عناصر الخطبة
1/من فضائل ليلة القدر وبركاتها 2/عِظَمُ خسارةِ مضيِّعي ليلة القدر 3/الهديُ النبويُّ في ليلة القدر 4/وجوب التشمير وتحرِّي ليلة القدر 5/ما ينبغي فعله في ليلة القدراقتباس
فما أعظمَها من خسارة أن تمر هذه الليلة مضيَّعة مهملة مفرَّطا بما فيها من خير أو بركة! ما أعظمها من خسارة أن تمر هذه الليلة على المسلم ولا شأنَ لها عنده ولا مكانة لها في قلبه فيُحرم من خيرها وبركتها! ما أعظمها من خسارة أن تمر هذه الليلة والمرء...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: لنكن على يقين من أن الله -عز وجل- هو الذي تفرد بالخلق والاصطفاء والاختيار؛ كما قال الله -عز وجل-: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ)[القصص:68]، فهو -جل وعلا- يتصرف في هذا الكون ويدبر شؤونه كما شاء عن حكمة بالغة، ونعمة سابغة، وهو -جل وعلا- يصطفي من خلقه ما شاء من الأمكنة والأشخاص والأزمنة فيختصها بمزيد فضله، وواسع إنعامه، وجزيل مَنِّه، فلله الأمر من قبل ومن بعد.
عباد الله: أكرم الله هذه الأمة بليلة مباركة من ليالي شهر رمضان المعظَّم، ألا وهي ليلة القدر التي جعل الله لها شأنًا عظيمًا، وخصَّها بخصائص عظيمة، وميزات كريمة، لم تكن لغيرها من الليالي، ولهذه الليلة مكانة كبيرة في نفوس المسلمين، ومن بركاتها ما يلي:
البركة الأولى: أن الله -عز وجل- اختصها بأن جعلها وقت نزول كلامه العظيم، وذكره الحكيم، فأنزل -عز وجل- كتابه العزيز في ليلة القدر، قال الله -عز وجل-: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرَاً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[الدخان:3-6]. ويقول الله -تبارك وتعالى-: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)[سورة القدر: 1-5].
البركة الثانية: أن الله -عز وجل- جعلها ليلة مباركة، كما قال -سبحانه-: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)، وبركة هذه الليلة بركة في الوقت، وبركة في العمل، وبركة في الثواب والجزاء عند الله -عز وجل-.
البركة الثالثة: أن جعلها خيرًا من ألف شهر، أي: خيرًا من أكثر من ثلاث وثمانين سنة! ليلة واحدة العمل فيها يفضل العمل على أكثر من ثلاث وثمانين عامًا! فما أعظم بركتها! وما أوفر مكانتها! وما أعظم ثواب الله -عز وجل- فيها! ليلة واحدة خير من ألف شهر، أي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. فما أعظمَ هذه الليلة -عباد الله-!!
البركة الرابعة: أن الملائكة تتنزل فيها، وفيهم جبريل، يتنزلون بالخير والرحمة والبركة، فهم ملائكة رحمة يتنزلون بالخير والبركة: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ)[القدر:4].
البركة الخامسة -عباد الله-: أنها سلام حتى مطلع الفجر، فهي ليلة سالمة لا شر فيها؛ بل كلها خير ونعمة وفضل وبركة.
البركة الخامسة: ما ثبت عن نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه".
ومن شأن هذه الليلة -عباد الله- أنه يفرق فيها كل أمر حكيم، أي: يُكتب فيها -عباد الله- ما هو كائن من أعمال العباد إلى ليلة القدر الأخرى، والمراد بالكتابة هنا الكتابة السنوية، أما الكتابة العامة التي كانت في اللوح المحفوظ فهي إنما كانت قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة كما صحَّ بذلك الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فهي ليلة عظيم شأنها، رفيعة مكانتها، عالٍ قدرها، كثيرة خيراتها وبركاتها، والواجب علينا معاشر المؤمنين -عباد الله- أن نَقْدُر لهذه الليلة قدرها، وأن نعرف لها مكانتها وفضلها وبركتها، وأن نجتهد في تحري خيرها وبركتها بالجد والاجتهاد في العبادة، والإقبال على العبادة والطاعة.
لقد كان -عليه الصلاة والسلام- يجتهد في هذه العشر في الطاعة والعبادة والتقرب إلى الله بأنواع القُربات ما لا يجتهده في غيرها؛ ففي صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في هذه العشر ما لا يجتهد في غيرها".
وثبت في الصحيحين عنها -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخلت العشر شَدَّ مِئْزَرَهُ، وأحيى ليلَهُ، وأيقظ أهله".
فهي أوقات جدّ واجتهاد، وبذل وعطاء، وإقبال على عبادة الله، تلاوةً لكتابه، وذكرًا له -جل وعلا-، وقيامًا له بالصلاة، وتقرّبًا إليه بأنواع القربات، وصنوف الطّاعات.
وكان -صلى الله عليه وسلم- يستحثّ أمته، ويستنهض عزائمهم لتحري بركة هذه الليلة وخيراتها الموفورة، وبركاتها العظيمة؛ فالواجب علينا أن نتحرّى هذه الليلة المباركة بالجدّ والاجتهاد في الطاعة، والإقبال على العبادة، والنصح لأنفسنا بالتقرب إلى الله -عز وجل-.
فما أعظمَها من خسارة أن تمر هذه الليلة مضيَّعة مهملة مفرَّطا بما فيها من خير أو بركة! ما أعظمها من خسارة أن تمر هذه الليلة على المسلم ولا شأنَ لها عنده ولا مكانة لها في قلبه فيُحرم من خيرها وبركتها! ما أعظمها من خسارة أن تمر هذه الليلة والمرء مستمر في غيِّه، سادر في لهوه، مداوم على تفريطه وإضاعته!
عباد الله: إذا لم تتحرَّك القلوب إقبالاً على الله -عز وجل- في مثل هذا الوقت المبارك، والموسم العظيم، فمتى عساها تتحرك؟ إذا لم تُنب إلى الله وتتب إليه في مثل هذه الأيام فمتى تكون الإنابة ومتى تكون التوبة؟
إنَّ الواجب علينا أن نقبل على الله -عز وجل- إقبالاً صادقًا، تائبين إليه من ذنوبنا، سائليه -سبحانه- العافية، راجين رحمته، طامعين في فضله وعظيم ثوابه.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية، اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، اللهم إنك عفو تحبُّ العفو فاعف عنا، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
معاشر المؤمنين: إن مما ينبغي أن نهتم به في هذه الليلة ليلة القدر الإكثار من الدعاء، ولا سيما ذلكم الدعاء العظيم الذي علمه النبي -صلى الله عليه وسلم- أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، ففي الترمذي أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله، أرأيت إنْ علمتُ ليلة القدر أي ليلة هي، فماذا أقول؟ قال: "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني".
ما أعظمها من دعوة مباركة! وما أجملها في ليلة القدر المباركة! وهذه الدعوة -عباد الله- مناسبة لليلة القدر غاية المناسبة؛ لأن ليلة القدر -كما تقدم معنا-: (فِيهَا يُفرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)، أي: يكتب فيها ما هو كائن إلى ليلة القدر الأخرى، فما أجمل أن يُقبل العبد في ليلة الكتابة على الله -عز وجل- يسألها العافية! ومَن أعطي العافية في هذه الليلة فقد أعطي الخير كلَّه.
ومما ينبغي أن نتنبه له -عباد الله- في هذه الأوقات الفاضلة أن يحرص أولياء الأمور على العناية بأهلهم وأولادهم، فقد كان -عليه الصلاة والسلام- من شأنه في هذه الليالي إيقاظُ الأهل، فهذا ملحظ مهم، وجانب لا ينبغي التفريط فيه.
بل الواجب على أولياء الأمور العناية بأهاليهم وأولادهم إيقاظًا لهم، وحثًّا لهم، واهتمامًا بهم؛ لئلا تضيع عليهم هذه الأيام الفاضلة والليالي الشريفة سُدًى، فيستحثهم ويبيِّن لهم مكانة هذه الليالي، وعظيم شأنها عند الله.
ولا ينبغي للمسلمين نساء ورجالاً أن تضيع عليهم هذه الليالي في الأسواق وغيرها مفرِّطين في خيرها وبركاتها، فهي ليال عظيمة سرعان ما تنقضي وتذهب.
إنه موسم جليل، ووقت فاضل، وسرعان ما يذهب، فينبغي علينا أن نستغلّ أوقاته الشريفة وساعاته المباركة بالجدّ والاجتهاد، والإقبال على طاعة الله.
وإنا لنسأل الله -عز وجل- أن يعيننا فيها على طاعته، وذكره، وشكره، وحسن عبادته، وأن يهدينا فيها إليه صراطًا مستقيمًا.
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم