متطوعون

عاصم محمد الخضيري

2022-10-04 - 1444/03/08
عناصر الخطبة
1/ التطوع مادة إنسانية أخلاقية 2/ النبي -عليه الصلاة والسلام- إمام المتطوعين 3/ معنى التطوع وفضله 4/ تعدد شعب التطوع 5/ عبد الرحمن السميط نموذج تطوعي فريد 6/ الفجوة بين التطوع في الغرب وفي بلاد الإسلام

اقتباس

التطوع، عمل نبيل، وفعل جليل، ذاك الذي يدعو صاحبه إلى الجنة، بالشيء القليل، متطوعون، مطوعون لأن التطوع خير الأعمال، وأبقى الأعمال، وأشرفُ الأعمال، متطوعون لأن الله تعالى يقول: (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)، متطوعون، لأن التطوع هو الفضيلة المنسية في هذا الزمان، يلهث الناس خلف كل شيء، فإذا دعا داعي التطوع أدبروا، والتطوع خير.

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله حمدًا طيبًا مباركًا عظيمًا كثيرًا يملأ السهل والوعر، حمدًا يقل مداد البحر عن كنهه حصرًا!! لك الحمد تعظيمًا لوجهك قائمًا، يخصك في السراء منا وفي الضرا، لك الحمد مقرونًا بشكرك دائمًا، لك الحمد في الأولى لك الحمد في الأخرى، أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، شهادة ندخرها ليوم لا مرد لنا من الله، ما لنا من ملجأ يومئذ وما لنا من نكير، وأشهد أن محمدًا بن عبد الله عبدك ورسولك، اللهم صلّ على النبي محمد ما سبحت رحمانها فوق السماء الأنجم، ما حام حول حمى حرامك مسلم، وصل اللهم على الآل والصحب ثم التابعين لهم، ما أومض البرق مجتازًا على الظلم.

 

أما بعد:

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً).

 

أما بعد:

 

تطوعَ يتطوعُ تطوعاً فهو متطوع، إنها ليست مادةً يذكرها ابنُ فارسَ في مقاييسه، بل مادة إنسانية، شرعية، أخلاقية، لن ترى هذه المادةَ مكتوبة إلا في معاجم العظماء النبلاء الفضلاء، وإني أعيذكم بالله وذريتَكم ألا تكونوا منهم، إنها وظيفة الأنبياء، ومهنة الصلحاء، ودأب الأتقياء الأنقياء، فمن تطوع خيرًا فهو خير له.

 

أسفٌ على أسفٍ ومثليَ يأسف، كلما كان الفرد المسلم منتسبًا إلى هذه المجتمعات الإسلامية، كان أبعد من هذه السُنَّة، وهذه الفضيلة الكبرى.

 

أيها المطوعون: منذ وعت الدنيا نورَ الهداية الكبرى في أحاديثِ محمد بن عبد الله كان الإنسان على موعد مع هذه الفضيلة العظمى.

 

هاهنا آيات إقرأ نزلت *** وأتى إعلانُ قدر المنبع

هاهنا شق الهدى أكمامه *** ونراه ممرعًا في ممرع

وأتت آيات ربي من علٍ *** إنها تثني على المُطوعِ

 

حين تنزل الوحي على محمد بن عبد الله في غار النور، أشرقت بعده الظلمات، تحدر محمد بن عبد الله من غار حراء بعد تجربة الخوف الأولى، مما رأى وسمع، سمع الذي لا كلُّه كان قادرًا عليه ولا عن بعضه كان صابرًا.

 

سمع البشيرَ يقول إقرأ فانثنت *** آفاقُ كل الكون في الترديد

 

أيها المطوعون: نزل رسول الهدى -عليه الصلاة والسلام- من غار حراء، مهرولاً إلى السكن الأول، سكن خديجة، سكنِ

 

ابنة الأمجاد فاح وفاؤها *** مسكًا تضوع فيه كل وفاء

 

دخل على خديجة، وحداؤه: أن زملوني زملوني، فزملته: ثم استبانت خوفه -عليه الصلاة والسلام-، ففزعت فزعًا شديدًا حين قال لها: "والله يا خديجة لقد خفت على نفسي"، فانتفضت قائلة: "والله لا يخزيك الله أبدًا".

 

هيهات أن تخزى ووجهك أبيض *** قد بيضتـه فعائلٌ وجمائلُ

هيهات أن تخـزى وأنت محمدٌ *** وفعـالُك الجلى بهن تقاتلُ

هيهات أن تخزى وخيرك لم يزل *** شهدت عليه سنابل وسنابل

 

والله لا يخزيك الله..

 

لمَ يخزيك وأنت أنت! *** تصل القريب وتكسب المعدومَ

لمَ يخزيك وأنت أنت! *** تُقْري الضُّيوف وتمنح المحروم

 

والله إنك لتصل الرحم وتحمل الكل، وتكسِب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.

 

يدشن محمدُ بنُ عبد الله رحلة التطوع، بشهادة خير النساء المؤمنات الكمَّلِ!!

 

إنه زعيم المُطَّوعين، المتطوعين، فما التطوع؟! إما قيل عنه وما خيرُ التطوع عند الله والناسِ؟!

 

إن عرَّفوك جهالة يا صاحبي *** قل كنت من قوم مضوا مطوعينَ!!

 

التطوع، عمل نبيل، وفعل جليل، ذاك الذي يدعو صاحبه إلى الجنة، بالشيء القليل، متطوعون، مطوعون لأن التطوع خير الأعمال، وأبقى الأعمال، وأشرفُ الأعمال، متطوعون لأن الله تعالى يقول: (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)، متطوعون، لأن التطوع هو الفضيلة المنسية في هذا الزمان، يلهث الناس خلف كل شيء، فإذا دعا داعي التطوع أدبروا، والتطوع خير.

 

بعث الله محمد بن عبد الله ليتمم صالح الأخلاق التي كانت في الجاهلية، يسلم حكيم بن حزام -رضي الله عنه- سنة ثمان من الهجرة النبوية، ثم يجلس إلى رسول الله -عليه الصلاة والسلام- ليقص عليه سابقة أعماله؛ يقول: يا رسول الله: أرأيت أمورًا كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقةٍ، أو عتاقةٍ، أو صِلَة رحِمٍ، ألي فيها من أجر؟! فيقول رسول الله: "أسلَمتَ على ما سلف من خيرٍ".

 

هذا الدين جاء ليدفع العربة التي دفعها السابقون الأولون لمكملات الأخلاق، ومن أجلِّ تلك المكرمات، هو عمل الخير في جميع وجوهه، متطوعون.

 

بأفعال الصلاح وكلِّ فعل *** رضيِّ عند رحمن رحيم

 

متطوعون، لأن التطوع يدفع بنا إلى الحياة الآخرة، قبل أن يدفعنا الثناء الحسن عند الناس، متطوعون، لنحييَ هذه السنةَ التي سبق بها أولونا، وتأخر آخرونا، متطوعون، لأننا نعلم علم اليقين، أن هذه الدنيا ليس لأتعابها آخر، ولا لأوصابها قبر وسيع، متطوعون، فالدنيا، لن تكون آخرَ همنا، ومنتهى آمالنا، وكلَّ طموحاتنا، متطوعون.

 

عابرون في هذه الدنيا، ولن تكون أعمالنا ووظائفنا، حائلة بيننا وبين التصدق بشيء من أعمارنا، رجاء ما عند الله، عابرون في هذه الدنيا، ولن تكون وظائفنا الرسمية عائقًا رسميًا عن عمل الخير!! سنحيي هذه الشعيرة العظيمة.

 

أوَكلُّ شيء يكون له مقابلٌ من متاعٍ دنيوي؟! لم لا يكون مقابلُ أعمالنا بما في السماء ومن في السماء يوفِّي الأجور، لم لا يكون مقابلُ أعمالنا وتطوعنا هو رجاءُ ما عند الله!! قتلتنا الحسابات المادية!! واحتستنا الحسابات الدنيوية، أوَكل بيع يكون يدًا بيد، ادخر لك عند الله بيع نسيئة، افعل الخير إنْ جزاه الورى عنه وإلا فالله بالخير جاز!! تطوع خيرًا، فإنك لا تدري أيَّ عمل يدخلك الجنة!! ويباعدك عن النار!!

 

يسألونك عن جدوى هذا الكلام، وأحب أن تخبرهم أن جدواه عندما يعرفون ما يُخبأ لهم عند الله.

 

يمشي رجل فيمن كان قبلهم، فتعترضه شجرة في الطريق، فيحني رأسَه لها ثم يتطوع فيجرها عن سبيل الناس، خشية أذاهم، ثم أين الجزاء؟! إنه يتقلب الآن في الجنة خالدًا مخلدًا أبدًا.

 

عمل قليل في مقابل جنة *** بيع ربيحٌ يا أولي الألباب

 

"لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين".

 

متطوعون، لأن أصحاب هذه الخُلَّة السخية:

 

رجالٌ ولكن كالسنابل في عطاء *** يرون وكالشموس منورينَ

 

متطوعون، لأن أصحاب هذه الخلة السخية قوم عرفوا ما عند الله، ولم يجهلوا ما عند الناس، فلم يقبلوا أن تكون كلُّ جزاءاتهم عاجلة، بل اشتروا بها يومًا؛ اليوم عند ربك فيه كألف سنة مما يعدون.

 

متطوعون، لأن المطوع الأول -عليه الصلاة والسلام- كانت الجارية السوداء تأخذه بيده وتقوده في أزقة المدينة، لا يكلمها، ولا يسألها أين تذهبين:

 

ينادي بمعروفه السائرين *** ويبذل قلبًا لكي يعبرون

ولا يسألُ الناس أشياءهم *** وماذا لديهم وما يأخذون

 

كان المطَّوعُ الأولُ هو القائل: "والله لأن أمشي في حاجة أخي حتى أثبتَها له أحبُّ إلي من أن أعتكف في المسجد شهرًا".

 

متطوعون لأن المطوع الأول هو القائل في المتفق عليه: "من مشى في حاجة أخيه كان خيراً له من اعتكاف عشر سنوات".

 

متطوعون لأن التطوع هو شعبة من شعب الجهاد، وأن الجهاد شعبة من شعب التطوع، يقول رسول الهدى -عليه الصلاة والسلام-: "الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله، وكالقائم الليل وكالصائم النهار". متفق عليه.

 

فأين الرافعون اللواء، يهرقون الدماء!! إن التطوع حِسبةٌ وجهاد!!

 

متطوعون؛ لأن عمل الخير لا يبلى أثره، ولا يفنى ذكره، كان رؤوس الكفر في زمن محمد بن عبد الله وفي هذا الزمن إنما تُوفَّى أجورهم بالذكر الحسن، كانوا لا يبتغون إلا الذكر السائر، والثناء العابر، ومع ذا فقد دفعوا لهذه المكرمة أجل أموالهم، كانوا يتمثلون:

 

ومن فعل الخير مستخفيًا *** أشاعت مساعيه ما لم يُشِع

 

كان حاتمُ الطائي في الجاهلية يوقد النيران في الليلة الليلاء الشاتية الباردة، ثم يقول لخادمه:

 

أوقد فإن الليل ليلٌ قر

والريح يا موقد ريح صِرُّ

عسى يرى نارك من يمر

إن جلبت ضيفًا فأنت حر

 

ما كان يبتغي؟! وفيم يبتغي؟! كانت تلومه امرأته على إسرافه وتعبه ونصبه في سبيل الجود دون مقابلٍ، لكنه كان يعلمها أيَّ شيءٍ ذلك المقابل!! كان يقول لها:

 

أماوي إن المال غاد ورائح *** ويبقى من المال الأحاديث والذكر

 

كانوا يبتغون الخلود، بمدح وجود، كيف لو علموا ما عند الغفور الودود؟!

 

أواه لو علموا جزاء كريمة *** تبقى من الله الكريم المكرِم

 

ولنْ تَلقى، كفِعلِ الخَيرِ، فعلاً، ولا مثلَ المَثوبَةِ ربحَ عمر!!

 

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد:

 

كان الحديث عن هذه الفضيلة العظيمة لأنها من شعب العظماء، وشيم الكرماء، لم يذكر الله -عز وجل- في كتابه الكريم أنه أوحى لأنبيائه غير الصحف المكتوبة إلا وحيَ فعل الخيرات: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ)، ما ضر أحدَنا أن يقتطع شعبة من عمره، ليهديها لله، وفي ذات الله! في أي عمل يرضي الله.

 

شُعب التطوع كثيرة وأجلّها ما وجد المرء فيه نفسَه، واطمأن إليه همه، كان -عليه الصلاة والسلام- يعرف تطوع خالد بن الوليد -رضي الله عنه-، فيثني عليه بما هو أهله، وكان يعرف تطوع أبي بكر -رضي الله عنه-، فيثني عليه بما هو أهله، وكان يعرف تطوع عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه-، فيثني عليه بما هو أهله، وكان يعرف تطوع حسانِ بن ثابت فيثني عليه بما هو أهله، وكان يعرف تطوع أبي هريرة، وابنِ عباس وابنِ عمر:

 

فيزجي الثناء ويسدي الوسام *** وما نسي الفضل للفاضل

 

التطوع شُعب شتى، فعبادة عبد الله بن عمرو بن العاص ليست لخالد، وجهاد خالد ليس لعبد الله، وشعر حسان ليس لابن عباس، وعلم ابن عباس ليس لحسان!!

 

فانصب إلى الخير أياًّ كان منبعه *** تبلغ به شأوك السامي على القمم

 

الأجلُّ من كل هذا الكلام: أنه لا يفقدك الله والناسُ في عمل الخير في أي عمل، وأي مجال، فالجمعيات الخيرية مفتوحة، والمكاتب الدعوية مفتوحة، والميدان التطوعي مفتوح، وإن لم تجد بغيتك، فاصنع ميدانًا تجود به تطوعًا، وادفع له الناسَ دفعًا، فهم عطشى إلى الإحسان.

 

متطوعون بعباداتنا، فالمسلم لا يقتصر في عبادته على الفرائض والواجبات، بل يزيد عليها التطوعَ بالنوافل والسنن والقربات، متطوعون بأعمالنا وحِرفنا، رحم الله امرأً تعلم صنعة، فجعل منها مقصدًا خيريًا، ينفع به عباد الله، فأحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، اجعل من مهنتك مهنة تَفِيض عليك بالأجر العظيم، واقتطع للفقراء منها ذخرًا يبقى.

 

متطوعون بأبداننا، يكبر في عينيك رجل يقتطع من عمره عمرًا يجعله لله، لا يمسه أحد، ينْصِبُ بدنَه في مجْمع خيري، أو ثغر دعوي، أو وجه خيرٍ حقيقي.

 

يكبر في عينيك رجلٌ ينصِب بدنه للعيش مع الأيتام والجوعى وأهل المسكنة، أو الإنفاق عليهم، لا يبتغي جزاءً ولا شكورًا، يل يخاف بهم يومًا عبوسًا قمطريرًا، يكبر في عينيك رجل، حياته كلُّها لله، كَتَبَ مَبْلَغًا مفتوحًا لله، وباسم الله، إذًا يُكثر، فالله أكثر.

 

ستون سنة أو سبعون؟! لنجعلَها تطوعًا، ستون سنة أو سبعون؟! سمعت بنا امرأة من بني إسرائيل فتمنت عيش زماننا، لتجعلَه كلَّه لله، تقول: لما سَمعَتْ بنا، والله لو أدركت زمانهم لأنفقته في سجدة واحدة.

 

متطوعون، يكبر في عينيك رجل لا يعرف الراحة على أنها راحة، بل يعرفها على أنها جسر من التعب! الراحة الكبرى هي التي قالها أحد الشعراء لأحد المجاهدين الأولين عندما فتح عمورية:

 

بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها *** تنال إلا على جسر من التعب

 

يصيح أحد السلف الأوائل في داره خشية من الله، فتعتب عليه والدته لتقول له: أقصر يا بني وارحم نفسك، ولا تتعبها، فيقول: يا أمتاه: راحتها أريد، راحتها أريد!! وحاله:

 

تعب في سبيل حب شريف *** هو أسمى من راحة العذال

 

إنه التطوع الذي يقلب المفاهيم، فيجعل الراحة تعبًا، والتعب راحة، والعذاب عذبًا والعذب عذابًا.

 

ما الذي يجعل رجل إفريقيا الأول عبد الرحمن السميط، يجلس في إفريقيا من كل سنة عشرةَ أشهر، وفي بلدته شهران فحسب، إلا لأنه كان رجلاً من زمن آخر، فسمع بنا: فقال: لو كنت في زمانهم لجعلتُه كلَّه لله!! فجعله لله.

 

رجل سعى لله سعي مثابر *** فأناله الرحمن عمر الخالدين

 

المتطوعون لله يرون الدنيا على أنها حفلة كبرى من السعادة والهناء!! فكيف وهم يتذكرون الآخرة.

 

يحدث عبد الرحمن السميط زوجتَه ذات ليلة، وهما في قاع الأدغال الإفريقية مسكونةٌ بالظلام، والخوف قد جاور المكان، ولا اكتفاء من زاد ولا مؤونة ولا نفقة، يقول: قد جرى حديث بيني وبينها، هل الجنة في الآخرة تسكنها السعادة كما نتمتع بها الآن؟! لم هذا السؤال؟!

 

يستنشقـون نعيمـهم بعذابهم *** طـوبى لنعـمى شمت الأتعابا

هم كالسحابة حين تعطي زادها *** من غير أخذ هل رأيت سحابًا

 

متطوعون بأبداننا ودعوتنا وأخلاقنا:

 

كالواعظ النحرير عند وداعه *** ساخت قلوب الناس في الحسرات

***

عرف الذي يفنى فنال به الذي *** يبقى له، طوباه يا طوباه

 

كنا نكْذب على أنفسنا أن اليد الواحدة لا تصفق، وأن الجناح الواحد لا يخفق، بل تصفق ويخفق:

 

هذا الحميد سرت لنا آياته *** فردٌ يقارع أجسر العلماء

 

كان يستطيع أن يروحَ روحاته في الساعة السابعة، ويغدوَ في الساعة الواحدة، ثم يأكل ثم ينام، ثم يخرج لمزرعته، ويجيبَ داعي الأصدقاء، ويوزعَ الحلوى على نفسه وعليهم، ثم ينام ثم يستيقظ على وقع الساعة السابعة، كان يعرف حياة الحيوان، لكنه كان لا يعيشها:

 

ومن لم يعش والجد ملء جنابه *** فلا جرم هذي غاية الحيوان

 

كان يستطيع كالكثير أن يتحجج ويقول:

 

وما أنا صانع والناس ألفٌ *** وفي يمناي زاغ بها الحسام

 

ولكنه استطاع أن يكسر هذا المفهوم ويقول:

 

إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني *** عنيت فلم أكسل ولم أتبلد

 

كان يقول للجموع التي تشيعه:

 

ليس على الله بمستنكر *** أن يجمع العالم في واحد

 

فترد الجموع من خلفه: صدقناك صدقناك:

 

يا أخا البدر سناء وسناً *** رحم الله زمانًا أطلعك

 

كان سيموت وقد علمناه، لأن عمر الباذلين قصارُ.

 

كان يستطيع كالكثير أن يتحجج ويقول: لا زاد لي من علم، أجلس في بيتي أحب إليّ، ولكنه علم قول حبيبه -عليه الصلاة والسلام-: "بلغوا عني ولو آية".

 

فبلغ آية الرحمن حتى *** حفظنا الطهر من ثغر طهور

 

متطوع بفعاله متطوع *** بمقاله والله يخلفه الرضا

 

كان يستطيع أن يتحجج كهذه الأمم من الناس بما استطاع، ولا من عاتب، كان يستطيع أن يعتذر بفساد الزمان وأهل الزمان وأهل المكان، ولكنه كان من قوم يقول أحدهم لقدمه: "قومي فوالله لأزحفن بك إلى الله زحفًا، حتى يكون الكلل منك لا مني، أيظن أصحاب محمد أن يستأثروا به دوننا، والله لنزاحمنهم إليه زحامًا حتى يعلموا أنهم خلفوا وراءهم رجالاً".

 

هم الرجال وعيب أن يقال لمن *** ما كان في شأنهم يومًا له رجل

 

متطوعون بأموالنا، لا يود المرء في بعض أحواله أن يذكر سيرًا غريبة، سيرًا عليَّة، سيرًا تخوفه من واقعه، يود المرء في بعض أحيانه ألا يذكر لنفسه ولا للناس سيرة رجل تصدق وتطوع بجميع ماله في غزاة تبوك، ورجلاً تصدق بنصف ماله حينها، ولكن ما حيلة من لا يود أن يعرف أن رجلاً من بني زماننا تصدق بكل ماله، حتى إنه سئل في أحد الأيام: كم أوقفت من مالك، رد عليهم: لا تسألوني عن ذلك، فإني أوقفت نفسي مع أموالي لله رب العالمين.

 

يكبر في عينيك رجل يذكر الله والدار الآخرة، ولا يمنعه أن يذكر نصيبه من الدنيا، يكبر في عينيك رجل تعيش معه ثقافة التطوع، فهي يتنفسها وتتنفسه.

 

هذه الثقافة التي تعيش أجيالنا فقرًا بها وبمعرفتها، يؤسفك أن العالم الجاهلي في هذا القرن، يدمن هذه الثقافة، ويشيعها، ويمشرعها، حتى تزيغَ عيناك من حجم الأرقام، في حين أن هذه الأمة تبني ثقافتها على العشوائية والاتكالية، والارتجالية، وهي التي كرعت التطوع من إناء رفيع.

 

نزل على هذه الأمة قول الله: فمن تطوع خيرًا فهو خير له، لنجد أن في بريطانيا وحدها أكثر من اثنين وعشرين مليونًا يشاركون بالتطوع وبشكل رسمي.

 

ينزل على هذه الأمة المحمدية قولُه تعالى: (افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، لنجد أنه في الولايات المتحدة وحدها، تسعون مليونَ متطوع في جميع الأعمال الدينية والإغاثية والإنسانية والحرفية بواقع خمس ساعاتٍ في الأسبوع في التطوع في جميع الاختصاصات!! بل يبلغ عدد المنظمات غير الربحية في الولايات وحدها مليون منظمة ونصف المليون!! وأن معدل الساعات التطوعية في بريطانيا تصل إلى تسعين مليون ساعةِ عمل تقريبًا.

 

ينزل على هذه الأمة: سارعوا وسابقوا واستبقوا الخيرات، واعملوا الخير، ومن تطوع خيرًا فإن الله شاكر عليم، لنجد أن الكتاب الذي آمنا به وكفروا به قد آمنوا بما فيه، ونبذناه كما نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون!!

 

تطوعوا يرحمكم الله.

 

اللهم صل وسلم على خير المطوعين، نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن صحابته أجمعين.

 

 

 

المرفقات
إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات