مراقبة الله

عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

2022-10-07 - 1444/03/11
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/أهمية مراقبة الله وفضلها 2/استشعار مراقبة الله ومقاماتها 3/حاجتنا لمراقبة الله 4/حكم الصيام بعد انتصاف شهر شعبان

اقتباس

عباد الله: إن من الناس مَن إذا خلا بمعصية لم يبال، وإذا تحركت قريبٌ منه قطة فزِع، أو دخل عليه طفلٌ صغير هلِع، أو حرك الهواء نافذة غرفته خاف!! ثم هو مع هذا لا يخاف الله، ولا يراقب الله، ولا يخشى الله! وقد قال بعضهم لأحد السلف: عظني؟ فقال له: "اتق الله من أن يكون أهون الناظرين إليك". نعم -عباد الله-: ما أحوجنا ولا سيما في هذا الزمان الذي تكاثرت فيه على الناس الفتن، وتفتَّحت أبواب الشرور، ولا سيما من خلال هذه الأجهزة والوسائل الحديثة التي...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الرقيبِ الشهيد، السميعِ البصير، العليمِ الخبير، الواسعِ المحيط؛ أحاط بكل شيءٍ علما، وأحصى كل شيءٍ عددا، الظلمة عنده نور، والغيب عنده شهادة، والسرُّ عنده علانية، لا تخفى عليه خافية، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم وعليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أمَّا بعدُ:

 

أيها المؤمنون -عباد الله-: اتقوا الله -تعالى-، واعلموا أنَّ الله -جل وعلا- عليكم شهيد، وعليكم رقيب، وعلى أعمالكم مطَّلع، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة، أحاط بالعباد علما، وأحصى كل شيءٍ عددا.

 

أيها المؤمنون -عباد الله-: إن من أعلى مقامات الدين، وأرفع رُتب عباد الله المؤمنين؛ مقام المراقبة، وهي دوام العلم ودوام التيقن باطِّلاع الله -عز وجل- على العبد، وعلمه –سبحانه- به، وأنه لا تخفى على العبد منه خافية.

 

فإن هذا الدوام للمراقبة والدوام لهذا التيقن، يورث خشيةً لله، وإحسانًا في طاعة الله، ودوامًا على عبادة الله، وبُعدًا عن نواهيه -جل في علاه-.

 

أيها المؤمنون -عباد الله-: إنَّ هذا الاستشعار لِعلم الله بك، واطلاعه عليك، يورث خيرًا عظيما، وفضًلا عظيما؛ فإن الله -عز وجل- من أسمائه الحسنى: "الرقيب" قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].

 

وقال الله -جل وعلا-: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا)[الأحزاب: 52].

 

وقال الله -سبحانه-: (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)[المائدة: 117].

 

أيها المؤمنون -عباد الله-: والرقيب من أسماء الله، دلالتُه دلالة إحاطة وشمول، بكمال اطلاع الله -عز وجل-، وكمال علمه، وكمال سمعه وبصره -جل في علاه-؛ فهو الرقيب عليهم بسمْعه الذي وسِع كل الأصوات، والرقيب عليهم ببصره الذي أحاط بجميع المبصَرات، فلا يعزُب عن بصره شيء، الرقيب بعلمه المحيط بكل شيء؛ فلا تخفى على الرب خافية، أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيءٍ عددا.

 

أيها المؤمنون -عباد الله-: وهذا الاستشعار والمراقبة يكون في مقامين:

 

الأول -عباد الله-: أن تراقب الله -عز وجل- عند أمره؛ ففي صلاتك وصيامك وحجِّك وسائر طاعاتك، تستشعر اطلاع الله عليك، ومراقبته لك، وعلمه بك؛ فيورثك ذلك كمال العبادة وتمامها، ولهذا جاء في الحديث -حديث جبريل المشهور- لما سأل جبريل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن مقام الإحسان، وهو أعلى مقامات الدين، قال: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ".

 

المقام الثاني -عباد الله-: مراقبة الله -عز وجل- عند نهيه؛ فإذا ما حدَّثت النفس العبد بمعصية، أو ارتكاب أمرٍ محرم أن يذكرها باطلاع الرب عليه، وعِلمه به، وأنه -عز وجل- يراه، ويسمع كلامه، ويعلم بحاله، ولا تخفى عليه من العبد خافية.

 

عباد الله: إن من الناس مَن إذا خلا بمعصية لم يبال، وإذا تحركت قريبٌ منه قطة فزِع، أو دخل عليه طفلٌ صغير هلِع، أو حرك الهواء نافذة غرفته خاف!! ثم هو مع هذا لا يخاف الله، ولا يراقب الله، ولا يخشى الله! وقد قال بعضهم لأحد السلف: عظني؟ فقال له: "اتق الله من أن يكون أهون الناظرين إليك".

 

نعم -عباد الله-: ما أحوجنا ولا سيما في هذا الزمان الذي تكاثرت فيه على الناس الفتن، وتفتَّحت أبواب الشرور، ولا سيما من خلال هذه الأجهزة والوسائل الحديثة التي بُلي بها كثير من الناس، فجرَّت شرًا عظيما، وبلاءً مستطيرا.

 

عباد الله: هل استشعر كثير من هؤلاء الذين يقتنون هذه الأجهزة ويستعملونها استعمالات محرمة، هل استشعروا علم الله بهم واطلاعه عليهم؟! (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى)[العلق: 14].

 

(أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ)[البقرة: 77].

 

(وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[الحديد: 4].

 

(يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ)[النساء: 108].

 

أيها المؤمنون -عباد الله-: إذا عُدم هذا الاستشعار، وعُدمت هذه المراقبة، أو ضعُفت في قلب العبد جرَّت بلاءً عظيما وشرًا كثيرا، قال الله -تعالى-: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[فصلت: 22-23].

 

أيها المؤمنون -عباد الله-: ما أحوجنا ولا سيما في هذا الزمان زمان الفتن الكثيرة المتلاحقة أن نستشعر هذا المقام؛ مقام المراقبة، ومقام الخشية لله -جل في علاه- في الغيب والشهادة، والسر والعلانية؛ لنفوز بعظيم الثواب، وجليل المآب، قال الله -تبارك وتعالى-: (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رضي الله عنهم وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)[البينة: 8].

 

وقال الله -تبارك وتعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)[الملك: 12].

 

وقال الله -تعالى-: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)[ق: 31-35].

 

اللهم يا ربنا اجعلنا منهم بمنِّك وكرمك وإحسانك.

 

اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة والسر والعلانية.

 

اللهم وأصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، إنك سميع الدعاء، وأنت أهل الرجاء، وأنت حسبنا ونعم الوكيل.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرةً وأصيلا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أمَّا بعدُ:

 

أيها المؤمنون -عباد الله-: اتقوا الله -تعالى-، وراقبوه -سبحانه- في الغيب والشهادة، والسر والعلانية، مراقبة من يعلم أن ربَّه يسمعُه ويراه.

 

أيها المؤمنون -عباد الله-: ثبت في السنن عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ، فَلَا تَصُومُوا".

 

ويستثنى عباد الله من هذا النهي ثلاث حالات:

 

الأولى من كان معتادا صيامًا فليصمه، كمن اعتاد صيام الاثنين والخميس؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ إِلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ".

 

الثانية: من بدأ الصيام من أول شهر شعبان، فله أن يواصل الصيام بعد انتصافه؛ لحديث أمِّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا" أي أنه عليه الصلاة والسلام كان يصوم أغلب شعبان.

 

الثالثة -عباد الله-: من كان عليه صيامٌ من رمضان الفائت؛ ففي الصحيح عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلَّا فِي شَعْبَانَ".

 

أسأل الله -جل في علاه- بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، أن يبلِّغنا أجمعين شهر رمضان المبارك، وأن يعيننا فيه على الصيام والقيام، وأن يجعلنا أجمعين في هذا الشهر المبارك من أهل الغفران، ونيل الجِنان والعتق من النيران، إنه سبحانه جوادٌ كريمٌ رحيمٌ منَّان.

 

وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله، كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: 56].

 

وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".

 

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد.

 

وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين؛ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

 

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصُر دينك وكتابك وسنَّة نبيك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-.

 

اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم وعليك بأعداء الدين، فإنهم لا يعجزونك. اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك، يا رب العالمين.

 

اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وسدِّده في أقواله وأعماله، يا ذا الجلال والإكرام.

 

اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها.

 

اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.

 

ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

 

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

 

المرفقات

الله4

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات