً كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه وإذا غطي بها رجلاه خرج رأسه، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: "غطوا بها رأسه واجعلوا على رجله الإذخر، أو قال ألقوا على رجله من الإذخر"، ومنا من قد أينعت له ثمرته فهو يهدبها" رواه البخاري.

هذا هو مصعب بن عمير ذلكم الرجل الذي كان يلبس أجمل الثياب في شبابه، ويأكل أطيب الطعام، ترمقه العيون إكباراً وإعجاباً لحسنه وغناه ومكانته، ينسلخ من ذلك الترف والنعيم كله مبتغياً وجه الله تعالى، وما أعده لعباده المؤمنين، ثم يجاهد مع رسول الله بائعاً نفسه من الله حتى قُتِلَ شهيداً لا يجد المسلمون عند موته غير ثوبٍ قصير بالٍ لا يكفي كفناً له، فرضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعالي الفردوس مثواه، وجمعنا به في دار كرامته ومستقر رحمته.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله تعالى فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يدل ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

 

أمّا بعد:

فاتقوا الله -أيها الناس- واعلموا رحمكم الله أنَّ الجنة غالية نفيسة، حريّةٌ بالمسلم أن يسعى لها سعياً حثيثاً، وأن يُقدِّم الغالي والنفيس في سبيل الحصول عليها، وتلك الأمنية العظمى والمطلب الغالي الذي من فاته فقد حرم الخير كله، ومن فاز به فنعم الفوز ونعم الجوار؛ جوار رب العالمين سبحانه وتعالى.

عباد الله: هذه سيرةٌ من سير سلفنا الصالح -رضوان الله تعالى عليهم-، سيرة بطل جاهد في الله حق جهاده؛ لنيل الشهادة في سبيله فأعطاه الله ما تمنى، والحق سبحانه وتعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7]

وسيرة داعية قدم الأنفس العديدة فأدخلهم في الإسلام، وسيرة شهيد أبلى في سبيل الله البلاء الحسن فشهد له رسول الهدى ونبي الرحمة صلى الله عليه وسلم بالجنة.

ولنا مع هذه الصحابي المجاهد وقفاتٌ وعظاتٌ:

الوقفة الأولى: أنّ هذا الرجل كان في الجاهلية خامل الذكر، لا يُعرفُ إلا مع المشركين، ولا يُذكر إلا مع المترفين، فلما دخل في الإسلام ارتفع ذكره، وعلا قدره، وكأنه قد وُلدَ من جديد.

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "أنَّ للإنسان ميلادين اثنين: الميلاد الأول: يوم أن يخرج الإنسان من بطن أمه وليداً صغيراً، وهذا يشترك فيه جميع المخلوقات.

وأما الميلاد الثاني: فلا يعيشه إلا المتقون الذين أنعم الله تعالى عليهم بنعمة الهداية، وهو يوم أن يدخل الإنسان في هذا الدين الحنيف، ويوم أن يخرج من ظلمات الجهل والكفر والفسوق والنفاق والغفلة إلى نور الإيمان العبادة والطاعة". وذاك الشاعر العربي يقول:

ولدتك أمك باكيـاً مستصرخـاً *** والناس حولك يضحكون سروراً
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا *** في يوم موتك ضاحكاً مسـروراً

الوقفة الثانية: لقد آثر هذا الصحابي الجليل الحياة الآخرة على الدنيا الفانية؛ إذا كان -رضي الله عنه- في الجاهلية يعيش حياة الغنى والنعومة والراحة الدنيوية، لكنّه ما أنْ عَلِمَ أنَّ الإسلام حقٌ حتى دخل فيه راجياً ما عند الله، واثقاً بموعوده، متحملاً القهر والتعذيب والبلاء، عائشاً عيشة الفقر والفاقة والحاجة؛ كل ذلك حباً لله تعالى ورسوله، ورغبة فيما أعده الله تعالى لعباده المتقين.

إذا شَامَ الفتىَ بَرْقَ المعاني *** فَأهونُ فائتٍ طيبُ الرُّقادِ

الوقفة الثالثة: مات مصعب بن عمير -رضي الله عنه- شهيداً في سبيل الله تعالى، ولم يُخلّف وراءه من الدنيا شيئاً، وما وجدوا معه إلا ثوباً مرقعاً لم يكفي لتكفينه؛ لأنه اشتغل عن جمع المال بعبادة الله والواحد القهار الرزاق الوهاب، بل ترك ماله كله ودخل في دين الله تعالى يجاهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويدعو إلى الله، لأنه يعلم أنَّ من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.

يأتي مصعب بن عمير -رضي الله عنه- يوم القيامة وفي ميزان حسناته عشرات الصحابه -رضي الله تعالى عنهم- الذين أسلموا على يديه، وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالبٍ -رضي الله عنه-: "فو الله لأن يهدي الله بك رجلٌ واحدٌ خيرٌ لك من حُمْر النَّعَمِ". رواه البخاري.

يأتي مصعب بذلك يوم القيامة يوم يأتي كثيرٌ من أمته صلى الله عليه وسلم يحملون أوزارهم على ظهورهم أمثال الجبال؛ لِمَا أضلوا من الخلق، وصدوا عن سبيل الله. (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة:18-21].

أيها المسلمون: صلوا وسلموا على من أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه في قوله عزَّ من قائلٍ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56]

وقال صلى الله عليه وسلم: "من صلى عليَّ صلاةً واحدةً صلى الله عليه بها عشراً" رواه مسلم.

اللهم صلِّ وسلَم على عبدك ورسولك محمد بن عبد الله صلاةً وسلاماً دائمين إلى يوم الدين، وارض اللهم عن أصحاب نبيك أجمعين وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين..
 

 

 

 

 

المرفقات

1066

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات