اقتباس
وإذا كانت الأمم قد اعتادت على تشريع الأعياد وتخصيصها للمناسبات الدينية والوطنية والاحتفاء والاحتفال بها، وجعلت مواسم الأعياد أيام فرح واحتفال مطلق الغرائز، لا يتقيد فيه المحتفلون بقيم سامية وأهداف نبيلة، بل جعلوا مواسم الإجازات والأعياد مواسم لإطلاق الغرائز وتوحش الشهوات وإشباع الرغبات من كل الطرق...
تميز الإسلام عن غيره من الرسالات السماوية والفلسفات الأرضية بخصائص سامية وغايات نبيلة، وأهداف طموحة، ومُثل وقيم عظيمة، فيتميز الإسلام في مقاصده وأعماله وأهدافه عن غيره من المناهج والنظريات، وحثَّ الإسلام على تفرُّد المسلمين وتميزهم عن غيرهم وأن يكونوا شامة بين الأمم متفردين بمزايا فاضلة، وأعمال عظمية. وإذا كانت الأمم قد اعتادت على تشريع الأعياد وتخصيصها للمناسبات الدينية والوطنية والاحتفاء والاحتفال بها، وجعلت مواسم الأعياد أيام فرح واحتفال مطلق الغرائز، لا يتقيد فيه المحتفلون بقيم سامية وأهداف نبيلة، بل جعلوا مواسم الإجازات والأعياد مواسم لإطلاق الغرائز وتوحش الشهوات وإشباع الرغبات من كل الطرق سواء منها المباحة أو المحرمة، فقد خالف الإسلام هذه النظرة الشهوانية للأعياد، وجعلها من العبادات.
إن للأعياد في الإسلام سمات وخصائص سامية، فقد ربط الله أفراح المؤمنين واحتفالاتهم بالطاعة والإنابة إليه، وجعل قبل يومي العيد؛ يوم الفطر ويوم الأضحى، مواسم للطاعة، يغفر الله فيها لعباده، ويقربهم إليه، ويرفع بطاعاتهم ذِكْرهم وأجرهم عنده.
فجاء عيد الفطر عقب فريضة الله في الصيام، فيصوم المسلمون شهر رمضان ويقومون لياليه، ويتصدقون بصدقة الفطر، ويعتمرون ويتصدقون، فتأتي فرحة العيد ملازمة لفرحة الطاعة. وكذا في عيد الأضحى ربط الله فرحة المسلمين واحتفالاتهم بأداء فريضة الله في الحج لمن يسره الله لهم، ومن لم يكتب له الحج، منَّ الله عليهم بموسم عشر ذي الحجة، وفيه من النفحات والطاعات، من صوم وذكر وتلاوة للقرآن وكثرة أعمال البر، ما يسليهم عن عدم مشاركتهم الحجيج. وكذا نتبين أن فلسفة العيد في الإسلام قائمة على الفرح بالطاعات والقرب من رب الأرض والسماوات، وصدق الله: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58]، وعدم الغرق في بحار الشهوات المحرمة.
ومن فلسفة الأعياد في الإسلام: نشر الفرح والسعادة والأمل والتفاؤل: فيباح الترفيه عن النفس والتوسعة على الأهل، فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَيْهَا وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَهَا يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحًى، وَعِنْدَهَا قَيْنَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاذَفَتْ الْأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثٍ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ مَرَّتَيْنِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ! إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَإِنَّ عِيدَنَا هَذَا الْيَوْمُ"(متفق عليه).
وعن عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُومُ عَلَى بَابِ حُجْرَتِي وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ بِالْحِرَابِ فِي الْمَسْجِدِ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَسْتُرُنِي بِثَوْبِهِ لأَنْظُرَ إِلَى لَعِبِهِمْ بَيْنَ أُذُنِهِ وَعَاتِقِهِ، ثُمَّ يَقُومُ مِنْ أَجْلِي حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّتِي أَنْصَرِفُ، فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ. وَقَالَتْ: كَانَ يَوْمُ عِيدٍ تَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ"(رواه البيهقي في الآداب، والبخاري محتصرًا). وكذا روي عن النبي –صلى الله عليه وسلم- التخفيف عن أصحابه في أيام الأعياد وإباحة الطيبات فرحًا بالعيد، فقال عن أيام التشريق: "إن هذه أيام أكل وشرب وبعال، فلا تصوموها" والبعال: الجماع.(أخرجه الطبراني (11587) قال الهيثمي (3/203) إسناده حسن. وضعفه الألباني).
ومن فلسفة العيد في الإسلام: التصافي والتسامح والتلاقي والتزاور، والتواصل والتكافل الاجتماعي، فينبغي للمسلمين أن يحرصوا على أخوتهم، ونشر ثقافة التسامح في المجتمع، وأولى الناس بالتسامح الأقارب، الأب والأم، والزوج والزوجة، والابن والابنة، والأخوال والأعمام، لا ينبغي لنا في أيام العيد أن نتقاطع ولا نتدابر، بل نتواصل، لذا كان من سنته –صلى الله عليه وسلم- يوم العيد مخالفة الطريق؛ ليرى المسلمون بعضهم بعضًا، ويفشوا السلام والتلاقي والمودة فيما بينهم، ليصبحوا جسدًا واحدًا.
وهناك عدد من المخالفات الشرعية لفلسفة العيد في الإسلام: كثرة التشاؤم والأحزان لما يحل بالأمة المسلمة اليوم من ابتلاءات صعبة وشديدة، وهذه الآلام وإن كانت تفتك بالإنسان، وتصيبه بأنواع الهموم والغموم والأحزان، إلا أن العيد وتجدد الأيام يدعو المسلم دائمًا إلى أن يظن بربه خيرًا، وأن الابتلاء المصبوب على المسلمين لحِكَم جليلة يعلمها الله، وأنه سبحانه يملي للكافرين، ويصطفي من عباده شهداء، ويبتلي الجميع في اختياراتهم ومواقفهم، فمع الحزن والرغبة إلى الله في أن يرفع الكروب ويزيل البلاء عن الأمة، إلا أن المسلمين يجب عليهم أن يظهروا عزتهم وقوتهم وعدم خضوعهم ولا يأسهم ولا استسلامهم لمؤامرات الأعداء. في هذا اليوم العظيم نتذكر كيف صبَّ البلاء على نبي الله إبراهيم وزوجه وابنه، وكيف أنهم صبروا على الابتلاء فمكن الله لهم وأعلى ذكرهم، وجعلهم للعالمين آية، فنتذكر سنة الأضاحي وسببها ونتائجها، فنذكر الثقة واليقين برب العالمين والتسليم لأمره وحكمه.
إن عيد الأضحى والحج فيه معاني كثيرة ودلالات عظيمة لمن تأملها، نسأل الله أن يفقهنا في ديننا وأن يرزقنا حج بيته الحرام فلا يعلم الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها، اللهم ارزقنا حج بيتك وارزق كل مشتاق، وارفع الكرب عن أمتنا، وكل عام أنتم بخير.
ولعل أول من يهنئ الناس بالعيد وأقدر من يستطيع -بما حباه الله- أن ينشر الفرحة والسعادة بالعيد في قلوب المسلمين هم فرسان المنابر من الخطباء المفوهين؛ فمن خلال كلماتهم يُذهب الله -تعالى- الحزن عن المحزونين ويُدخِل الفرحة والبهجة على السامعين...
لذا فقد جمعنا اليوم عددًا من خطبهم لعام 1437هـ التي يفتح الله بها القلوب ويُبْهِج بها الأرواح ويُعلِّم بها العقول، فجاءت على الصورة التالية:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم