عناصر الخطبة
1/أهمية القصص القرآني 2/ قصة سبأ وسقوط حضارتها 3/ دروس وعبر من القصةاقتباس
وهكذا سقطت حضارة سبأ وهوت نتيجة التمادي في العصيان وجحود النعم. وإنها سنة الله لا تتبدل، وتقديره المحكم الشامل الذي لا يقهر ولا يتخلف عن موعده حين يغلب الشر، ويأخذ طابع التحدي والغطرسة والكبرياء، تأتي العقوبة أهله في أبرز رموزهم، وأشمخ معالمهم، وبأبسط الأسباب.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: أيها الناس، فإن القصص في القرآن جزءٌ شغل آياتٍ كثيرةً منه، وسوراً متعددة، وما ذاك إلا لأهميته وبالغ أثره في النفوس، (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ) [يوسف:111]، ولأولي الألباب فقط، فما كل النفوس تعتبر، ولا كلها تدكر.
ومن جملة ما ورد قصصه في القرآن قصة سبأ، وسبأ قبيلة في اليمن يسكنون مأرب، وقد ارتقوا في سلم الحضارة حتى تحكموا في مياه الأمطار الغزيرة التي تنزل عليهم، فأقاموا خزاناً طبيعياً يتألف جانباه من جبلين، وجعلوا على فم الوادي بينهما سداً به عيون، تفتح وتغلق، فيتحكمون في أخذ ما شاؤوا من الماء وفق حاجتهم، وذلك ما عرف في التاريخ بسد مأرب.
وأقاموا على جنباته عن يمين وشمالٍ جنات تغدق عليهم المحاصيل والخيرات، وتبهج نفوسهم بمناظرها الخلابة، ليس هذا فقط، وإنما جعل الله بلدتهم طيبة؛ لحسن هوائها، وقلة وخمها وأمراضها. ومع ذلك وفوق ذلك كله وعدهم الله بالمغفرة والرحمة، فقال: (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) [سبأ:15].
ومن الطبيعي أنهم يحتاجون في تجارتهم ومكاسبهم إلى التنقل والسفر، فهيأ الله لهم من الأسباب ما به يتيسر وصولهم إليها في غاية السهولة من الأمن وعدم الخوف، وتواصل القرى بينهم وبين ما يسافرون إليها، فلا يعانون من مشقة البعد، ووحشة الطريق، وقلة الزاد.
وإن هذه النعم تقتضي أن ينبعث في نفوسهم شكرُ الله على ما أدرّ عليهم ورزقهم منها، وصرف عنهم ضدها من النقم، لكنهم قابلوها بالإعراض والبطر، وملّوا تلك النعم، وظلموا أنفسهم بكفرهم بالله ونعمته، فسلبهم الله -تعالى- تلك الأسباب التي جلبت لهم الرخاء والعيش الجميل، حين أرسل الله إليهم سيل العرم، وهو الجارف الذي يحمل الحجارة لشدة تدفقه، حتى حطم سدهم، فانساحت المياه منه، وطغت وأغرقت، فلم يَعُد الماء يُخزن، وكان نتيجة ذلك الجفاف والقحط الذي أعقبه يُبْسُ وتحول تلك الجنان الفيح إلى صحراء تتناثر فيها الأشجار البرية الخشنة؛ (ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) [سبأ:17].
لكنهم، مع هذه العقوبات والرسائل البالغة من السماء، لا يزالون في بيوتهم وقراهم، إذ أبقى الله -تعالى- لهم بعضاً من وسائل العيش، وجانباً من التمكين؛ لعلهم يرجعون، فالتنقل لا يزال سهلاً وميسوراً لو أرادوا القرى المباركة: مكة في الجزيرة وبيت المقدس في الشام، كل هذا بعد تحطيم السد وهدمه، لكنَّ الشقوة غلبت عليهم، فسألوا الله -تعالى- أن يباعد أسفارهم بين قراهم وبين القرى المباركة، حينها فرق الله جمعهم وتمزقوا، وجعلهم أحاديث يتناقلها الآخرون، ويتحدث بها السُّمَّار.
وهكذا سقطت حضارة سبأ وهوت نتيجة التمادي في العصيان وجحود النعم. وإنها سنة الله لا تتبدل، وتقديره المحكم الشامل الذي لا يقهر ولا يتخلف عن موعده حين يغلب الشر، ويأخذ طابع التحدي والغطرسة والكبرياء، تأتي العقوبة أهله في أبرز رموزهم، وأشمخ معالمهم، وبأبسط الأسباب.
أيها المسلمون: علمنا مما سبق كيف أُخذت سبأ في أبدع معلم لحضارتها وهو السد، وكان بداية نهايتهم، ولا يظلم ربك أحداً، والشيء الذي لا بد من الإشارة إليه والتذكير به أن قبيلة سبأ ليست كلها كفرت نعمة الله، وإنما الغالب منهم كذلك.
لكن لا يمنع أن يوجد منهم الصالحون، وهذا ما أشير إليه بالآية الكريمة في قول الله -تعالى-: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) [سبأ:20]، فالغالبية العظمى صَدَق فيهم ظنُّ إبليس حين قال: (وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر:39-40]، وهذا ظن من إبليس ليس يقيناً، فهو لا يعلم الغيب، ولم يأته خبر من الله أنه سيغويهم أجمعين إلا من استثنى، لكن الشر والخبث إذا غلب وطغى حلت العقوبة، ونزلت الكارثة.
اللهم عرفنا نعمك، وأوزعنا شكرها، واعف عنا، وتقبل منا...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم