عناصر الخطبة
1/الوالدان والأبناء بين العطاء والمكافأة 2/مكافأة الوالدين بعد المماتاقتباس
انتبِهوا مع الصورةِ الثانيةِ التي هي المكافأَةُ من أغلبِ الأولادِ للأسف الشديد! الوَلَدُ الذي كان صغيرًا ضعيفًا محتاجًا كَبُرَ الآنَ وصارَ قويًّا.. ها هو اليومَ مستغنٍ بزوجَتِه وأولادِه، يشتاقُ...
الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
أما بعد:
معشر المؤمنين: لنا اليومَ وقفةُ محاسبةٍ، نقارِنُ فيها بين مشاعِرِ وسلوكِ الوالِدَين الكريمين مع أولادِهِما في فترة الرِّعايةِ والضَّعف، وبين المكافأَةِ التي يجدونَها من الأبناءِ على مستوى المشاعِرِ والسلوكِ عندَما يتقوَّى الأولادُ ويصلونَ برَّ الأمان، نطرحُ هذه المقابلةَ التي أشارَ إليها ربّ العزّةِ -سبحانه- في قوله جلّ في عُلاه: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِير) [لقمان: 14]، وفي قوله -سبحانه-: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) [الإسراء: 24].
انظُر كيفَ قابل ربّ العزّة -سبحانه- بين وضعِ والدِيكَ وأنتَ صغيرٌ في كنَفِ قوّتِهما وسعيِهِما وتربِيَتِهِمَا، وبين المطلوبِ منكَ حقًّا إذا دارت الحياةُ دورَتَها فصِرتَ أنتَ القوي.
نعقدُ هذه المقارنَةَ -معشر المؤمنين- لندرِكَ الفرقَ الهائِلِ بين إخلاصِ الوالِدَين وخيانةِ أغلبِ الأبناءِ للأسفِ الشديد، عسَى أن تحملَنا المقارَنةُ على تصحيحِ النيّات وتحسينِ الأعمال قبل فواتِ الأوان:
أيها الإخوةُ في الله: انتبِهُوا مع الصورةِ الأولى:
الوالِدَانِ الكريمانِ يسعَيانِ سعيًا حثيثًا لإنجابِك، يطيرَانِ فرحًا لعُلوقِكَ في الرَّحِم، تحمِلُكَ الأُمُّ في بطنِها وهنًا على وَهْنٍ وهي سعيدَةٌ راضِيَة، يشتري لكَ الوالدانِ ثيابَكَ وسَرِيرَكَ قبل خروجِكَ إلى الحياة، فإذا ما خَرَجْتَ هشَّ لكَ الوالدُ وبَش، فإذا بهِ يدفَعُ شَبَابَهُ ثمنًا لشبابك، ووقتهُ ثمنًا لوقتك، ودموعَهُ ثمنًا لابتسامَتك، بل وكرامتَهُ ثمنًا لكرامتك ونجاحاتك..!
وهاهنا تدورُ الحياةُ دورتَها للامتحان. بعد مشوارٍ من العطاءِ والسّعي والبذل بدون مقابل، يصيرُ الوالدُ كبيرَ السّنِّ ضعيفَ البدنِ والسمعِ ورُبَّما بطيءَ الفهمِ بالنّسبةِ إليك، وتصيرُ أنتَ شابًّا قويَّ البدنِ والسمعِ والبصرِ حادَّ الفهمِ صاحِبَ مال؛ فكيفَ يا تُرَى حالُ الصورةِ الثانيةِ التي نقارنُ بها الصُّورةَ الأولى؟!.
انتبِهوا مع الصورةِ الثانيةِ التي هي المكافأَةُ من أغلبِ الأولادِ للأسف الشديد! الوَلَدُ الذي كان صغيرًا ضعيفًا محتاجًا كَبُرَ الآنَ وصارَ قويًّا.. ها هو اليومَ مستغنٍ بزوجَتِه وأولادِه، يشتاقُ لزوجَتِه وولَدِهِ ولا يشتاقُ لأبيهِ وأمّه، يدخُلُ بالكيسِ على زوجَتِهِ ولا يدخُلُ به على أمّه، يُهدِي زوجَتَهُ الصغيرَةَ الجميلةَ ساعيًا في رضَاها بكلّ سبيل؛ فهي تفهمُ الهديَّةَ وتقدِّرُها، أمَّا الأمُّ الكبيرةُ المسكينةُ فلا داعيَ لإهدائِها؛ فهي لا تحتاجُ الهديَّةَ ولا تفهمُها.. والعياذُ بالله!.
إن مَرِضَ ولَدُهُ ضَحَّى بمالِهِ ووقتِهِ ونومِهِ وراحتِهِ ليشفَى ويجدَ العافية، أمَّا الوالدان الكريمان فلا يسألُ عنهما، وإن مرِضَا ألقَى إليهما ببعضِ الدَّراهِمِ على كُره ومشقّة!.
تطلبُ منهُ الزوجةُ والأولادُ فيأتي بالمطلوبِ بأسرعِ وقتٍ، وألطفِ عبارَة، وتطلبُ منه الأمُّ القليلَ اليسيرَ وتقدِّمُ عشرَ مقدِّماتٍ قبل الطلب.. فإذا بطلبِها البسيطِ ثقيلٌ كأنَّهُ جَبَل، ولا يُجَابُ إلاَّ بجُرحِ الكرامَة!
ولا تَسَل مع هذا -معشر المؤمنين- عن رفع الصّوتِ، وردّ الكلام، وجَرح الكرامَة، والترفُّعِ على الوالدين والإساءَة إليهما بالقول أو العمل؛ فما أشدَّ الفرقَ بينَ الصورةِ الأولى والصورةِ الثانية، صورةٍ عامرةٍ بالنُّصحِ والصدقِ والإخلاصِ والوفاء وأخرى عامرةٍ بالغِشِّ والإساءَةِ والخيانَةِ ونسيانِ الجميل والعياذ بالله!.
نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
معشر المؤمنين: إذا كان هذا حالُ المكافَأَةِ في الحياة؛ فكيف بحالِها بعد وفاةِ الوالدين وفراقِهِما الولَد؟! واللهِ من أشدّ المظاهر طعنًا في إحسان الوالدين ونسيانًا لجميلِهِما نسيانُ الوالدين بعد الوفاة. قد يُتصوّرُ نسيانُ الأصحاب والأحباب -على شناعة هذا الفعل عند الأوفياء-، ولكن كيفَ يُقبلُ في الميزانِ نسيانُ من دفعَ شبابهُ ثمنًا لشبابنا، ووقتَهُ ثمنًا لوقتنا، ودموعَهُ ثمنًا لابتسامَتنا، وعَرَقَهُ ثمنًا لرجولتِنَا؟!. هل يُعقلُ في ميزان الأوفياء أن يُنسى بعد موته في ليلة أو بعض ليلة؛ فلا أحدَ يزورُ قبرَهُ، ولا أحد يدعُو لهُ بالرحمة والغفران، ولا أحد من أولاده يتصدَّقُ عليه..؟! هذا والله عينُ الخيانة والهجر..!
إنَّ اللهَ تعالى لم يطلُب منَّا أن نخرُجَ من الجنَّة وندخُلَ النَّار، ليدخُلَ والِدانَا الجنَّة!؛ بل جعلنا امتدادًا لوالِدِينَا، يمكنُ أن نصُبَّ مباشرةً في ميزان حسناتهما بعد وفاتهما، كما قال صلى الله عليه وسلم: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعوا له”(رواه مسلم)، وبإمكانك إن كنتَ من الموفَّقين أن تَرفعَ درجاتِهِما عندَ اللهِ بسعيِكَ لهما بعد وفاتِهِما؛ فكيف تفرّطُ في هذا وأنت تُحبُّ هذا وتتمنَّاهُ لنفسك..؟! قال صلى الله عليه وسلم: “ترفع للميت بعد موته درجته، فيقول: أي ربي أي شيء هذا؟ فيقول له: ولدك استغفر لك”(رواه ابن ماجه).
نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم