لن يغلب عسرٌ يسرينِ

فيصل بن جميل غزاوي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/الدنيا لا تدوم على حال 2/أمر المؤمن كله خير 3/مواقف من حياته صلى الله عليه وسلم 4/بشارة لكل مبتلى

اقتباس

ألا وإن مَن ِاعتَرَف بالفَضلِ لله وشَكَره بلسانِه وجوارحِه بالأعمالِ الصَّالحةِ؛ فإنَّ نِعمةَ الله عليه، بالتوفيقِ للشُّكرِ، أعظَمُ من نعمة سلامتِه وعافيته من الوباء، ومَن نَسَب الفَضلَ لنَفسِه وجُهدِه وارتكَسَ في الذُّنوبِ والمعاصي، فمصيبتُه أعظَمُ من مصيبة الوباء وسائر الأدواء...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله على إنعامه وآلائه التي أَوْلَانَا، مَنَّ علينا فهدانا، وأطعَمَنا وسقانا، وكلَّ بلاء حسَن أبلانا، وأفضَل علينا من إنعامه مُبديًا ومُعِيدًا، وأفاض لنا من إحسانه مسديًا ومفيدًا، ونشكر له على ما ألهمنا من الشكر، وجعَلَه وهو منحةً منه أوفى عدةً لنا وهو ذخر، ونسأله العصمةَ من الزيغ والزلل، ونعوذ به من الخطأ والخطل، ونأمل منه توفيقًا وتسديدًا، يرشدنا إلى اتباع سبيل المؤمنين، ويُوقِظنا من رقدة الغافلين، ويَقِينَا مزلةَ العاثرين.

 

وأشهد ألَّا إله إلا الله، خالق الإنسان ولم يكن شيئًا مذكورًا، ومُصيب عبدَه بقضائه المحتوم، قدرًا منه مقدورًا، ومُنقله بين السلامة والسقم اختبارًا وابتلاءً، وجاعل حالَيْه من نعمة وضرّ علاجًا لأدواء القلوب وداءً، نصَب المرءَ لسهام الرزايا هدفًا وغرضًا، وبلاه باختلاف أطواره صحةً ومرضًا، فكان الصابر الراضي أحمَدَهما عاقبةً وأكرمهما عِوَضًا، إِنْ أَسْدَى نعمةً فبكرمه يُولِيها، وإن اختبَر عبادَه بنقمة يحلها ضمنَ الصلاح في مطاويها، وأحمده على تظاهُر آلائه، والعافية من عدواء السقم ولأوائه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، سيدُ الأولينَ والآخِرينَ، الخاتمُ من أنبيائه، والمصطفى من خَلْقه بشرف اصطفائه، والمخصوص بكرم اختياره واجتبائه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه.

 

أما بعدُ: فيا أيها المسلمون: إن الناظر إلى حال الدنيا وما يعتريها يجدها تتقلَّب بأهلها ومَنْ فيها، ما بين عزٍّ وذُلٍّ، وسرور وحزن، وراحة وتعب، وغنى وفقر، وصحة ومرض، ومسرَّات وأحزان، وهذه الأحوال المتفاوتة إنما تكون فتنة للعبد وتمحيصًا له، قال تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 35]، وقال سبحانه: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الْأَعْرَافِ: 168]، والحسنات هنا هي النعم من الخصب والرخاء، والصحة والعزة، والنصر على الأعداء، ونحو ذلك، والسيئات هنا هي المصائب؛ كالأمراض وتسليط الأعداء، والزلازل والرياح، والعواصف والسيول الجارفة المدمرة ونحو ذلك، وقال عز وجل: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الرُّومِ: 41]، والمغزى المراد من هذه الآيات أنه -سبحانه- قدَّر ما قدَّر من النعم والمصائب، وما ظهَر من البلايا والنكبات؛ كالجَدْب والقحط، ومحق البركات وقلة الخيرات؛ ليرجع الناس إلى الحق، ويبادِروا بالتوبة ممَّا حرَّم الله عليهم، ويسارِعوا إلى طاعته وامتثال ما أوجَب عليهم.

 

عبادَ اللهِ: وقد اقتضت حكمة الله -تعالى- أن دوام الحال من المحال، قال تعالى: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)[الرَّحْمَنِ: 29]، أي: يسأله من في السموات والأرض سؤال المحتاج إلى رزقه وفضله، وستره وعافيته، وهو -عز وجل- في كل وقت من الأوقات في شأن عظيم، وأمر جليل؛ حيث يُحدِث ما يُحدِث، من أحوال في هذا الكون، دون أن يشغله شأن عن شأن، ويبيِّن لنا المعنى ما صحَّ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في هذه الآية: "مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَغْفِرَ ذَنْبًا، وَيَكْشِفَ كَرْبًا، وَيُجِيبَ دَاعِيًا، وَيَرْفَعَ قَوْمًا، وَيَخْفِضَ آخَرِينَ"(رواه ابن ماجه)؛ فهو -سبحانه- في كل يوم من أيام الدنيا في شأن من شئون عباده، يغفر ذنبا، ويفرِّج همًّا، ويكشف كربًا، ويجبر كسيرًا، ويغني فقيرًا، ويعلم جاهلًا، ويهدي ضالًّا، ويرشد حيران، ويغيث لهفان، ويفك عانيًا، ويُشبِع جائعًا، ويكسو عاريًا، ويشفي مريضًا، ويعافي مبتلًى، ويقبل تائبًا، ويَجزي محسنًا، وينصر مظلومًا، ويقصِم جبَّارًا، ويُقيل عثرةً، ويستر عورةً، ويُؤمِّن روعةً، ويرفع أقوامًا، ويضع آخَرين.

 

ومما نُقل عن علي -رضي الله عنه- في التحذير من الاغترار بالدنيا، وأنه لا يدوم لها حال، قوله: "فلا تغرَّنَّكم الحياةُ الدنيا؛ فإنها دار بالبلاء محفوفة، وبالفَناء معروفة، وبالغدر موصوفة، وكل ما فيها إلى زوال، وهي بين أهلها دُول وسِجال، لا تدوم أحوالُها، ولن يسلم من شرِّها نُزَّالُها، بَيْنَا أهلُها منها في رخاء وسرور، إذا هم منها في بلاء وغرور، أحوال مختلفة، وتارات متفرقة، العيش فيها مذموم، والرخاء فيها لا يدوم، وإنما أهلها فيها أغراض مستهدَفة، تَرميهم بسهامِها، وتقصمهم بِحِمامها، وكلٌّ حتفُه فيها، وحظُّه منها موفورٌ".

 

إخوةَ الإسلامِ: إن أمر المؤمن كلَّه خير، كما قال صلى الله عليه وسلم : "عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كلَّه له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاءُ شَكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاءُ صبَر فكان خيرًا له"(رواه مسلم)، فنفسُ المؤمنِ تَشكر في السراء، ولا يستخِفُّها حالُ الرخاء فتتراخى وتنحلّ، وهي تصبر في الضراء وتتجلَّد وتتماسك وقتَ الشدة واللأواء، فلا تَضْجَرُ ولا تتبرَّم، وفي كلا الحالينِ تتَّجِه إلى الله الذي فطَرَها، وتُوقِن أنَّ ما أصابها من مقادير الخير والشر ف-بإذن الله- الذي قدَّرَها، وانظروا -رعاكم الله- كيف كان هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكيف تعامَل مع ما نزَل به من أقدار مختلفة، وما مرَّ به من أحوال متنوعة؛ فمن تلك الأحداث التي وقَعَت له، والمواقفِ التي تعرَّض لها، في حال السعة والسراء، ووقتَ الرخاء، أن آواه اللهُ، وكفَّله جدَّه عبدَ المطلبِ، ثم لَمَّا مات جدُّه كفَّله عمَّه أبا طالب، الذي حنَّ عليه ورعاه، وعاش في كنفه وحِماه، وواسته خديجةُ -رضي الله عنها- بنفسها ومالها، وأيَّده اللهُ بنصره وبالمؤمنين الذين قدَّموا محبتَه على محبة الآباء والأبناء والأزواج، وقيَّض له رجالًا ونساءً من المهاجرين والأنصار، عزَّرُوه ونصروه وآزروه، وضربوا أروعَ الأمثلة في التضحية والفداء.

 

وقد عاش -صلى الله عليه وسلم- حياةً طيبةً، قلبُه معلَّق بالله، ذائقٌ طعمَ الإيمان وحلاوةَ العبودية، واجدٌ لذةَ المناجاة، وكان أطيبَ الناس عيشًا، وأشرحَهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأَسَرَّهم نَفْسًا، تلوح نضرةُ النعيمِ على وجهه، ولا يَفتُرُ لسانُه عن ذكر مولاه، وهَمُّه أن ينال محبةَ الله ورضاه، وكان يتغنَّى بالقرآن، وجُعلت قرةُ عينه في الصلاة، وحُبِّبَ إليه من الدنيا الطيبُ والنساءُ، وكان له سُكَّةُ يَتطيَّبُ منها، ولَبِسَ الجديدَ من الموجود، وكان يتجمَّل للوفود، وكان له حُلَّةٌ خاصةٌ يلبَسُها للعيدين والجمعة، وكان يُحِبّ الحَلواءَ والعسلَ، ولا يُحَرِّم الطيباتِ، ولا يَمتنع عمَّا ربُّه أحلَّ؛ فكان يأكل ما جرَت عادةُ أهل بلده بأكله، من اللحم والفاكهة والخبز والتمر وغيره، وكان يُطْلَبُ له الماءُ العذبُ، ويؤتى له به، وكان يَقْبَل الهدايا ويُثِيب عليها، ويُدخِل السرورَ على نفوس الناس ويسلِّيها، وكان عادتُه أن يَضحك تبسُّمًا، ويمازِح أهلَه إيناسًا لهم وتعطُّفًا، ويلاعِب الأطفالَ حبًّا لهم وتلطُّفًا، ويُداعِب أصحابَه ولا يقول إلا حقًّا، وكان يستجِمُّ بأن يخرج إلى البادية ترويحًا للقلب واستئناسًا، فيشاهدَ مسيلَ الماءِ من أعلى الوادي، وكان إذا بُشِّرَ بخبر سُرَّ، واستنار وجهُه كأنه قطعةُ قمرٍ، وإذا جاءه الأمرُ يسُرُّه خرَّ لله ساجدًا، وعند حصول نعمة أو اندفاع نقمة يسجد لله شاكرًا.

 

وخصَّه اللهُ بمعجزات باهرات، وأجرى على يديه كراماتٍ مؤيِّداتٍ، وكانت له في المعارك انتصارات، وفي السرايا غلبات، وفي الفتوحات بشائرُ ومسرَّاتٌ، وكان له أَسْرَى من العدو في الغزوات، يمنُّ على مَنْ شاء منهم فيُطلقه، ويَفدي مَنْ شاء منهم فيُغرمه، وما يجتمع عندَه من الزكاة والغنيمة والفيء يَقْسِمُه، هذا، وفي مقابل كل ذلك جرَت عليه أحوالٌ من الشدة والبأساء والضيق والضراء، ومع أنه أشرفُ الأمةِ، وأكملُ الأمةِ، وأعظمُهم منزلةً عند الله، إلا أنه مرَّت به أحداثٌ عصيبةٌ جِسَام، ومواقفُ شديدةٌ عظامٌ، فقد ابتُلي باليُتم في صباه، وفقَدَ بعضَ أقاربه وأصفياه، وعاداه أقربُ الناس إليه وجفاه، وحارَبَه قومُه وصدُّوا عنه صدودًا كبيرًا، واضطهدوه وأصحابَه اضطهادًا شديدًا، وألجأوهم إلى هَجْر بلادهم، وتَرْك أموالهم، ولَقِيَ منهم صنوفًا من الأذى؛ فقد شتموه وسَخِرُوا منه، وقذفوه في عِرْضه، واتهموه بالجنون وبالسحر وبالكهانة وبالكذب، وتآمَرُوا على قتله، وشُجَّ في رأسه، وأُلقي عليه سلا الجزور، ورُمي بالحجارة، ودَمِيَت أصبعُه، وكُسرت رباعيتُه، ونام على الحصير، وحوصر في الشِّعْب، ومُنِعَ من دخول مكة.

 

وعاش على شظف من العيش، فشَعَر بالجوع، ورَبط الحجرَ على بطنه، وكان يبيتُ جائعًا وأهلُه لا يجدون عَشاءً، وتَمُرُّ الأشهرُ ولا يُوقَد في بيته نارٌ وليس له طعام إلا التمرُ، ويظل اليوم يلتوي من الجوع، ما يجد من الدَّقَل -وهو التمر الرديء- ما يملأ به بطنَه، وكان يُؤتى بالتمر فيه دودٌ، فيفتِّشه يُخرج السوسَ منه، وكان يستقرِض لحاجةٍ، ومات ودرعُه مرهونةٌ عند يهوديٍّ، وكان يمرض، بل ويشتدُّ به وجَعُه، ويُوعَك وعكًا شديدًا، وعانى من سكرات الموت، وانقطع الوحيُ عنه مرتين، حتى شقَّ ذلك عليه، فأحزَنَه وآلَمَه، وألَمَّت به بعضُ المشكلات في بيته مع أهله، وهو في كل تلك الأحوال السالفة صابِرٌ محتَسِبٌ، لا يتضعضع، ولا يضعف، ولا ينتقم لنفسه، ولكن يعفو ويصفح، ويَعطِفُ على الناس ويَرحَمُهم، وكان يطلب لقومه الهدايةَ والمغفرةَ، على الرُّغم من إمعانهم في إيذائه والكفر به فيقول: "اللهمَّ اهْدِ قومي؛ فإنهم لا يعلمون".

 

وكان دائم الصلة بربه وفي أحلك الظروف وأصعب المواقف، لا يَقنَط من رحمة الله، ولا ييأس من رَوْح الله، ويقابِل ما يختبره به ربُّه، من المحن والمصائب، بالصبر والاسترجاع، واحتساب ذلك عندَ الله، لا يسخط ولا يجزع، بل كان متفائِلًا في كل أحواله وأموره، وكان مُبَشِّرًا وميسِّرًا، ومع هذا لا ينفكُّ عن مناشَدة ربه ومناصرته، ومناجاته في الْمُلِمَّات، والاستعانة به في الكربات، والالتِجاء إليه وقْتَ الشدائد والأزمات، مُفَوِّضًا أمرَه إليه ومتوكِّلًا عليه، مُوقِنًا بأن ما عندَ اللهِ خيرٌ له، فتنساب من فمه الشريفِ كلماتٌ صافيةٌ كالزلال، تعبِّر عن معاني الرضا عن ربه المتعال، ورغبتِه فيما لديه وتوجُّهِه إليه وثقتِه فيما عندَه، واعتمادِه عليه، فتراه يقول: "عسى أن يكون في الأمر خير"، ويقول: "إنه ربي ولن يضيعني"، ويقول: "اللهم إنَّ العيشَ عيشُ الآخرةِ"، ويقول إذا رأى ما يُحِبُّ: "الحمدُ للهِ الذي بنعمته تتمُّ الصالحاتُ"، ويقول إذا رأى ما يَكرَه: "الحمد لله على كل حال"، ويقول: "إن المؤمن بكل خير على كل حال".

 

ويقول عند لقاء العدو: "اللهم أنتَ عَضُدِي وأنت نصيري، بك أحولُ وبكَ أصولُ، وبكَ أقاتل"، وكان يَنسب الفضلَ والنعمةَ لله مُبدِيها ومسديها، ويشكرها ولا يكفرها، فيقول: "الحمدُ لِلَّهِ غيرَ مودَّعٍ وَلا مُكَافأ، ولا مَكْفُورٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عنه، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَ مِنَ الطَّعَامِ، وَسَقَى مِنَ الشَّرَابِ، وَكَسَا مِنَ الْعُرْيِ، وَهَدَى مِنَ الضَّلَالَةِ، وَبَصَّرَ مِنَ الْعَمَى، وَفَضَّلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ تَفْضِيلًا"، مُستشعِرا على الدوام، قولَ الملك العلام: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)[النَّحْلِ: 53]؛ لذا تجد لسانه لهِجًا بذلك، يقول في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ حينَ يسلِّم، كما جاء في (صحيح مسلم): "لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إيَّاه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحَسَن".

 

وبعد أن كشف الله الغمة عن رسوله وعن المسلمين، وجعَل لهم الغلبةَ بعد أن وعدَهم بالنصر والتمكين، دخلوا بيتَ الله الحرامَ في فتح مكة آمِنينَ مُخبِتِينَ، وذقنُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- يكاد يَمَسُّ ظهرَ راحلته من الذِّلة لله ربِّ العالمينَ، والشكرِ له على فضله المبين، لم يدخل متكبِّرًا، ولا بَطِرًا ولا شامِتًا، ولم تُنسِه نشوةُ النصرِ واجبَه نحو ربه المنَّان، ولم يتنكَّر لعطاء مولاه، ذي الطَّول والإنعام، وما فتئ يذكر إحسانَه التامَّ، في نصره ونصر أصحابه بعد الذِّلَّة، وتكثيرِهم بعد القِلَّة، وإغنائهم بعد العَيْلَة؛‏ امتثالا لقوله جل ثناؤه: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[الْأَنْفَالِ: 26]، وهذا بخلاف حال المشركين، الذين كذَّبوا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وعاندوه، ولم يعتبروا بالآيات، كما قال سبحانه: (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)[الْمُؤْمِنَونَ: 75]؛ أي: لو رفعنا عنهم ما أصابهم من سوء حال، بسبب ما نزَل بهم من قحط وجدب وفقر، وكشفنا عنهم البلاءَ، لَعادوا إلى ما كانوا فيه من الغَمْرة والأعمال السيئة؛ لأنها صارت سجيةً لهم، ولَتمادوا في ضلالتهم وتجاوُزِهم الحدَّ، يترددون ويتخبطون حيارى، وهكذا هو ديدنُهم، كما بيَّن اللهُ حالَ الكافر المصرِّ على جحوده بقوله: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ)[الزُّمَرِ: 8]، هذه هي حقيقته يستغيث بربه الذي خلَقَه، ويرغب إليه وقتَ الشدة، ثم إذا كشف عنه ضرَّه، وأبدَلَه بالسقم صحةً، وبالشدة رخاءً، نسي الضرَّ الذي كان يدعو اللهَ إلى كشفه، ونسي ربَّه الذي كان يتضرَّع إليه ويبتهل في كشف ضره، وقد صُوِّر هذا الحالُ في مواضع أخرى من كتاب الله؛ كقوله -تعالى-: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[يُونُسَ: 12]، فلما فرَّج اللهُ عنه الجَهد الذي أصابَه، استمرَّ على طريقته الأولى، قبل أن يصيبه الضر، ونسي ما كان فيه من الجَهْد والبلاء، أو تناساه، وترَك الشكرَ لربه الذي فرَّج عنه ما كان فيه من الشدة حين استعاذ به.

 

وبالجملة -عبادَ اللهِ- فقد عاش النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الحياةَ بخيرها وشرِّها، بحُلوِها ومُرِّها، بسَعَتِها وضيقها، بسرَّائها وضرائها، بمسراتها وأحزانها، بأفراحها وأتراحها، بأمنها وخوفها، وكان في جميع الأحوال مَثَلًا بليغًا، وقدوةً حميدةً في الرضا بقضاءِ اللهِ، والشكرِ على نَعمائِه، والصبرِ على بلائه، والاتعاظِ والادِّكارِ بآياته، والتسبيح بحمده، والإخلاص في دعائه، والصدقِ في العبودية له، والحياءِ من جلاله، ومن هنا نعلم حاجتَنا الماسَّة إلى معرفة نبينا -صلى الله عليه وسلم-؛ لتقوى محبتُنا له، فإذا ما أحببناه اقتدينا بهديه، وتأدَّبْنا بآدابه وتعاليمه، فبمتابعتِه والسيرِ على نهجه، يتميَّز أهلُ الهدى والرشاد، من أهل الضلال والغَيّ.

 

أقول هذا القول، وأستغفر الله الجليل لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب وخطيئة، وتوبوا إليه، إن ربي غفور رحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمدا يليق بجلاله وعظمته، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، يبتلي المؤمنين ابتلاء ليغفر لهم ذنوبهم، أو ليبلغهم به درجات يوم القيامة، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، إمام الشاكرين والصابرين، وحامل لواء الحمد يوم الدين، وعلى آله وأصحابه والتابعين.

 

أما بعد: فيا عباد الله: لقد أخبرنا الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- وبشرنا ببشارة، جاءت في آخِر وصيتِه لابن عباس الشهيرة؛ وهي قوله : "واعْلَمْ أن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفَرَج مع الكرب، وأن مع العسر يسِرًّا"، قوله: "واعلَمْ أنَّ في الصَّبرِ على ما تَكرَهُ خيرًا كثيرًا"؛ أي: أنَّ الصَّبرَ على الشَّدائدِ، التي يَكرَهُها الإنسانُ، فيه خيرٌ كثيرٌ للعبْدِ، وهو أفضَلُ له مِن الجزَعِ"، فيصبر لحُكْم الله، الذي لا يجد معوَّلًا إلا عليه، ولا مَفزَعًا إلا إليه، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "وأنَّ النَّصرَ مع الصَّبرِ"؛ فالصَّبرُ مِفتاحُ كلِّ خيرٍ، مع إخلاصِ النِّيَّةِ للهِ.

 

إِنِّي رَأَيْتُ وَفِي الْأَيَّامِ تَجْرِبَةٌ *** لِلصَّبْرِ عَاقِبَةً مَحْمُودَةَ الْأَثَرِ

وَقَلَّ مَنْ جَدَّ فِي أَمْرٍ يُطَالِبُهُ *** فَاسْتَصْحَبَ الصَّبْرَ إِلَّا فَازَ بِالظَّفَرِ

 

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "وأنَّ الفرَجَ مع الكرْبِ، وأنَّ مع العُسرِ يُسْرًا"؛ أي: أنَّ رَحمةَ اللهِ بعِبادِه قريبةٌ، فيَجعَلُ من الضِّيقِ والشِّدَّةِ تَفريجًا، فلا يَيأَسُ العبْدُ مهما أصابَه، وكل يُسر بعد عُسر، بل إن العُسر محفوف بيُسرينِ، يُسرٍ سابقٍ، ويُسرٍ لاحقٍ، قال الله -تعالى-: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)[الشَّرْحِ: 5-6]، وكان فيما كتَب أميرُ المؤمنين، عمرُ بنُ الخطاب -رضي الله عنه-، لأبي عبيدة -رضي الله عنه-، أن قال: "فإنه ما ينزل بعبدٍ مؤمنٍ من منزلةِ شدةٍ، إلَّا يجعل اللهُ له بعدَها فرَجًا، ولن يغلب عسرٌ يسرينِ"، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 200]، قال ابن رجب -رحمه الله-: "ومن لطائف أسرارِ اقترانِ الفَرَجِ بالكَرْبِ، واليسرِ بالعسرِ: أن الكرب إذا اشتدَّ وعَظُمَ وتناهى، حصَل للعبد اليأسُ من كشفه، من جهة المخلوقين، وتعلَّق قلبُه بالله وحدَه، وهذا هو حقيقةُ التوكلِّ على الله، وهو من أعظمِ الأسبابِ التي تُطلَب بها الحوائجُ؛ فإن اللهَ يكفي مَنْ توكَّل عليه، كما قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)[الطَّلَاقِ: 3]" انتهى كلامه رحمه الله.

 

وفي الأزمات -أيها المسلمون- ووقتَ الشدائد يتطلَّب من المرء اللجوء إلى الله -تعالى-؛ ففي الضيق تتبدَّى السَّعة، وفي الألم يتجلَّى الأملُ، وفي الكَرْب يجد المرءُ مخرجًا، ولو خلَق اللهُ الضيقَ دون سَعة ،والألمَ دونَ أملٍ، والكَرَب دون فَرَج، والحزن دون سرور، لَضاقت الدنيا بمَن عليها، وما طاب العيشُ لمخلوق، ما قال القائل:

 

أُعَلِّلُ النّفْسَ بِالْآمَالِ أَرْقُبُهَا *** مَا أَضْيَقَ الْعَيْشَ لَوْلَا فُسْحَةُ الْأَمَلِ

 

وممَّا يُسلِّي المرءَ ويعزِّيه أن ما يعيشه من السعة والتفريج في الحياة، أضعاف أضعاف ما ينتابُه أحيانًا من ضيق وكَرْب في حياته، دخَل عبدُ الوارثِ بنُ سعيدٍ على رجل يعودُه فقال له: كيف أنتَ؟ قال: ما نمتُ منذ أربعينَ ليلةً. فقال: يا هذا، أحصيتَ أيامَ البلاءِ، فهل أحصيتَ أيام الرخاء؟!

 

عبادَ اللهِ: لقد جاءنا من الأخبار، وشاهدنا من الأحداث، ما يؤكِّد لنا عجيبَ صنع الله بعباده المؤمنين، وإحسانه إليهم، ولطفه ورحمته بهم، وإفضاله عليهم، فما كان جلَّ وعزَّ لَيترك أولياءَه ولا يكلهم إلى ضيعة، ولا يتخلَّى عنهم وهم يلجؤون إليه ويستغيثون به، ويستنصرونه وقتَ الشدائد والمحن، ومِن أوضحِ الأمثلةِ في ذلك وأشهرِها، ما ذكَرَه اللهُ -تعالى- عن يونس -عليه السلام-، لَمَّا ابتلي بالتقام الحوت له، ووقع في الشدة والضيق، بل في غمٍّ شديدٍ: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[الصَّافَّاتِ: 143-144]، والمقصود بتسبيحه هو قوله: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 87-88]، ومَنْ كان مع الله في السرَّاء والضرَّاء، والشدَّة والرَّخاء، والعلانية والخَفاء، كان مُؤيَّدًا منصورًا، وعاد بالظَّفَر مسرورًا.

 

ولكم أن تقارنوا بين حال يونس -عليه السلام- عند مناشدته ربَّه وقتَ شدته، وبين فرعون -عليه لعائن الله- وهو يعاين الموتَ، وقد يئس من النجاة وأيقن بالهلكة: (قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[يُونُسَ: 90]، إنَّ الفَرْقَ واضحٌ، والبَوْنَ شاسعٌ، لَمَّا كان ليونس أعمالٌ صالحةٌ متقدمة، دعا اللهَ فنجَّاه، وأجاب دعاءه، ولَمَّا لم يكن لفرعون عملُ خيرٍ، لم يجد متعلَّقًا وقتَ الشدةِ، فأُنكِرَ عليه وزُجِرَ وقيل له مدحورًا مذموما: (آلْآنَ)[يُونُسَ: 91]. فَرْقٌ بين مَنْ عرَف اللهَ في الرخاء ومن ضيَّعَه؛ فيونسُ رخاؤُه دعاءٌ ودعوةٌ؛ وفرعونُ رخاؤُه ظلمٌ وكفرٌ وجحودٌ.

 

ولا يزال لطيفُ صنعِ اللهِ -عز وجل- بأوليائه وعبادِه الصالحينَ، يتوالَى عليهم في حال الشدائد والكُرَب، فيفرِّج كربَهم، وينفِّس عنهم، حيث كان لهم مع الله معاملةٌ في الرخاء، وإنَّه يا عباد الله مهما يُبتلى به العبدُ من مصيبات الدنيا، ويُعافى بعدَها، أو يبقى على حاله صابرًا محتسبًا حتى الممات، فإن ذلك الابتلاء يُعَدّ هينًا يسيرًا، لكن مَنْ أُصِيبَ في دينه فهو البلاء حقيقةً، والمصابُ بذلك هو المصابُ، ولهذا كان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: "ولا تَجْعَلْ مصيبتَنا في ديننا".

 

ألا وإن مَن ِاعتَرَف بالفَضلِ لله وشَكَره بلسانِه وجوارحِه بالأعمالِ الصَّالحةِ؛ فإنَّ نِعمةَ الله عليه، بالتوفيقِ للشُّكرِ، أعظَمُ من نعمة سلامتِه وعافيته من الوباء، ومَن نَسَب الفَضلَ لنَفسِه وجُهدِه وارتكَسَ في الذُّنوبِ والمعاصي، فمصيبتُه أعظَمُ من مصيبة الوباء وسائر الأدواء.

 

هذا وصلُّوا وسلِّموا -عباد الله- على عبده ومصطفاه، امتثالا لقول ربنا جل في علا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، وعلى أزواجه وذريته، كما صليتَ على آل إبراهيم، وبارِكْ على محمد، وعلى أزواجه وذريته، كما باركتَ على آل إبراهيم إنكَ حميدٌ مجيدٌ.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الكفر والكافرين، وانصر عبادك الموحدينَ، ودمِّر أعداءَكَ أعداءَ الدين، واجعل هذا البلد آمِنًا مطمئنًا وسائرَ بلاد المسلمين، اللهم احفظ بلادَ الحرمين، وبلاد المسلمين، من كل شر وسوء وفتنة ومكروه، اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، اللهم إنا نعوذ بك زوال نعمتك، وتحول عافيتك وجميع سخطك، اللهم إنا نعوذ بك من البرص، والجنون والجذام وسيئ الأسقام، اللهم جنبنا منكرات الأخلاق والأهواء، والأعمال والأدواء، اللهم إنه جاء عن بينك -صلى الله عليه وسلم- أنك لا تقضي لعبدك المؤمن قضاء إلا كان خيرا له، اللهم إنا نسألك العافية، ونسألك أن تقضي لنا الخير في السراء والشكر عليها، اللهم عافنا في ديننا ودنيانا، وأبداننا وأعراضنا، وأموالنا وأهلينا، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة، في الدين والدنيا والآخرة، اللهم اجعلنا في الشدة من الصابرين، ولقضائك راضين، وفي الرخاء من الشاكرين، والحمد لله رب العالمين.

 

المرفقات

لن يغلب عسرٌ يسرينِ

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات