لعلكم تتقون

ناصر بن محمد الأحمد

2016-06-01 - 1437/08/25
عناصر الخطبة
1/ المقصد الأعظم من كل التشريعات في الإسلام 2/ سمات التقوى ورفعة مكانة أهلها 3/ الحكمة من تشريع الصيام 4/ كثرة الوصية بالتقوى في القرآن والسنة 5/ تعريف التقوى وبيان حدودها 6/ مكانة التقوى عند السلف الصالح 7/ منازل المتقين عند رب العالمين 8/ ثمرات التقوى وآثارها في الدنيا والآخرة.

اقتباس

إن التقوى من أهم الصفات التي يحرص الإسلام على تحلِّي المسلمين بها، لما لها من أثر عظيم على حياة المسلم في الدنيا، ولما يناله بسببها من خيرات الآخرة وكرامتها، لذلك كان المقصد الأعظم والهدف الأسمى من كل التشريعات هو الوصول بالمسلم إلى منـزلة المتقين.. وقد أظلّتنا المنحة السنوية والنفحة الربانية، فأقبل علينا شهر رمضان الذي كتب الله علينا صيامه، وسنّ لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قيامه، حتى نحقق فيه التقوى ونتحلى بها..

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله ..

 

أما بعد: أيها المسلمون: قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183].

 

إن التقوى من أهم الصفات التي يحرص الإسلام على تحلِّي المسلمين بها، لما لها من أثر عظيم على حياة المسلم في الدنيا، ولما يناله بسببها من خيرات الآخرة وكرامتها، لذلك كان المقصد الأعظم والهدف الأسمى من كل التشريعات هو الوصول بالمسلم إلى منـزلة المتقين. ونحن حين ننظر فيما أمر الله تعالى به أو نهى عنه، سواء ما كان متعلقاً بالقلب أو بالجوارح، نجد النصوص الواردة فيها كلها تؤكد على تلك الحقيقة.

 

والتقوى: حالة قلبية ومنـزلة إيمانية رفيعة، ومرتقىً عالٍ لا يُنال إلا بالمجاهدة والمصابرة، فهي تطبع صاحبها بطابَع الخشية لله في السر والعلن، كما تحمله على المراقبة الدائمة لأقواله وأفعاله ومقاصده، وتتعاهد قلبه حتى لا يعكّر صفو إيمانه شيء مما يدخل به الشيطان على النفوس، فلا يكاد يُدخِل الشيطان عليه شيئاً من باطله إلا انتبه له.

 

فالتقوى تجعل للمسلم حاسة قوية يدرك بها كيد الشيطان، فإذا مر به الخاطر الشيطاني فإن تقواه تعصمه منه حتى يصير مستبصراً مستيقظاً وعارفاً بمداخله وضلالاته كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُون) [الأعراف : 201].

 

فتجعل التقوى من داخل المسلم على نفسه حسيباً رقيباً، يمسك بزمامها ويقهرها قهراً على فعل الطيبات وترك المنكرات، حتى تلين ويسلس قيادها له، فلا تعود تأمره إلا بخير ولا تدله إلا على خير، وتلتصق التقوى به التصاقاً حتى تصير له بمنـزلة اللباس الذي لا يفارقه. قال الله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُون) [الأعراف : 26]، فكما أن اللباس كان زينةُ الظاهر فإن التقوى زينةُ الباطن ولا تكمل الزينةُ إلا بوجود الزينتين.

 

أيها المسلمون: وقد أظلّتنا المنحة السنوية والنفحة الربانية، فأقبل علينا شهر رمضان الذي كتب الله علينا صيامه، وسنّ لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قيامه، حتى نحقق فيه التقوى ونتحلى بها.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183]. فليس المقصود من الصيام الجوع والعطش المجردين من تأثيرهما على المسلم. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من لم يَدَعْ قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يَدَعَ طعامه وشرابه" (رواه البخاري).

 

والزور يشمل الكذب والجهل والسفه، وقد بيَّن الله -تعالى- أن القصد من كل ما شرعه سواء في العقيدة أو الشريعة أن تصبح التقوى صفة لازمة للمسلم، ففي ستة مواضع من القرآن يعقِّب الله -تعالى- على التشريع بقوله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون) [البقرة : 183]، وفي ستة مواضع أخرى بلفظ: (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون).

 

 ولذلك جاء الأمر بالتقوى والوصايةُ بها لكل من أرسل الله -تعالى- لهم الرسل، فقال تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّه) [النساء : 131]، وكانت وصية الرسول -صلى الله عليه وسلم-لبعض أصحابه الأمر بالتقوى، فقال لأبي ذر -رضي الله عنه-: "اتقِ الله حيثما كنت" (رواه الترمذي).

 

وعن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: "صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-الصبح فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا! فقال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة" (رواه الترمذي).

 

وقال أنس -رضي الله عنه-: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-فقال: يا رسول الله! أريد سفراً فزوّدني! فقال: "زوّدك الله التقوى" رواه الترمذي. فأولَ ما بدأ به التقوى. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا بعث أميراً على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً.

 

وكان الأمر بالتقوى وصية الرسل لأقوامهم، فها هو ذا نوح وهود وصالح ولوط عليهم السلام كل منهم يقول لقومه: (أَلاَ تَتَّقُون).

 

وكانت وصية أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-من بعد ذلك، فها هو ذا أبو بكر رضي الله -تعالى- عنه خطب في المسلمين، فقال: "أوصيكم بتقوى الله"، وها هو ذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: "أوصي الخليفة من بعدي بتقوى الله".

 

وقد جاء الأمر بالتقوى في كتاب الله -تعالى- في أكثر من ستين موضعاً، وبجولة يسيرة على آيات الكتاب العزيز نجد أن المراد من المأمور به أو المنهي عنه تحقيق التقوى. قال الله -تعالى- في أصل الأمر بالإيمان: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون) [البقرة : 21].

 

 وبيَّن حكمته في الأمر بالقصاص فقال: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون) [البقرة : 179]، وقال عندما أمر عباده بالصيام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون) [البقرة : 183].

 

ولما أمر عباده باتباع الصراط المستقيم والبعد عن الطرق المخالفة له قال سبحانه: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون) [الأنعام : 153].

 

وقد تكلم أهل العلم عن حد التقوى، فعن علي رضي الله -تعالى- عنه قال: "التقوى: الخوف من الجليل، والعمل بالتنـزيل، والرضى بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل". وعن أبي هريرة رضي الله -تعالى- عنه: "أن رجلاً قال له: ما التقوى؟ قال: هل وجدت طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم! قال: فكيف صنعتَ؟ قال: إذا رأيت الشوك عدلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه. قال: ذاك التقوى".

 

 وقال ابن القيم -رحمه الله-: "وأصل التقوى معرفة ما يُتقى ثم العمل به، فالواجب على كل عبد أن يبذل جهده في معرفة ما يتقيه مما أمره الله به ونهاه عنه، ثم يلتزم طاعة الله ورسوله".

 

 وقال أيضاً -رحمه الله-: "وأما التقوى فحقيقتها العمل بطاعة الله إيماناً واحتساباً أمراً ونهياً، فيفعل ما أمر الله به إيماناً بالأمر وتصديقاً بوعده، ويترك ما نهى الله عنه إيماناً بالنهي وخوفاً من وعيده، كما قال طلق بن حبيب: "إذا وقعت الفتنة فأطفئوها بالتقوى! قالوا: وما التقوى؟ قال: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله، وهذا أحسن ما قيل في حد التقوى".

 

بارك الله ..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ..

 

أما بعد: أيها المسلمون: لقد بيّن الله -تعالى- أن خير ما يتزود به الإنسان في سفره إلى الله والدار الآخرة هو التقوى، فقال تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَاب) [البقرة : 197].

 

وروي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه خرج إلى المقابر، فلما أشرف على أهل القبور رفع صوته فنادى: "يا أهل القبور! أتخبروننا عنكم أو نخبركم خبر ما عندنا؟ أما خبر ما قِبَلَنا فالمال قد اقتُسِمَ، والنساء قد تزوجن، والمساكن قد سكنها قوم غيركم، هذا خبر ما قِبَلَنا، فأخبرونا خبر ما قِبَلَكم؟، ثم التفت إلى أصحابه فقال: أمَا واللهِ لو استطاعوا أن يجيبوا لقالوا: لم نرَ زاداً خيراً من التقوى".

 

ويقول ابن القيم -رحمه الله-: "فكما أنه لا يصل المسافر إلى مقصده إلا بزاد يبلِّغه إياه، فكذلك المسافر إلى الله -تعالى- والدار الآخرة لا يصل إلا بزاد من التقوى".

 

وقد ربط الله الفلاح بالتقوى فقال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون) [البقرة : 189]، فالذي يُرجى فلاحه هو المتقي. وكانت من أعظم المنّة على المتصفين بصفة التقوى أن الله -تعالى- لم يجعل له أولياء غيرُهم فقال تعالى: (إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتَّقُون) [الأنفال : 34]، وحصر قبول الأعمال فيهم فقال تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المتَّقِين) [المائدة : 27]، حتى يقول أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "لَأَن أَستيقِنُ أن الله قد تقبل مني صلاة واحدة أحب إليّ من الدنيا وما فيها، إن الله يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المتَّقِين) [المائدة : 27]".

 

وكان مطرّف بن عبد الله يقول: " اللهم تقبل مني صلاة يوم، اللهم تقبل مني صوم يوم، اللهم اكتب لي حسنة، ثم يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المتَّقِين) [المائدة : 27]".

 

وقد خص الله أهل التقوى بمعيّته التي لا يضام من كان معه فقال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِين) [البقرة : 194]، قال قتادة: "من يتقِ الله يكن معه، ومن يكن الله معه، فمعه الفئة التي لا تُغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل".

 

وجعل الله لأهل التقوى محبته فقال: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين) [آل عمران: 76]. ومن كرمهم على ربهم أنهم يُحشرون إليه وفداً: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا) [مريم : 85]. وجعل الله للمتقين بصيرة نافذة تورثهم فرقاناً يفرقون به بين الحق والباطل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم) [الأنفال : 29].

 

وبالتقوى يَحفظ المسلم ذريته بعد موته، فمن أهمّه أمر ذريته بعد الموت فليتق الله ربه، قال الله تعالى: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا) [النساء: 9].

 

وكانت تقوى الله -تعالى- هي المخرج للمسلم من المضايق الدنيوية والأخروية، وهي السبيل إلى سعة الرزق حيث يأتيه الرزق من حيث لا يتوقع: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِب) [الطلاق : 2-3].

 

وفي تقواه -تعالى- تكفير السيئات وتكثير الأجر وتعظيم الثواب: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) [الطلاق : 5]، وكانت تقوى الله مما ييسر للعبد أمور دينه ودنياه: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) [الطلاق : 4]، وجعل للمتقين أعظم الانتفاع والاهتداء بالقرآن: (ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين) [البقرة : 2].

 

 ومن كرامة أهل التقوى على الله فقد أعدَّ لهم جنات عريضة لا يقدرها حق قدرها إلا الذي خلقها: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين) [آل عمران : 133]، وعندما يَرِدُ الناس على الصراط فلا ينجو مما هم عليه إلا المتقون: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم : 72].

 

أيها المسلمون: هذه منح عظيمة وعطايا ربانية لا يقدر أن يحدها حادّ، وها هو ذا شهر الصيام، شهر التقوى والقيام ومدارسة القرآن، شهر الجود والإحسان، أقبل علينا بخيره ومِنَحِه وبركاته، فهل من إقبال صادق على الله يقدِّر هذا الشهر حقه وقدره، وأوبة وتوبة يمحو الله بها الخطايا ويقيل بها من العثرات ويقي من الزلل، ونكون بها من المتقين؟

 

اللهم اكتب لنا ذلك واجعلنا من الذين يتقونك حق التقوى ..

 

اللهم ..

 

 

المرفقات

تتقون1

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات