لماذا عثمان؟!

عاصم محمد الخضيري

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ منزلة الصحابة 2/ ملامح من سيرة عثمان بن عفان ومناقبه 3/ لماذا عثمان؟!

اقتباس

لماذا عثمان؟! لعل الله أن يبعث لأمّتنا عثمانَ آخرَ يجدد لها حياءها. لماذا عثمان؟! ليجدد لنا حقبة الفدائية، حين لم يتكل عثمان على غيره، ولم يركن لكثرة الناس؛ ليجهز جيش العسرة بأكمله، بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها! ليبعث له النبي عليه الصلاة والسلام صك ..

 

 

 

الحمد لله الحميد الولي، العظيم العلي، الغني القوي، يهب ويعطي، يميت ويحيي، يَخْفِض ويُعلي؛ الحمد له، له أسلم من في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه يرجعون. 

وأشهد ألا إله إلا الله وحده لاشريك له..

شهـادة الصدق العلية سرمدًا *** أبديةً تُمحَـى بـهـا الأوزارُ
هِيَ سِرُّ هذا الكونِ شاهدةٌ بأنَّ *** إلهـنا هُـوَ واحـدٌ قـهَّـار
فاهَـتْ بها كُلُّ الخلائقِ مثلما *** سأبثُّها ما جَنَّ ليلٌ واستبان نهار

وأشهد أن محمدًا بن عبد الله عبدُ الله ورسوله.

رسولُ الله في الملكوت طابَتْ *** أرومَتُهُ وطاب المقتفوهُ

قد تمم الله به مكارم الأخلاق، حتى غدا بنوره الإظلامُ في إشراق، وفي هداه أصبح الشتاتُ في تلاق.

صلَّى عليه الله ما ذَرَّ شارقٌ *** وما لاحَ في الآفاقِ مِن هَدْيِهِ الفَجْرُ

صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الأطهار، ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

أرأيتم لو أخبرتُكم أن عظيمًا اتخذ له جلساءَ يصحبونه، وقرناءَ يُفيضون عليه أدبًا ومشورة، أكنتم ترون أنه سيتخذ منهم عَيِيًّا حصورًا، أو جاهلاً مغرورًا، أو مذمومًا مدحورًا، أو رجلاً مسحورًا، أو جارًا ومجرورًا؟! إذا قلتم: كلا لن يكون ذاك، فإن العظماء لن يصحبوا إلا عظيمًا، وعلى قدر أهل المجد تأتي الأماجِدُ؛ فسأقول حينها: ذاكم أصحاب محمدِ بن عبد الله، لمحمدِ بن عبد الله! إنه لا جَرَمَ! لقد اختارتهم أعين السماء!

صحِبُوا النبيَّ وصاحَبوا غَزَوَاتِهِ *** نِعْمَ اختيارُ اللهِ والمختارُ!

يا هناءة محمدِ بن عبد الله بهؤلاء الصحاب! ويا هناءة الصحاب بابن عبد الله!

صلّى الإلهُ على الميامينِ الأُلَى *** نصَرُوا النبيَّ وأيَّدُوا التنزيلَ
أَدِرِ الحديثَ ورَوِّ من أنبائهم *** تَشْفِي وتنقَعُ لاعجًا وغليلاً

هؤلاء، وما إخالك جاهلاً:

معشـر حبُّـهُم دِينٌ وَبُغْضُهُمُ *** كُفْـرٌ وَقُرْبُهُـمُ مَنجـىً وَمُعتَصَمُ
مُـقَـدَّمٌ بعد ذِكْرِ الله ذِكْرُهُمُ *** فـي كـلّ بَـدْءٍ وَمَختومٌ به الكَلِمُ
إنْ عُدّ أهْلُ التّقَى كانوا أئِمّتَهمْ *** أوْ قيل مَن خيرُ أهل الأرْض قيل: هُمُ

إذا ذكر ذاك الرعيلُ فأرْعِ أذنَك، وأخفض عينَك، وأوكف دمعتك! وقل:

يا رحمةَ اللهِ حلِّي في منازِلِنا *** وجاوِرِينا فَدَتْكِ النفسُ مِن جارِ!

يا ربّ إنْ لم تكن عيني تراهم في الدنا فلا تحرمني منهم في جنتك!

لما أسلم أبو بكر -رضي الله عنه وعن أبيه- كانت شهادةُ النبي -عليه الصلاة والسلام- له وسامًا طوقه في جيده حينما قال عنه: "لم أدع أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له كبوة، إلا ما كان من أبي بكر؛ فإنه لم يتلعثم في قوله"، فرضي الله عنه وأرضاه، ما ارتضى يومًا من الدهر أن تعرف الناسُ أن ديانته الإسلامُ ثم تقف عند ذلك همّتُه وهمّه، لقد ابتدأ دعوته المحمدية من أول يوم فاه بها بيضاء نقية أن: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

حين أسلم -رضي الله عنه-، بدأ رحلة الكفاح هاتفًا للناس: حي على الفلاح! فما هي إلا أيام يسيرات حتى أسلم على يديه غطارفةٌ لو أن آفاق السماوات أقسمت للسماوات أنه لم يشعشع مثلهم في أفقها ما حنثت! كيف تحنث، والذين أسلموا على يديه هم ستة من الذين بشرهم رسول الهدى بالجنة؟!

لقد كان أولَ من دعاهم أبو بكر -رضي الله عنه- فأسلم رجلٌ سَيشْرُف مقامُنا هذا بذكره، سنتفيّأ ظلاله، وننتشي عبيره، ونستقي من ورده الشَّبِم، وننقع الغليل، ونشفي الأوام.

ثم أما بعد أخرى:

كان رجلاً عظيما، حَيِيًّا حليمًا، صبورًا وفيًّا حميمًا، كان رجلاً لا كالرجال! لم تكن له سيرةٌ ذاتيةٌ تقليدية، كان أوحد في سيرته، كانت كلُّ خطوة منه تصنع أطايب من خلال! كانت خطاه وحدها سيرة ندية زكية، هذا الرجل، قدَّر الله عليه أنه لم يستلم دينه بالوراثة، لم يستلمه كابرًا عن كابر، توفي أبوه لما كان في الجاهلية.

كان من أوائل الذين أسلموا، لما لقنه أبو بكرٍ الإسلامَ، وجد بقلبه طلاوة، ثم وجد لشهادة التوحيد حلاوة، هذا الرجل لطالما تنزلت فيه آياتٌ، ولطالما نزل جبريل يبلغ محمدًا بخبره! رجل نادته الأقدار ودعته من بين صفوف الصفوة ليأخذ مكانه مبكرًا بين الأوائل المبكرين، في موكب الهدى ودين الحق.

مَن ذلك الرجل الذي حين تلقَّى إشارة القدر ليتسلم دوره لم يتردد لحظة واحدة، ومِن تحت سُقُفه المرفوعة، ومن فوق فُرُشه الموضوعة، ومن بين مناعمِه ومطاعمِه ودنياهُ الحافلةِ العريضةِ خرج حاملاً أعباء دوره الجديد، مستقبلاً حياة المتاعب والتضحية والعطاء، من ذلك الرجل؟!

من ذلك الرجل الذي تحدى كلَّ قيود مجتمعه غير آبِهٍ؟! ماذا يبتغي حين أعلن إسلامه مبكرًا؟! ماذا يبتغي وهو يشق رحلته نحو التعب والنصب بعد هذا القرار الذي اتخذه؟! ألم يكن في قومه حسيبًا؟ ألم يكن فيهم نسيبًا؟! ألم يكن أغنى قريش؟! ألم يُزوج ممن يبتغي؟! ألم يركبْ أحسنَ ما يبتغي؟! إذن؛ فماذا يبتغي؟! وَلِمَ يبتغي؟!

يقولون: ماذا أنت في الدِّينِ راغبٌ *** وما تبتغي؟! ما تبتغي جَلَّ أنْ يُسمَى

من أنت يا من أخذْتَ مكانك مع الأربعة الأوائل الذين أحاطوا برسول الله وأخذوا مكانهم إلى جواره وأنت تعلم ما سيحيق بك وبإخوانك من كيد وضر وبلاء؟! من أنت وأنت تكابد الهجرة تلو الهجرة بحثًا عن أمان بعدما أحكم القوم إغلاق الأبواب في وجهك، وما كان لك ذنب سوى أن اخترت هذا السبيل، سبيلَ الله؟! من ذلك الرجل؟! لا تسل عنه، إنه:

مَن تلظَّى لُمُوعَهُ كاد يَعْمَى *** كاد من شهـرةِ اسمِهِ لا يُسمَّى
جاء من نفسه إليهـا وحيدًا *** راميـًا أصـله غبارًا وَرَسْمًا
حاملاً عمْرَهُ بـكفَّيْهِ رُمْحًا *** ناقشًا نهجه على القلبِ وَسْمَا
خـالعًا ذاتَـهُ لريحِ الفيافي *** مُلحقًا بالردى وبالعجز وصْمًا

من ذلك الرجل؟! إنه الرجل المهاجر، والحيِيُّ الصابر، دلف إلى دين الله مبادرًا رغم المخاطر! إنه ثالث الخلفاء، وخَدِينُ الحياء، وإمام الشهداء؛ ذو النورين، وصاحب الهجرتين، وقرة العينين لرسول الثَّقَليْن، عثمانُ بنُ عفانَ بنِ أبي العاصِ بنِ أميةَ بنِ عبدِ شمسِ بنِ عبدِ مناف، القرشيُّ الأمويُّ.

بعد أن ذكرنا في مقام سابق صاحبيه أبا بكر وعمر، كان هذا الرجل هو الثالث في جِيد الصحبة والشرف.

إذا ذكر الحياء ذُكر معه عثمان، وإذا ذكرت السماحةُ والبلوى والصبرُ ذُكر معهنَّ عثمان، كان إسلامه وديعًا غضًّا كأنفاس الزهر في فجر الربيع.

لم يكد الصديق أبو بكر -رضي الله عنه- يهمس في سمعه بنبأ الدعوة الجديدة التي يبلغها الرسول عن ربه حتى انفتح قلبُ الرجلِ السمحِ الحييِّ عن آخره، أفينْكصُ عثمانُ على عقبيه وقد جاءته البشرى بظهور رسول الله؟! وأين يذهب إذًا من حيائه؟! إن الحياء ليذوده عن التردد، وإن السماحة لتذوده عن الإرجاء.

استأذن أبو بكر -رضي الله عنه- يومًا على رسول الله وكان الرسول مضطجعًا وقد انحسر جلبابه عن إحدى ساقيه، فأذن لأبي بكر فدخل وأجرى مع الرسول حديثًا ثم انصرف، وبعد قليل جاء عمرُ فاستأذن ومكث مع الرسول بعض الوقت ثم مضى.

وصادف أن جاء بعدهما عثمان -رضي الله عنه- فاستأذن فقعد رسول الله وتهيأ واستعد، فدخل، ثم لما قضى حاجته خرج، فإذا بعائشة -رضي الله عنها- تسأله قائلة: يارسول الله: لم أركَ تهيأت لأبي بكر ولا لعمر كما تهيأت لعثمان؟! فيجيبها الرسول: "إن عثمانَ رجلٌ حييٌ، ولو أذنت له وأنا مضطجع لاستحيا أن يدخل، ولرجع دون أن أقضي له الحاجة التي جاء من أجلها؛ يا عائشة: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟!".

يغضي حياءً ويُغضَى من مهابته *** فما يُكلَّمُ إلا حين يبتسمُ!

أبو عبد الله، عثمان، كان له مع نبي الله أقرب نسب، وأكرم سبب، أذن له رسول الهدى -عليه الصلاة والسلام- أن يمنحه ضياءً من ضياه، فزوجه ابنته رقيةَ ثم أمَّ كلثوم -رضي الله عنهما-، لقد كان نبي الهدى -عليه الصلاة والسلام- وهو يشرفه بهذا الشرف يعرف من هو ابن عفان، ويعلم أنه أهلٌ لهذا المجد المكتسب.

لقد حدَّث عقبةُ بن علقمة، قال: سمعت عليَّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لو أن لي أربعين بنتًا زوجتُ عثمانَ واحدة بعد واحدة، حتى لا يبقى منهن واحدة".

ليهْنِ هذا المبُشَّر بالجنة شرف الدنيا والآخرة! إنه ليعز علينا أن أجيالاً تأتي وتذهب وما قدرت هذا المبشَّر بالجنة قدرَه! بل إنه ليعز علينا أن أجيالاً ما عرفته بكل جمائله، ما عرفته بكل طهره وشمائله، وحيائه، وجهاده المبكرِ بالمال والنفس مع رسول الله.

إنه ليعز علينا أن نقوم هذا المقام لنذكر شذرة من عثمان، ونحن نعلم أنا لن نوفيَه حقه، كيف ذاك؟! أولم يكفِه -رضي الله عنه- أن النبي -عليه الصلاة والسلام- بشّره بدار الخلود؟! أولم يكفِه -رضي الله عنه- هذان النوران من رسول الله؟! أولم يكفه -رضي الله عنه- بشرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه لا يضر عثمانَ ذنبٌ بعد الجهاد الذي جاهد مع رسول الله؟!

إنه ليعز علينا ونحن في هذا العصر الذي نحن أحوج فيه لـ

رجال كالسنابلِ في عطاءٍ *** يُرَون وكالشُّمُوسِ مُنَوِّرِينا

يعز علينا أن نحكي للأجيال ما فعل عثمان -رضي الله عنه- يوم العُسرة، وكأنا ننقل حدثًا عابرًا أو غريبًا! إنه لما خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- فحثّ على جيش العسرة في غزوة تبوك قام عثمان ثم قال: عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها. ثم كرر رسول الله نداءه فقال عثمان -رضي الله عنه-: علي مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها. قال: ثم نزل رسول الله مرقاة من المنبر ثم حثّ على جيش العسرة فقال عثمان: علي مائة أخرى ثالثة بأحلاسها وأقتابها. فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول بيده، يحركها على الأرض فرحًا: "ما على عثمان ما عمل بعد اليوم، ما ضر عثمانَ ما فعل بعد اليوم".

عليك سلامُ اللهِ وقْفًا فإنني *** رأيتُ الكريمَ الحُرَّ ليس لَهُ عُمْرُ

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر:9]. أخرج ابن أبي حاتم عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "ذاك عثمان، ذاك عثمان".

رضي الله عن عثمان، وأصحاب عثمان، وجمعنا بهم في دار خلده، قلت ما قلت، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل خطيئة.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

يحدث أبو موسى الأشعريُّ -رضي الله عنه- ذات يوم أنه قال: كنت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديقة بني فلان، والباب علينا مغلق، إذ استفتح رجل فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا عبد الله بنَ قيس: قم فافتح له الباب، وبشِّره بالجنة"، فقمت ففتحت الباب، فإذا أنا بأبي بكر الصديق، فأخبرته بما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فحمد الله، ودخل، فسلم وقعد، ثم أغلقت الباب.

فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ينكت بعود في الأرض، فاستفتح آخر. فقال: "يا عبدَ الله بنَ قيس: قم فافتح له الباب، وبشره بالجنة"، فقمت ففتحت، فإذا أنا بعمر بن الخطاب، فأخبرته بما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، فحمد الله، ودخل، فسلم وقعد، وأغلقت الباب.

فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ينكت بذلك العود في الأرض، فاستفتح ثالث الباب، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا عبدَ الله بنَ قيس: قم، فافتح الباب له، وبشره بالجنة على بلوى تصيبه"، فقمت ففتحت الباب، فإذا أنا بعثمانَ بنِ عفان -رضي الله عنه-، فأخبرته بما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: الله المستعان وعليه التكلان. ثم دخل فسلم وقعد.

لقد صدقَت كلمات رسول الله، هذا الرجل الشهيد الحبيب، كتب الله له الشهادة وهو في بيته صابرًا محتسبًا يقرأ القرآن، ذهب إلى ربه كريمًا طيب النفس، ما كان ضره أن تسلق داره صبية رضعوا من ثدي الفتن السلولية، ليفجعوا المسلمين به، ألا بورك ذاك الجسد المثخن! وبوركت روحه الناجية! ويا شهيد فضائلك وجمائلك، سلامًا ووداعًا.

إن عثمانَ بن عفان -رضي الله عنه- لا يبتغي منا مقامًا نقفه لنذكر ما نذكر، ولكنا نحن الذين نبتغي! فلماذا عثمان؟!

حين تسقط القدوات، وتُظلِم الشموس النيرات، وتُوحش الطرقات، نحتاج لعثمان لينير لنا بهديه قبسًا، ويشعل في حاضرنا شعلة من هدى وحياء.

لماذا عثمان؟! لتعلم الأجيال أن بني أبينا فيهم رجال! لتعلم الأجيال أن تاريخنا منارة هدي يهيم إلى صوتها اللاهثون، وأن رجال الخلود كثير وما ضرها أن غفا السائرون.

رجالٌ يودُّ الفجر لو كان منْهُمُ *** ليشرقَ فيهم كلَّ ذات صباح

لماذا عثمان؟! لتعلم الأجيال أن عثمان ثالثُ خيرِ من وطئ الحصى بعد نبي الأمة -عليه الصلاة والسلام-.

لماذا عثمان؟! لنتعلم حبَّه، وحبَّ من يحبه، فعثمان لم يدخر لحظة واحدة في سبيل الله إلا أنفقها، ولا درهمَ مالٍ إلا وبعثه حيث يممت به ركائب الجود.

لماذا عثمان؟! لأنا في زمن أصبحت القدواتُ فيه -إلا قليلاً ممن أنجى الله- ذئابًا على أجسادهن ثياب.

لماذا عثمان؟! ليُنزع الستار عن رجل طالما وأدنا ذكره، وغيبنا سيرته عن الأجيال، فأصبحت تلهث خلف مترديةِ الخلائق ونطيحتها، ويخلب لبَّها ما طفا فوق الوديان من جيف الموتى الأخلاقي.

لماذا عثمان؟! لأنا نستحي من الله أن يُصدَّر في حاضرنا أشباه رجال، لتتبعها الأجيال، ولأنا نتسحي من الله أن يُفطم الرضيع عندنا على حب سَفَلَة فَجَرة كَفَرة.

لماذا عثمان؟! لأنا نستحي من الله أن يكون سِنُّ التمييز لأبنائنا هو معرفةَ ذاك اللاعب الفلاني، صاحبِ الرقم الفلاني، ذي البشرة الفلانية، والمركبِ الفلاني.

لماذا عثمان؟! لأنا في زمن شُوه فيه الحياء، لماذا عثمان؟! ليعلمنا الحياء، لماذا؟! ليعلم بعض شبابنا أن تحمر خدودهم خجلاً وحياءً مما كانوا يصنعون! ليعلمنا ويعلم شبابنا أن الرفعة في الدنيا لا تكون بالدون والركضِ خلف السراب وخاطرِ التباب، وأن الذكرى الحسنة بين الناس، لا تكون بعبث الفعل وزوره، ليعلم شبابنا أن المجد والكرم الأخلاقي لا يكونان أبدًا بالدوران، وتصيدِ الغلمان، وتلميع العجلات، واحتساء اللذات؛ ليعلّم عثمان شبابنا أن الخلود والذكرى الحسنة لا تكون بالتقليد، فإن عثمان -رضي الله عنه- لم يستلم دينه وراثة، ولم يحتج يومًا بأنه وجد آباءه على أمة وهو على آثارهم مقتد.

لماذا عثمان؟! ليقول للشباب:

إذا لم تصُنْ عِرضًا ولم تَخْشَ خَالِقًا *** وتَسْتَحْيِ مخلوقًا فما شئتَ فاصنعِ

لماذا عثمان؟! ليعلّم ذوات الخدور أن يلتقِطْنَ ما تساقط من حيائهنّ في الشارع وفي السوق وعند الرجال الأجانب، ليعلّم هذا الرجلُ الذي تستحي منه الملائكة إماء الله الحياء من الله، رجل تستحي منه الملائكة لحيائه وهو رجل! فكيف لو رأى نساءً للصوت رافعات، وللسواعد مشمرات، وللصدور كاشفات، وفي الأسواق متسكعات، وبالأجانب في أماكن العمل مختلطات؟!

إنا لنشكو إلى الله نساءً:

ذبَحْنَ الحياءَ على غِرَّةٍ *** وجِئْنَ يصِحْنَ بأعلى الطريق

إنا لنشكو إلى الله قلة حيلتنا، ونشكو إليه من أن أحدنا لا يستطيع الذهاب لسوق يقضي به بغيته، كيف يذهب وقد اقتُحم سوقُ الحياء العثماني؟!

لماذا عثمان؟! لعل الله أن يبعث لأمّتنا عثمان آخر يجدد لها حياءها.

لماذا عثمان؟! ليجدد لنا حقبة الفدائية، حين لم يتكل عثمان على غيره، ولم يركن لكثرة الناس؛ ليجهز جيش العسرة بأكمله، بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها! ليبعث له النبي -عليه الصلاة والسلام- صك الخلود والبُشرى الأبدية التي تحفّه أبد الآبدين: "ما ضَرَّ عثمانَ ما فعل بعد اليوم".

لماذا عثمان؟! ليعلمنا الفدائية للدين، وإخوان الدين! كيف لو علم أن بالشام جرحًا نازفًا!!

يمزّقُ قلبي أرى جُرْحَهُمْ *** وعثمانُ ليس هنا في الدِّيَارِ
***
سلامًا سلامًا سيد الجود والفدى *** جلالك موفورٌ وعهدُكَ مُكْرَمُ

اللهم ارض عن عثمان، وعن أصحاب عثمان، وصل اللهم على نبي عثمان، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم أعز الإسلام...
 

 

 

 

المرفقات

عثمان؟!

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات