مختارة عيد الأضحى المبارك لعام 1444هـ

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2023-06-22 - 1444/12/04
التصنيفات:

اقتباس

فعيدنا عيد التكافل والتضامن مع المسلمين أجمعين بالقلب والدعاء، ثم باللسان والتوعية بحالهم، ثم بالمال والعون والمساعدة، ثم بما استطعنا من شيء بعد ذلك، ولقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما آمن بي من بات شبعانا وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به"...

تتجدد الأيام، وتكرر الليالي، وتمر السنون ثم السنون على تلك الواقعة الأقرب للخيال، وما هي بالخيال؛ فإنها حدثت على أرض الواقع الملموس، وسجلها التاريخ، وتناقلتها الأجيال، وفوق هذا كله قصها علينا القرآن الكريم في أكثر من موضع: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)[الصافات: 102-107].

 

إنها قصة تلك الأسرة المباركة الميمونة الواثقة في الله، والمصدقة بموعود الله، والممتثلة لأمر الله -سبحانه وتعالى- وإن كان الأمر فوق الاحتمال وعلى غير هوى النفوس! أسرة مكوَّنة من أب وأم وطفل صغير جاء على كبَر وبعد اشتياق، أما رب الأسرة فهو خليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام-، حامل الأوسمة الربانية السماوية؛ فأولها وسام: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)[النساء: 125]، وثانيها وسام: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً)[النحل: 120]، وثالثها وسام: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا)[النحل: 123]؛ فأُمر نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- باتباع ملته وطريقته، ورابعها وسام الأبوة لأمتنا كلها: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ)[الحج: 78]، "فإن قلت: لم يكن إبراهيم أبا للأمة كلها، فكيف سماه أبا في قوله: "ملة أبيكم إبراهيم"؟ قلت: إن كان الخطاب للعرب فهو أبو العرب قاطبة، وإن كان الخطاب لكل المسلمين فهو أبو المسلمين، والمعنى: وجوب احترامه وحفظ حقه يجب كما يجب احترام الأب"(تفسير الخازن).

 

ولكن لماذا نال إبراهيم رب الأسرة المباركة هذه المنزلة السامية السامقة الفريدة؟ والإجابة طويلة جد طويلة، لكن سنذكر منها جانبًا واحدًا يهمنا هنا: إنه تغلب على عواطفه البشرية كلها، فقد خالف طريق أبيه لما أصر على الكفر، وقدَّم مرضاة ربه على هوى والده.. وها هو الآن يتغلب على عاطفة الأبوة؛ فأخذ ولده -الذي طالما تمناه من ربه- بيدٍ، وبيده الأخرى سكين حاد، وخرج به بعيدًا عن البشر ليذبحه بيده مع شديد حبه له، وليريق دمه، ولو خُيِّر لفداه بنفسه وروحه ودمه، وما فعل ذلك إلا طاعة لربه الذي لم يُنزل عليه جبريل آمرًا، بل هي رؤيا رآها في المنام! و"رؤيا الأنبياء وحي".

 

واستل الوالد سكينا *** واستسلم ابنٌ لرداه

ألقاه برفق لجبين *** كي لا تتلقى عيناه

أرأيتم قلبًا أبويًا *** يتقبل أمرًا يأباه؟!

 

أما الأم فهي هاجر -عليها السلام- فهي التي رضيت أن تُترك وحدها مع ابنها الرضيع في الصحراء الجرداء التي لا زرع فيها ولا ماء، قال ابن عباس: "ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة، فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقًا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي، الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال نعم، قالت: إذن لا يضيعنا، ثم رجعت"(رواه البخاري).

 

وسنت لنا هاجر السعي بين الصفا والمروة، وكان من بركاتها بئر زمزم، الذي لو تركته لكان ماؤه ظاهرًا يجري، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يرحم الله أم إسماعيل، لولا أنها عجلت، لكان زمزم عينًا معينًا"(رواه البخاري).

 

وأما الولد فهو إسماعيل -عليه السلام- جد نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- الأكبر، إنه الابن البار الذي رضي أن يُذبح بالسكين؛ طاعة لأمر ربه، ثم برًا بوالده: (قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)[الصافات: 102]، فأمر إسماعيل ليس أقل عجبًا من أبيه.

 

أرأيتم ابنًا يتلقى *** أمرًا بالذبح ويرضاه؟!

 

وتتنزل الرحمة الإلهية؛ بكبش أقرن رعى في الجنة؛ ليذبح فداء لإسماعيل: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)[الصافات: 107]، ومن هنا سُنت الأضحية، وكان الفداء.

 

وتهز الكون ضراعات *** ودعاء يقبله الله

تتوسل للملك الأعلى *** أرض وسماء ومياه

ويقول الحق ورحمته *** سبقت بفضل عطاياه

صدقت الرؤيا لا تحزن *** يا إبراهيم فديناه

 

***

 

ويعود علينا هذا العيد في موجة من الغلاء وقلة الزاد قد حلت ببلاد الأرض، ومنها بلاد المسلمين! يعود إلينا هذا العيد وإخوان لنا في فلسطين بالقذائف والطائرات يُدكون ويُبادون! وإخوان لنا في اليمن تحت وطأة الجوع والعوز والفاقة يئنون! وإخوان لنا في شتى بقاع الأرض يُضطهدون ويُسجنون ويُضيق عليهم؛ لا لذنب اقترفوه إلا أن يقولوا: "ربنا الله"!... فعيدنا عيد التكافل والتضامن مع المسلمين أجمعين بالقلب والدعاء، ثم باللسان والتوعية بحالهم، ثم بالمال والعون والمساعدة، ثم بما استطعنا من شيء بعد ذلك، ولقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما آمن بي من بات شبعانا وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به"(رواه الطبراني في الكبير، وصححه الألباني). 

 

وإن من أعظم أعمال البر في يوم العيد: إدخال السرور على قلوب المسلمين المكروبين المضطرين وقضاء حوائجهم؛ فعن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد، يعني مسجد المدينة، شهرًا... ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى أثبتها له أثبت الله -عز وجل- قدمه على الصراط يوم تزل فيه الأقدام"(رواه الطبراني، وحسنه الألباني).

 

فبهذا التكافل يصير المسلم مسلمًا بصدق، ويصير العيد عيدًا بحق، تكتمل فرحة العيد إذا شارك فيها جميع المسلمين، ولم يبق فيهم محرومًا ولا مكروبًا.

 

وقد أصر خطباؤنا أن يقدِّموا التهنئة بعيد الأضحى المبارك إلى جموع المسلمين، وأن يُذكِّروهم بسنن العيد وآدابه، ويتمنوا لهم أن يعود عليهم العيد في كل عام باليُمن والخير والبشر والطمأنينة والأمان والتمكين.

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات