ما أعظمها من كلمة ولكن!

شايع بن محمد الغبيشي

2024-02-09 - 1445/07/28 2024-02-20 - 1445/08/10
عناصر الخطبة
1/"الله غفور رحيم" عبارة يضعها كثيرون في غير موضعها 2/لابد مع الذنوب من الخوف من الله 3/لنيل رحمة الله أسباب يجب تحقيقها

اقتباس

يترك الصلاة ويضيعها، وإذا دعوته إلى المحافظة عليها قال: الله غفور رحيم، يظلم الناس ويعتدي عليهم، ويسلي نفسه ويرد على من نصحه فيقول: الله غفور رحيم، يأكل المال الحرام ويتاجر بالربا ويقول: الله غفور رحيم...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الْحَمْدَ لِلَّهِ رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وخاتم المرسلين، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

 

عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله قال -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

 

إخوة الإيمان: يقول -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[البقرة: 173]، "الله غفور رحيم" كم رددتها الألسن، وكم تفوه بها كثير من الناس، نعم، الله غفور رحيم، فقد ورد وصف الرب -جل وعلا- بذلك في ست وخمسين آية، ما أعظمها من كلمة ولكن!؛ ولكن الكثير يستدل بها في غير موضعها، يترك الصلاة ويضيعها، وإذا دعوته إلى المحافظة عليها قال: الله غفور رحيم، يظلم الناس ويعتدي عليهم، ويسلي نفسه ويرد على من نصحه فيقول: الله غفور رحيم، يأكل المال الحرام ويتاجر بالربا ويقول: الله غفور رحيم، يبارز الله بالعصيان ولا يتورع عن الذنوب والمعاصي وهو يتمتم: الله غفور رحيم، يعق والديه ويقطع رحمه ويؤذي جيرانه، وكلما عوتب في ذلك ردد: الله غفور رحيم.

 

عباد الله: ما أعظمها من كلمة، ولكن لنا مع هذه الكلمة العظيمة وقفات:

أولاً: نعم "الله غفور رحيم" وقد تتابعت آيات القرآن الكريم على هذا المعنى، ولكنها هنا في غير موضعها؛ فالاحتجاج برحمة الله ومغفرته مع الإقامة على المعاصي نوع من الجهل، فالأصل أن الذي يقع في الذنب أو الخطأ يخاف من العقوبة، فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أنه معصوم من الذنوب، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ها هو في ثلاث آيات من كتاب الله يقول: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)[الأنعام: 15]، وهذا إبراهيم -عليه السلام- يقول: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)[الشعراء: 82].

 

فالذي يصر على الذنب ويقول: "الله غفور رحيم" كأنما يستخف بالله -جل وعلا-، فالطفل إذا أخطا بفطرته يخاف من عقوبة والديه، والطالب إذا أخطأ خاف من عقاب المعلم، وقائد السيارة إذا قطع الإشارة خاف من ساهر وما يترتب على ذلك من العقوبات؛ فمن إجلال الله -جل وعلا- وتعظيمه -سبحانه- الخشية منه، والخوف من عقابه؛ ولذلك صفوة خلق الله يخافونه ويخشونه -جل وعلا- ها هو -صلى الله عليه وسلم- يقسم في أكثر من موضع فيقول: "أَمَا -وَاللَّهِ- إِنِّي ‌لَأَخْشَاكمْ لِلهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ"(رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّهُمْ ‌لَهُ ‌خَشْيَةً"(رواه البخاري)، وفي صحيح ابن حبان قال -صلى الله عليه وسلم-: "فَوَاللَّهِ إِنِّي ‌لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَحْفَظُكُمْ لحدوده".

 

ثانياً: "الله غفور رحيم" ولكن لمن؟ تأملوا معي هذه الآيات: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ)[الأعراف: 156]، وقال -سبحانه-: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[الأعراف: 56]، وقول -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[البقرة: 218]، وقوله -سبحانه-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[آل عمران: 31]، وقوله -جل وعلا-: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[المائدة: 39]، فقد جعل الله -عز وجل- أسباباً تنال بها رحمته، من عملها أفاض الله عليه من رحمته ومغفرته وفتح له منها ما يسعده في الدنيا والآخرة.

 

ثالثاً: كما أن الله غفور رحيم فإنه -سبحانه- شديد العقاب، قال -تعالى-: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ)[الحجر: 49، 50]، وقال -سبحانه-: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[المائدة: 98]، وقال -عز وجل-: (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[البقرة: 211]، وقال المولى عن نفسه: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)[غافر: 3].

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:

 

عباد الله: ومن الوقفات:

رابعاً: علينا أن نحسن الظن بالله -عز وجل-، ونعظم الطمع في الفوز برحمته ومغفرته، ولكن مع بذل الأسباب وحسن العمل، فحسن الظن بالله من طاعات القلوب وأعمالها المحمودة، إلا أنه لا ينفصل عن حسن العمل بحال من الأحوال، قال ابن القيم -رحمه الله-: " وَكَثِيرٌ مِنَ الْجُهَّالِ اعْتَمَدُوا عَلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَعَفْوِهِ وَكَرَمِهِ، وَضَيَّعُوا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَنَسُوا أَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ، وَأَنَّهُ لَا يُرَدُّ بِأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، وَمَنِ اعْتَمَدَ عَلَى الْعَفْوِ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الذَّنْبِ فَهُوَ كَالْمُعَانِدِ، قَالَ مَعْرُوفٌ: رَجَاؤُكَ لِرَحْمَةِ مَنْ لَا تُطِيعُهُ مِنَ الْخِذْلَانِ وَالْحُمْقِ، وكان الحسن البصري -رحمه الله- يقول: وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ قَوْمًا أَلْهَتْهُمْ أَمَانِيُّ الْمَغْفِرَةِ حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا بِغَيْرِ تَوْبَةٍ، يَقُولُ أَحَدُهُمْ: لِأَنِّي أُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّي، وَكَذَبَ، لَوْ أَحْسَنَ الظَّنَّ لَأَحْسَنَ الْعَمَلَ".

 

قال يحي بن معاذ -رحمه الله-: "من أعظم الاغترار عندي: التمادي في الذنوب مع رجاء العفو من غير ندامة، وتوقع القرب من الله -تعالى- بغير طاعة، وانتظار زرع الجنة ببذر النار، وطلب دار المطيعين بالمعاصي، وانتظار الجزاء بغير عمل، والتمني على الله -عز وجل- مع الإفراط، ومن أحب الجنة انقطع عن الشهوات، ومن خاف النار انصرف عن السيئات".

 

خامساً: أن نحرص على الأعمال التي يستجلب بها العبد رحمة الله ومغفرته، وهي كثيرة جداً ومنها:

التوبة إلى الله -عز وجل-، قال -تعالى-: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى)[طه: 82].

 

ومنها: الصبر طاعة الله ومجاهدة النفس عليها، قال -تعالى-: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)[النحل: 110].

 

ومنها: متابعة النبي -صلى الله عليه وسلم- والتأسي به، قال -تعالى-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[آل عمران: 31].

 

ومنها: الإحسان والبعد عن الفساد والإفساد، قال -تعالى-: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[الأعراف: 56].

 

ومنها: الدعاء، فهذا نبي الله موسى -عليه السلام- يطلب مغفرة ربه فيفوز بها، قال -تعالى-: (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[القصص: 16].

 

ومنها: تقوى الله -عز وجل-، قال -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الحديد: 28].

 

اللهم اغفر لنا وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم افتح علينا أبواب رحمتك، اللهم افتح لنا من رحمتك، اللهم أدخلنا في رحمتك يا حي يا قيوم.

 

المرفقات

ما أعظمها من كلمة ولكن!.doc

ما أعظمها من كلمة ولكن!.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات