لما كنا أعزة

عادل العضيب

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ عزة المسلمين في تمسكهم بدينهم 2/ صفحات مشرقة من تاريخ الإسلام والمسلمين 3/ صور رائعة من اعتزاز المسلمين بدينهم 4/ أسباب مآسي المسلمين اليوم 5/ شروط النصر والتمكين.

اقتباس

لقد تقلبنا في العز سنوات، ثم تبدل الحال وتغير لما بدلنا وغيّرنا.. لما انحرفت الأمة عن الطريق الصحيح أضاعت درب العزة والكرامة، لما سارت خلف الكافرين واتبعت أعداء الدين، لما أعرض الجيل عن القرآن وعن المساجد، وساروا إلى المسارح والمقاهي والملاعب، لما عاش الجيل لشهوته، لما والى عدوه وغفل عن مآسي أمته وجراحاتها، ولن يعود العز حتى نعود إلى ربنا عودة صادقة، مصداق ذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: "سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم".

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أعمالنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:71].

 

أما بعد: عباد الله، أيها المسلمون، لما فُتح المسلمون بيت المقدس في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خرج الفاروق -رضي الله عنه- من المدينة إلى بيت المقدس؛ ليتسلم مفاتيح بيت المقدس، وفي الطريق يمر عمر -رضي الله عنه- على مخاضة وهو على ناقة له فنزل عنها وخلع خُفّيه، فوضعهما على عاتقه وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيد: "يا أمير المؤمنين، أأنت تفعل هذا؟ تخلع خفيك وتضعهما على عاتقك وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخاضة، ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك".

 

فقال عمر: "أوّه! لو قال ذاك غيرك أبا عبيدة جعلته نكالا لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله" (رواه الحاكم في مستدركه، وقال: صحيح على شرط الشيخين).

 

نعم! نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فما عرفنا العزة قبل الإسلام، وما عرفنا العزة بدون الإسلام، وما عرفنا العزة بابتعادنا عن الإسلام، شهد بهذا التاريخ، شهد بهذا تاريخ لنا مجيد لم تعرف البشرية له مثيلاً، لما اعتز المسلمون بدينهم، والتزموا كلام ربهم وكلام نبيهم عليه الصلاة والسلام، سنوات من العز والتمكين والعلو  والظهور على العالمين عاشها المسلمون، سنوات من تآلف القلوب ورغد العيش، واجتماع الكلمة، والظهور على الأعداء عاشها المسلمون.

 

لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، تولى الخلافة أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- هبت أعاصير الردة الماكرة الخبيثة، جيَّش الصديق الجيوش وعقد الألوية وأرسل خالدًا لهم، فأطفأ الله به نارهم وكفّ شرهم، ولم يسترح خالد بن الوليد حتى أصدر الصديق -رضي الله عنه- أوامره لقائده المبارك بأن ينطلق إلى أعظم إمبراطورية في الشرق الأوسط -إمبراطورية الفرس- فكتب خالد: "بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس، الحمد لله الذي حل نظامكم ووهن كيدكم وفرق كلتكم، فأسلموا وإلا فأدوا الجزية، وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة".

 

وفي عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أرسل سعد بن أبي وقاص لقتال الفرس والقضاء على دولتهم، كان رستم هو قائد الفرس في هذه المعركة، وقد حاول التنصل من هذه المهمة، ولكنه اضطر للقيام بها، ولما اقترب الجيشان بدأت المراسلة، فطلب رستم من سعد أن يبعث إليه رجلاً من رجاله، فأرسل سعد – رضي الله عنه- ربعي بن عامر.

 

انطلق ربعي على فرسه حتى داست فراش رستم، فنزل من على الفرس، وأخذ الرمح يتوكأ عليها، فقال له رستم: ما الذي جاء بكم؟ قال: لقد جئنا نفتح الدنيا: قال: جئتم تفتحون الدنيا بهذا الفرس الهزيل والرمح؟ قال: "إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".

 

وقاتلهم المسلمون في معركة عرفها التاريخ ولم ينساها كلاب الفرس، وانتصروا عليهم نصرا مؤزرا ودخل سعد الإيوان، إيوان كسرى، وكبّر فيه؛ الله أكبر، وقرأ قول الله: (كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) [الدخان: 25- 29].

 

هكذا كنا عزة بالإسلام، وفي زمن هارون الرشيد وصله كتاب من نكفور ملك الروم، وإذا فيه: "من نكفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب أما بعد: فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مكان البيدق، فحملت إليك من أموالها؛ ولذلك لضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك وافتدي نفسك وإلا فالسف بيننا".

 

فاشتاط هارون غضبا، وكاد أن يقتل الرسول لولا أن الرسل لا يُقْتَلون، ثم قلب الورقة: وكتب على ظهرها: "بسم الله الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نكفور كلب الروم أما بعد: فقد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تسمعه". وسيّر جيشًا أطال الشيطان الذي أسكن رأسه وأعاده لرشده.

 

وسيَّر المعتصم جيشًا إلى عمورية بعد أن استنجدت به امرأة ونادت: وا معتصماه، ولما بلغته مقالها قاد جيشًا عظيمًا وحاصر عمورية، فبعث إمبراطور الروم برسوله يطلب الصلح ويعتذر عما فعله جيشه، وتعهد بأن يفرج عن أسرى المسلمين، لكن المعتصم رفض وكثف الهجوم عليهم حتى انهاروا واستسلموا فدخل المسلمون عمورية وهم يكبرون ويهللون.. هكذا كنا أعزة بالإسلام.

 

ووقف عقبة بن نافع على القيروان وكانت غابة موحشة، وكان الفاتحون يرجعون دونها، لكنه صمم أن يبني مدينة القيروان؛ لتكون مركزا للعالم الإسلامي في شمال إفريقيا، فقيل له: أيها القائد يرحمك الله، هذه أرض يعجز عنها كل الفاتحين فهي غابات موحشة، فوقف على حافة الغابة يخاطب الوحوش، فقال: "أيتها الوحوش، نحن أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم-، جئننا لننشر الإسلام هنا". قالوا: والله لقد رأينا الوحوش تحمل أولادها وتخلي الغابة لعقبة، فسبحان من أسمعها.

 

ولما بنى القيروان واصل المسير حتى وقف بفرسه على المحيط الأطلسي، وقال: "والله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أن وراء هذا الماء أحدًا من البشر لخضته بفرسي هذه".

 

وهذا قتيبة بن مسلم الذي فتح بلاد ما وراء النهر من أفغانستان وما جاورها، سأل جنوده: أي بلاد أمامي؟ قالوا: بلاد الصين، قال: والله لا أرجع إلى بلدي حتى تطأ أقدامي هذه أرض الصين، وآخذ الجزية، فبلغ الخبر ملك الصين فجُنّ جنونه وارتعب وخاف فأرسل ترابًا وأموالاً طائلة، وقال: هذه صحاف من الذهب يطأها قتيبة وهو في مكانه، وهؤلاء أولادي الأربعة يضع عليهم الوسم وهذه الجزية تصل كل سنة ولا يأتي إلى بلادنا.

يا الله، ما أجمل العزة! يا الله ما أروع العزة! يا الله كم كنا أعزة! كيف أضعنا هذا العز؟!

 

وذكروا أنه في العصور الوسطى وقف قسيس بريطاني في أحد ميادينهم قائلاً: "إنه لمن المؤسف حقا أن شباب النصارى أخذوا يقلدون المسلمين في لباسهم وأسلوب حياتهم حتى الشاب إذا أراد أن يتفاخر أمام عشيقته يقول لها: أحبك بالعربية، يعلمها كم هو متطور وحضاري؛ لأنه يتحدث العربية"، هكذا كنا أعزة، كنا أعزة، كنا في مقدمة الأمم، كنا قادة للدنيا وملوكا للأرض.

 كنا جبالاً في الجبال وربما *** سرنا علي موج البحار بحارا

 بمعابد الإفرنج كان أذاننا *** قبل الكتائب يفتح الأمصار

كنا نقدم للسيوف صدورنا *** لم نخش يوما غاشما جبارا

كنا نرى الأصنام من ذهب *** فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا

لو كان غير المسلمين لحازها ***  كنزا وصاغ الين والدولارا

 كنا جبالا في الجبال وربما *** سرنا علي موج البحار بحارا

 

لقد تقلبنا في العز سنوات، ثم تبدل الحال وتغير لما بدلنا وغيرنا، (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ) [الرعد:11]، لما انحرفت الأمة عن الطريق الصحيح أضاعت درب العزة والكرامة، لما سارت خلف الكافرين واتبعت أعداء الدين، لما أعرض الجيل عن القرآن وعن المساجد، وساروا إلى المسارح والمقاهي والملاعب، لما عاش الجيل لشهوته، لما والى عدوه وغفل عن مآسي أمته وجراحاتها، ولن يعود العز حتى نعود إلى ربنا عودة صادقة، مصداق ذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: "سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم".

 

بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة، ونفعني بما فيها من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وصلّ اللهم وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون.

 

 أما بعد: فيا معاشر المسلمين، في التاريخ الإسلامي أيام لا تُنسى وذكريات لا تُمحى، ومواقف خالدة، حفرها أبطال الإسلام في سجل التاريخ بمداد دمائهم لا بأقلامهم، لكن التغني بالماضي لا ينفع، فنحن أبناء الحاضر، ومن أراد العز عمل، وإلا فليشرب كأس الذل.

لما استُلب مُلك أحد الملوك بكى، فقالت أمه: "ابكي كالنساء مجدًا لم تحافظ عليه كالرجال".

 

عباد الله: نثق بوعد الله على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- بأن العاقبة ستكون لأهل الإسلام، لكننا نعلم أن هذه العاقبة لا بد لها من تضحيات فلن ننصر حتى يرى الله صدقنا، قال الله: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7].

 

وإن النصر والتمكين بحاجة إلى أن نعود بالجيل إلى كتاب الله وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام-، بحاجة إلى صدق مع الله وتوكل عليه، بحاجة إلى أن تجتمع الأمة أمام أعدائها، فالمرحلة القادمة ليست مجالاً لتحقيق منجزات أو مكاسب حزبية محدودة، وليست وقتًا للتفاخر وتلميع الذات على حساب الأمة، وإنما هي مرحلة تحتاج إلى رصّ الصفوف وتجاوز الخلافات، (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) [آل عمران:103].

 

نحن بحاجة إلى عمل مؤسسي تتضافر فيه جهود العلماء والدعاة المفكرين والمثقفين مع الساسة للعودة بالأمة إلى الطريق الصحيح وبناء جيل يحمل هم الدين، ويعمل له.

هكذا يجب أن نكون؛ فإن بادرنا إلى تصحيح المسار وإلا بدلنا كما بدل غيرنا. (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد:38].

 

عباد الله، صلوا وسلموا على رسول الله المصطفى امتثالا لأمر الله -جل وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].

 

اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، وانصر عبادك المجاهدين، واجعل هذا البلد آمنا وسائر بلاد المسلمين.

 

اللهم أرنا عز الإسلام قبل الممات، اللهم أعِدْ لهذه الأمة عزها ومجدها يا قوي يا قادر، اللهم رحماك بأمة الرسول، اللهم أبدل هذه الحال بحال خير منها يا قوي يا قادر.

 

اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم أصلح نساء المسلمين، اللهم أصلح شيب المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين عامة يا قوي يا قادر.

 

اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها.

 

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، سبحانك ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

 

المرفقات

كنا أعزة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات