كيف تحل خلافات الكبار

الشيخ خالد القرعاوي

2022-10-04 - 1444/03/08
عناصر الخطبة
1/ الحث على تدبر القرآن وقصصه ومواعظه 2/ تأملات في قصة المجادلة 3/ فنون حل المشكلات الزوجية 4/ طريقة المرأة الذكية في التعامل مع المشكلات الأسرية.

اقتباس

في قَصَصِ القُرآنِ عِظَاتٌ وعبرٌ، ودروسٌ وآياتٌ! نقفُ اليومَ وقفةَ إجلالٍ وإكبارٍ لِسيِّدَةٍ من نِساءِ المُؤمنينَ نَزَلَ فِيها وفي زَوجِها قُرآنٌ يُتلى إلى يومِ القيامَةِ، هذهِ المرأةُ قد سَمِعَ اللهُ شَكواها! وَأَجَابَها مِن فَوقِ سَبعِ سَمَواتِهِ! هذهِ المرأةُ وَفِيَّةٌ مَع زَوجِها حَرِيصَةٌ على بَيتِها! لِذلكَ صارت تُجادِلُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في شَأنِها حتى خفَّفَ اللهُ عنهما وعادتْ لَهُما حياتُهما.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ للهِ لا نُشركُ معَ اللهِ أَحدا، سبحانهُ لم يَتَّخِذْ صَاحِبةً ولا وَلَدا، نَشهدُ ألَّا إله إلَّا اللهُ وحده لا شريكَ له في رُبُوبِيَّتِهِ، ونَشهدُ أنَّ مُحمَّدا عبدُ اللهِ ورسولُه خيرُ بَرِيَّتِهِ، الَّلهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آلِهِ وصحَابَتِهِ.

 

أمَّا بعدُ فاتَّقوا اللهَ يا مؤمنُونَ وتأمَّلوا في قَصَصِ القُرآنِ فَفِيها عِظَاتٌ وعبرٌ، ودروسٌ وآياتٌ! نقفُ اليومَ وقفةَ إجلالٍ وإكبارٍ لِسيِّدَةٍ من نِساءِ المُؤمنينَ نَزَلَ فِيها وفي زَوجِها قُرآنٌ يُتلى إلى يومِ القيامَةِ، هذهِ المرأةُ قد سَمِعَ اللهُ شَكواها! وَأَجَابَها مِن فَوقِ سَبعِ سَمَواتِهِ! هذهِ المرأةُ وَفِيَّةٌ مَع زَوجِها حَرِيصَةٌ على بَيتِها! لِذلكَ صارت تُجادِلُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في شَأنِها حتى خفَّفَ اللهُ عنهما وعادتْ لَهُما حياتُهما.

 

وللحقِّ أيُّها الكرامُ: ففي قصَّتِها دُرُوسٌ للأزواجِ والزَّوجاتِ خَاصَّةً الكِبَارَ، وَقدْ بِتْنَا نَسمَعُ عنْ مَشَاكِلَ زَوجِيَّةٍ وَخِلافَاتٍ أُسَرِيَّةٍ بينَ الكِبَارِ خَاصَّةً، وَصَلَ بَعْضُها إلى الطَّلاقِ. بَعدَ عِشْرَةٍ دَامَتْ عَشَراتِ السِّنِينَ!

 

فَتَعَالَوا بِنا يَا كِرَامُ نَستَمِعُ إلى خَبَرِ المَرْأةِ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ في شأنِها، ففي الحديثِ الطَّويلِ بطُرقٍ عِدَّةٍ ورواياتٍ مُتعدِّدَةٍ عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ رضي الله عنها: قَالَتْ: فِيَّ وَاللَّهِ وَفِي أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ أَنْزَلَ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلاَ- صَدْرَ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ، فقد كُنْتُ عِنْدَهُ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ سَاءَ خُلُقُهُ، وَضَجِرَ، فَدَخَلَ عَلَيَّ يَوْمًا فَرَاجَعْتُهُ فِي شَيْءٍ، فَغَضِبَ، وَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ خَرَجَ!

 

هذا هو المشهدُ الأولُ يا مؤمنونَ: زوجانِ لهما في العشرةِ مُدَّةٌ طَويلَةٌ وبينهما ذُرِّيةٌ كثيرةٌ! والزَّوجُ بعدَ هذا العُمُرِ قد تَسُوءُ أَخلاقُهُ، وَيَكثُرُ ضَجَرُهُ ومَلَلُهُ! فهو لا يَتَحمَّلُ كَثرةَ الأَعبَاءِ، ولا كَثرةَ الطَّلباتِ، ولا كثرةَ النِّقاشِ والإلحاحِ! ولكنَّ خَولَةَ رضيَ اللهُ عنها نَسَتْ نَفسَها يوماً فَأَكثَرَتْ عليه الإِلحَاحَ والطَّلبَ، وهذه مُشكِلَةُ بعضِ الزَّوجاتِ أنَّها لا تُحسِنُ عَرْضَ الطَّلَبِاتِ ولا تَوقيتَها فَتَنشَأُ المَشَاكِلُ من هاهُنا!

 

فَقالَ زَوجُها أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ رضيَ اللهُ عنه وهو في حالَةِ غضبٍ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، ومعناهُ أنَّكِ تَحرُمينَ عليَّ كما تَحرمُ أُمِّي عليَّ، وقد كانَ هذا يُعدُّ طَلاقاً في الجاهِليَّةِ، ثُمَّ خَرَجَ زَوجُها فَجَلَسَ فِي نَادِي قَوْمِهِ سَاعَةً، قالت: ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ، فَإِذَا هُوَ يُرِيدُنِي عَلَى نَفْسِي، فقُلْتُ: كَلاَّ وَالَّذِي نَفْسُ خُوَيْلَةَ بِيَدِهِ، لاَ تَخْلُصُ إِلَيَّ، وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِينَا بِحُكْمِهِ، قَالَتْ: فَوَاثَبَنِي، فَامْتَنَعْتُ مِنْهُ، فَغَلَبَتْهُ بِمَا تَغْلِبُ بِهِ الْمَرْأَةُ الشَّيْخَ الضَّعِيفَ، فَأَلْقَيْتُهُ تَحْتِي،  ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى بَعْضِ جَارَاتِي، فَاسْتَعَرْتُ مِنْهَا ثِيَابًا.  

 

وهذا هو المَشهَدُ الآخَرُ: لقد عادَ الزَّوجُ إلى بيتِهِ وقد هَدَئَت نَفسُهُ فَأَرَادَ أن يُعاشِرَ زوجتَهُ، وكأنَّهُ نَسيَ مَا صَدَرَ منهُ من قَولٍ مُنكَرٍ وعَظيمٍ!  وهذهِ مُشكِلَةُ بعضِ الأَزوَاجِ أنَّهم لا يُحسِنونَ التَّصرُّفَ حِيَالَ المَشَاكِلِ الزَّوجِيَّةِ فتَجدُهم يَتَصرَّفونَ أو يَتَلفَّظُونَ بما يَندَمونَ عليهِ، أو قد يكونُ سبباً لِفراقِ زوجَتِهِ وهدمِ أسرتِهِ! فكم سَمِعتم وَسَمعنا أُناساً يقولونَ: ضَربْنا زوجاتِنا في حالَةِ غَضَبٍ! أو لعَّنا في حالَةِ غَضَبٍ! أو طلَّقنا في حالَةِ غَضَبٍ؟

 

والحَقُّ يَا كِرَامُ أنَّ العاقِلَ مَن يَملِكُ نفسهُ عندَ الغضب! وقَدْ قالَ -صلى الله عليه وسلم-: "عَلَامَ يَضْرِبُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ ضَرْبَ الْعَبْدِ، ثُمَّ يُضَاجِعُهَا مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ". وخَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ رضي الله عنها، من حِرصِها على دِينِها امْتَنَعَتْ مِنْ أنْ يُعاشِرَها ليسَ كُرهاً لَهُ،  إنَّما بسببِ قَولتِهِ العظيمَةِ!  حتى تأتيَ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَتَعرِضَ مُشكِلَتَها عليهِ! فقد كانَ مَبدَؤها في الحياةِ أوَّلاً: تَعظِيمُ حُدُودِ اللهِ تعالى، وأنَّهُ «لا طاعةَ لِمخلُوقٍ في مَعصِيَةِ الخَالِقِ».

 

قالت: ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَذَكَرْتُ لَهُ مَا لَقِيتُ مِنْهُ، فَجَعَلْتُ أَشْكُو إِلَيْهِ مَا أَلْقَى مِنْ سُوءِ خُلُقِهِ، واستَمِعُوا يا رعاكُمُ اللهُ: كيفَ عَرضَت أَمرَها بِأُسلوبٍ فَذٍّ، قالت يا رسولَ اللهِ: إنَّ أَوسَاً تَزوجَنِي وأنَا شَابَّةٌ مَرغُوبٌ فِيها فَلَمَّا كَبُرْتُ وَمَاتَ أَهْلِي، ظَاهَرَ مِنِّي! وَجَعَلَنِي عَليهِ كَأُمِّهِ! وإنَّ لِي مِنْهُ صِبْيَةً صِغَارَاً، إنْ ضَمَمْتُهُمْ إلَيْهِ ضَاعُوا، وَإنْ ضَمَمْتُهُمْ إليَّ جَاعُوا! فكانَ رسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لا يزيدُ عن قولهِ: «مَا أرَاكِ إلاَّ وَقَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ».

 

وهي تقولُ: أَحينَ أَكَلَ شَبَابِي يا رسولَ اللهِ وَنَثرتُ لَهُ بَطْنِي وَكَبُرَ سِنِّي وانْقَطَعَ وَلَدِي ظَاهَرَ مِنِّي؟ فصارَت تُجادِلُ رسولَ اللهِ وتُراجِعُهُ وهو لا يَزيدُ عن قولهِ -صلى الله عليه وسلم-: «مَا أرَاكِ إلاَّ وَقَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ» فقالت: "اللَّهُمَّ إَلَيْكَ أَشْكُو حَالِي وانْفِرَادِي وَفَقْرِي" فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: يَا خُوَيْلَةُ، ابْنُ عَمِّكِ شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَاتَّقِي اللَّهَ فِيهِ. وهذا مَشهدٌ آخَرُ:  فَخَولَةُ أَحسَنَتِ الاختيارَ حينَ تَوجَّهت لِرسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- تَطلُبُ رأيهُ وحُكمَهُ ومُشورتَهُ.

 

وكم من الزَّوجاتِ من لا تُحسِنُ اختيارَ مَنْ تستشيرُ ولا مَنْ تَستفتِي؟! فَعَلَى الزَّوجينِ حينَ الخلافِ، أنْ يُحسِنا الاختيارَ لِمَنْ هو أَوثَقُ بِدِينِهِ وعقلِهِ، وأنْ نحذرَ من المَكَاتِبِ المُستَرزِقَةِ التي تَقتَاتُ على مَشاكِلِ النَّاسِ وَحَاجَاتِهم؟ أو نِسَاءٍ لا يَفْقَهْنَ فِي حَلِّ المَشَاكِلِ فَيُسِئْنَ أَكْثَرَ مِنْ أنْ يُحْسِنَّ.  واللهُ تعالى يَقُولُ: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) [النساء: 35].

 

وقد هيَّأ اللهُ لنا بحمدِهِ فِي مُحافَظَتِنا أُناساً مُخلِصينَ، مُحتَسِيبِنَ الأجرَ من اللهِ تعالى، عبرَ لِجانٍ إصلاحِيَّةٍ،  وَمَكَاتِبَ استشَارِيَّةٍ مَوثُوقَةٍ،  فَوجِّهُوا مَنْ يَحتاجونَ إليهم. عِبَادَ اللهِ: خَولَةُ عاقِلَةٌ، فَلَيسَ هَدَفُها الانتصارَ للنَّفسِ إنَّما مَصلَحةُ البيتِ والأولادِ فوقَ كلِّ شيءٍ، فهي لم تَطلُبِ الطَّلاقَ كفعلِ بعضِ النِّساءِ في وَقْتِنَا! عندَ أَدنَى خِلافٍ تُطالِبُ الزَّوجَ بالطَّلاقِ، بل وتَتحدَّاهُ وتُراهِنُ على رُجولَتِهِ وأنَّهُ لا يستَطيعُ طَلاقَها!  

 

ويا سُبحانَ اللهَ وَكَأَنَّ بَعضَ النِّساءِ لم يَسْمَعْنَ قولَ رسُولِنا -صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ». فالقِصَّةُ بِذَلِكَ تَفتحُ لنا بَابًا عَظِيمًا في تَربِيَةِ الأسرةِ على أَدَبِ الاختِلافِ، والخِلافِ. لقد علَّمتنا القِصَّةُ: أنَّ الالتجاءَ إلى اللهِ سَبَبٌ لِتفريجِ الكُروبِ وَتَنفِيسِها، فحينَ قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: «لم يُوحَ إليَّ فِي هَذا شَيءٌ» عَلِمَت خَولَةُ -رضيَ اللهُ عنها- أَنَّ الأَمرَ مُنتَهٍ،  فَوجَّهت شَكوَاها إلى السَّمِيعِ البَصِيرِ، فماذا حدَثَ يا تُرى؟ قليلاً بإذنِ اللهِ نسمعُ وَنَرَى.

 

 فاللهُمَّ أَلهِمنَا رُشدَنا وقِنَا شَرَّ أنفُسِنَا والشَّيطانِ، ونعُوذُ باللهِ من شَرِّ الإنسِ والجآنِّ، وكُلِّ مُفسدٍ فتَّانٍ،  واستغفروا اللهَ إنَّهُ غَفُورٌ رحيمٌ.        

 

 

الخطبةُ الثانيةُ:

 

الحمدُ لله المطَّلعِ على أَسرَارِ الغُيُوبِ، الرَّقِيبِ ببواطنِ القلوبِ، نَشهدُ ألَّا إله إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، عَدلٌ في قَضائِهِ، حَكيمٌ في أَفعَالِهِ، قَائمٌ على خَلقِه بِالقِسطِ، (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام: 103].

 

وَنَشهدُ أنَّ مُحمداً عبدُ الله وَرَسُولُه، بَلَّغَ الرِّسَالَةَ، وَأَنْقَذَنا  مِن الضَّلالَةِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليه وعلى آلِهِ وأَصحَابِه وأتباعِهِ بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يوم الدِّينِ.

 

أمَّا بعد: فَلْنتَّقِي اللهَ يا مؤمنونَ حَقَّ تُقاتِهِ، ولْنُعطِ كُلَّ ذِي حقٍّ حقَّهُ، فإنَّا واقِفُونَ بينَ يدي حَكَمٍ عَدلٍ، سَمِيعٍ بَصِيرٍ سُبحانَهُ وَبِحمدِهِ، واللهُ عليمٌ بِبَواطِنِ الأمُورِ وَظَوَاهِرِها. والمَشهدُ الرَّابعُ يا مؤمنونَ في قِصَّةِ المُجادِلَةِ: يتَمثَّلُ في قولِ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ رضي الله عنها: فَوَ اللَّهِ مَا بَرِحْتُ من عندَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَتَغَشَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا كَانَ يَغْشَاهُ،  ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا خُوَيْلَةُ، قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ فِيكِ وَفِي صَاحِبِكِ قُرآناً،  ثُمَّ قَرَأَ عَلَيَّ: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ) [المجادلة: 1] الآياتِ.

 

اللهُ أكبرُ عبادَ اللهِ: اللهُ جلَّ في عُلاهُ يَستَمِعُ إلى شَكوى أُسرَةٍ صَغِيرَةٍ! لا يُشغلِهُ عن سَمَاعِهم شيءٌ! إنِّها مَعِيَّةٌ خاصَّةٌ من اللهِ تعالى لِلمؤمنِ، أَنْ يَشعُرَ المُؤمِنُ أنَّ اللَّهَ معه حَاضِرٌ شُؤونَهُ، عالِمٌ بِحالِهِ، مُطَّلِعٌ على أَسرَارِهِ، مَعنِيٌّ بِمُشْكِلاتِهِ،  مُستَجِيبٌ لِحاجاتِهِ! إنَّهُ اللَّهُ الكبيرُ المُتَعَالُ، ذو العَظَمَةِ والجلالِ!

 

وهنا مَلمَحٌ تَربَويٌّ عَظِيمٌ لَطَالَمَا استشعَرَتهُ أُمُّنا عَائِشَةُ -رضي الله عنها-، وهي في نَفْسِ البيتِ الذي جَاءَت فيهِ المُجادِلَةُ إلى رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلَيسَ بينهم وَبَينَ عَائِشَةَ إلاَّ سِترٌ رقيقٌ فهيَ في طَرفِ المَنزِلِ وتسمعُ بعضَ الكلامِ وَيخفَى عليها أكثَرُهُ! فكانت تقولُ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ تَشْكُو زَوْجَهَا، وَمَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ! حتى أَنْزَلَ اللَّهُ: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [المجادلة: 1]"، فسبحانَ من يَسمَعُ الأصواتِ والهَمَسَاتِ، ويطَّلِعُ على مَكنونِ القُلُوبِ والخفِيَّاتِ: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر: 19].

 

فَيَا أيَّتُها المَكْلُومَةُ يا أيَّتُها المَظْلُومَةُ إلجَئي إلى اللهِ تَعَالى دُعَاءً وَرَجَاءً وتَحَسُّبَاً على كُلِّ ظَالِمٍ، وَطَالِبِي بِحُقُوقِكِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ شَرْعِيَّةٍ.

 

عبادَ اللهِ: ولِسائلٍ أنْ يقُولَ: فَمَا الحلُّ لِمُشكِلَةِ المُظاهرِ؟ فالجَوابُ: مَا أمرَ اللهُ بهِ رَسُولَهُ -صلى الله عليه وسلم- أنْ يقولَ لَها: مُرِيهِ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عِنْدَهُ مَا يُعْتِقُ بهِ من الفَقْرِ قَالَ: فَلْيَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، قَالَتْ: إِنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ، مَا بِهِ مِنْ قُدرَةٍ على الصِّيامِ، قَالَ: فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ، قالت: مَا ذَلِكَ عِنْدَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: فَإِنَّا سَنُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ، قَالَتْ: وَأَنَا سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: أَصَبْتِ، وَأَحْسَنْتِ، فَاذْهَبِي فَتَصَدَّقِي بِهِ عَنْهُ، ثُمَّ اسْتَوْصِي بِابْنِ عَمِّكِ خَيْرًا، قَالَتْ: فَفَعَلْتُ.

 

هكذا أَحْسَنَت خَوْلَةُ -رَضِي اللهُ عَنها- إدارةَ المُشكِلَةِ وأحسنتِ الحوارَ مع رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فهي لم تَعتَرِض على أحكامِ شَرعِ اللهِ تعالى إنَّما طَمِعَتْ بِتَخفِيفِ اللهِ عليهم لأنَّ الوحيَ لا يزالُ يَتَنَزَّلُ على رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وإلاَّ فمنهجُ المؤمنينَ السَّمعُ والطَّاعَةُ. فَلَمَّا عَلِمَتْ حُكمَ اللهِ ورسُولِهِ لَزِمت شَرْعِ اللهِ وآمَنَتْ بِه.

 

فاللهُمَّ اجعَلِ القُرآنَ العظِيمَ رَبِيعَ قُلُوبِنَا، وَنُورَ صُدُورِنا،  وَجَلاءَ هُمُومِنَا، وَذَهَابَ غُمُومِنَا، اللهُمَّ عَلِّمْنَا مِنْهُ مَا جَهِلنا، وَذَكِّرْنَا مِنه مَا نُسِّينا، واجعلْه حُجَّةً لنا لا عَلينا، اللهُمَّ حَبِّب إلينا الإِيمَانَ وَزَيِّنهُ في قُلُوبِنا، وَكَرِّه إلينَا الكُفرَ والفُسُوقَ والعِصيانَ، واجعلنا من الرَّاشِدِينَ.

 

اللهُمَّ اهدِنا لأحسنِ الأخلاقِ والأقوالِ والأعمالِ لا يهدي لأحسَنِها إلا أنت واصرف عنَّا سَيِّئَهَا لا يصرفُ عنَّا سَيِّئَهَا إلا أنتَ،  رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

 

عباد الله أذكروا الله العظيمَ يذكركم واشكروه على عمومِ نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم  ما تصنعونَ.

 

 

المرفقات

تحل خلافات الكبار

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات