اقتباس
والحث على إعطاء الكافر الذي يرجى إسلامه لا يتعارض مع بغض ما هو عليه من الكفر والفسوق حتى يدخل في دين الله الذي ارتضاه، ومنهم من يعطى ليحسن إسلامه، ويثبت قلبه، كما أعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين جماعة من صناديد...
لقد أحاطت رعاية الإسلام أتباعه أيما إحاطة، وأرشدتهم أحكامه إلى ما يصلح دنياهم وأخراهم؛ ومن تلك الأحكام الجليلة والحِكم البديعة ما شرعه الله -تعالى-من الأنظمة التي ترعى الناس وتكفل لهم حقوقهم؛ فأوجب على الأغنياء إعطاء الفقراء قدرا محددا من أموالهم؛ ليعيش الجميع متحابين متآلفين.
عباد الله: ولما أوجب الله -سبحانه وتعالى- على من أنعم عليهم بالسعة أن يخرجوا زكاة أموالهم حدد لهم الشرع الحكيم أصنافا بعينها، وجعل هذا واجبا شرعيا لا يصح إسلام المرء إلا بالاستجابة له والإتيان به، ودفعها لمستحقيها وهو ما يسمى، (مصارف الزكاة الثمانية).
والمراد بالمصرف: مفرد وجمعه مصارف، وصَرَفَ المال، أي: أنفقه، والصرف هو: الدفع.
والمعنى الاصطلاحي لمصارف الزكاة؛ هي الجهات التي تصرف فيها الزكاة؛ وهم أهل الزكاة ومستحقوها التي ذكرها الله -تعالى- في قوله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[التوبة: 60].
وبناء على هذا التوجيه الرباني يحرم على المزكي أن يصرف شيئا من الزكاة إلى غير هذه الأصناف الثمانية؛ لأن الله -تعالى- حصرها لهم دون غيرهم، وقد بدأ الله هذا التوجيه الكريم بقوله: (إنما) وهي للحصر، كما في لغة العرب؛ تثبت المذكور، وتنفي ما عداه، يقول ابن قدامة -رحمه الله-: "ولا نعلم خلافاً بين أهل العلم في أنه لا يجوز دفع هذه الزكاة إلى غير هذه الأصناف".
ولا يفهم من هذا أنه يجب على المزكي تعميم جميع الأصناف بالزكاة؛ لأن النبي -صلى الله عليهم وسلم- قال لمعاذٍ -رضي الله عنه-: "فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فتردّ في فقرائهم"؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بردها في صنفٍ واحدٍ، والأدلة كثيرة في السنة؛ فتبين بهذا أن مراد الآية: بيان الصرف دون التعميم؛ ولذلك لا يجب تعميم كل صنف.
أيها المسلمون: تعالوا لنتعرف على هذه الأصناف الثمانية التي أوجب الله دفع الزكاة لهم، وهم:
الفقراء: والفقير هو الذي لا يملك شيئا من حاجاته، وهو أشد أصناف من تجب لهم الزكاة حاجة وأعظمهم فاقة، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحرص على دفع الزكاة إلى الفقراء ويأمر أصحابه بذلك، كما تقدم معنا في حديث معاذ -رضي الله عنه-، والفقراء ليس لهم مال أصلا، كما قال -سبحانه-: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ)[الحشر: 8].
وثانيهم المساكين: وهم أحسن حالا من الفقراء، كونهم يملكون بعض المال، لكنه لا يسد حاجاتهم، قال تعالى عن حال بعضهم: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ)[الكهف:79]؛ فسماهم -سبحانه- مساكين مع امتلاكهم سفينة، كون هذا الكسب لا يسد حاجاتهم.
والعاملون عليها: وهم السعاة الذين يرسلهم الإمام لجمع الزكاة وأخذها من أصحابها؛ فيحفظونها ويوزعونها على مستحقيها، إلا من كانت وظيفته ويأخذ على ذلك مرتبا من مال بيت المسلمين؛ فهذا لا يجوز له أن يأخذ من الزكاة شيئا، وعلى العامل أن يصونها وأن يحفظها وأن يرعاها؛ حيث أنه مؤتمن عليها ومسؤول عنها، قال -صلى الله عليه وسلم-: "الخَازِنُ المُسلِمُ الأَمِينُ الَّذِي يُعطِي مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلاً مُوَفَّرًا، طَيِّبًا بِهِ نَفسُهُ، فَيَدفَعُهُ إِلى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ أَحَدُ المُتَصَدِّقَينِ"، وَقَالَ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ –:"مَنِ استَعمَلنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقنَاهُ رَزقًا فَمَا أَخَذَ بَعدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ" (صَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ).
والمؤلفة قلوبهم: والمؤلف قلبه كل من يرجى إسلامه، أو يخشى شره أو يرجى بعطيته قوة إيمانه، أو إسلام نظيره، أو جبايتها ممن لا يعطيها؛ فيعطى ما يحصل به التأليف والمصلحة؛ ودليل الذي يعطى ليسلم كما أعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- صفوان بن أمية من غنائم حنين، وقد كان شهدها مشركا قال: "فلم يزل يعطيني حتى صار أحب الناس إلي بعد أن كان أبغض الناس إلي" (رواه أحمد).
والحث على إعطاء الكافر الذي يرجى إسلامه لا يتعارض مع بغض ما هو عليه من الكفر والفسوق حتى يدخل في دين الله الذي ارتضاه، ومنهم من يعطى ليحسن إسلامه، ويثبت قلبه، كما أعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين جماعة من صناديد الطلقاء وأشرافهم مائة من الإبل؛ وقال: "إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه، مخافة أن يكبه الله على وجهه في نار جهنم" (رواه مسلم).
والمصرف الخامس وفي الرقاب: والمراد بهم المكاتبون من أهل الإسلام الذين اشتروا أنفسهم من ساداتهم بثمن مؤجل، وعجزوا عن السعي في تحصيله؛ حتى تفك رقابهم من الرق والعبودية، ويدخل في فك الرقاب المسلم الأسير الذي وقع في قبضة الكفار؛ فيفتدى منهم من الزكاة بقدر ما يفك أسره.
ومن مصارفها الغارمون: وهم العاجزون عن الوفاء بالديون التي تحملوها، والغارم؛ سواء تحمل الدين من أجل غيره، كالإصلاح بين الناس، كمن يضمن دية، أو مالا لإخماد فتنة بين طائفتين، وإما يكون تحمل الدين لنفسه في عمل مشروع وعجز عن الوفاء به؛ فيعطى كل منهما من الزكاة بقدر ما يقضي دينه، ويؤدي حمالته، وقد جاء في حديث قَبِيصَةَ بنِ مُخَارِقٍ الهِلالِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: "تَحَمَّلتُ حَمَالَةً فَأَتَيتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أَسأَلُهُ فِيهَا، فَقَالَ: "أَقِمْ حَتَّى تَأتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأمُرَ لَكَ بِهَا" قَالَ: ثُمَّ قَالَ: "يَا قَبِيصَةُ، إِنَّ المَسأَلَةَ لا تَحِلُّ إِلاَّ لأَحَدِ ثَلاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّت لَهُ المَسأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمسِكُ، وَرَجُلٍ أَصَابَتهُ جَائِحَةٌ اجتَاحَت مَالَهُ، فَحَلَّت لَهُ المَسأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِن عَيشٍ -أَو قَالَ سِدَادًا مِن عَيشٍ-، وَرَجُلٍ أَصَابَتهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلاَثَةٌ مِن ذَوِى الحِجَا مِن قَومِهِ: لَقَد أَصَابَت فُلانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّت لَهُ المَسأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِن عَيشٍ - أَو قَالَ سِدَادًا مِن عَيشٍ -؛ فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ المَسأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحتًا يَأكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحتًا" (رَوَاهُ مُسلِمٌ).
ومن أصناف الزكاة في سبيل الله: ويدخل في هذا الصنف؛ القائمين على الجهاد في سبيل الله، وطلاب العلم الشرعي الذين تفرغوا لتحصيله، وكذا الدعاة إلى الله -عز وجل-.
ومن أصنافها ابن السبيل: قال تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ)[البقرة: 177]؛ قال غير واحد من أهل التفسير، أن المراد بابن السبيل هو: "الغريب الذي احتاج في بلد الغربة أو لم يحتج؛ فله حق على المسلمين لشدة حاجته وكونه في غير وطنه بتبليغه إلى مقصوده أو بعض مقصوده".
عباد الله: وتحرم الزكاة على الكفار والمحاربين لدين الله -عز وجل-، وعلى من تجب على المزكي نفقتهم، كالأب والجد له، وإن علا، وكذا الابن وابن الابن مهما نزلا، والقوي القادر على الكسب الذي وجد عملا يناسبه ويسد حاجته، وعلى آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- لقوله: "إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس"(رواه مسلم).
والمعنى تحريم الصدقة الواجبة على بني هاشم، بخلاف صدقة التطوع فلا حرج في أخذها، كما ذكر الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: "إنهم لا يعطون من الصدقة المفروضة؛ فأما التطوع فلا"؛ إلا إذا لم يعطوا الخمس وهم في حاجة للأخذ من الزكاة فلا بأس.
خطباؤنا الكرام: هذه مصارف الزكاة التي حددها ربنا -سبحانه وتعالى- في كتابه العزيز وأرشد إليها النبي الكريم، وأجمع عليها علماء الأمة، فلا تجزئ زكاة عبد ما لم يعطها لهم أو لبعضهم؛ كما أرفقنا معها مجموعة من الخطب المنتقاة.
سائلين الله -تعالى- أن يوفقنا وإياكم إلى مرضاته وأن يأخذ بأيدينا إلى سبيل رحماته؛ إنه جواد كريم وبأحوالنا عليم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم