كتب الله عليكم الحج فحجوا

خالد بن عبد الله المصلح

2022-10-06 - 1444/03/10
عناصر الخطبة
1/ مكانة الحج في الإسلام 2/ إهمال بعض المكلفين وتأخيرهم لأداء فريضة الحج 3/ الحث على المبادرة إلى أداء فريضة الحج 4/ ثمرات الحرص على الطاعة في الدنيا والآخرة.

اقتباس

إن من الملاحظ على كثير من الناس التسويف والتأجيل والتأخير في فرض الحج، حتى يبلغ بعض الناس مبلغًا متقدمًا من العمر وهو في صحة وعافية وسعة من المال لكنه لم يحج تجده طوّف بلاد الدنيا، بل من الناس من يستدين ليتفسح ويتنزه يمنة ويسرة، وإذا جاء الحج قال: عليّ دين ما أستطيع، اصبر أشوف، وما إلى ذلك من الأعذار التي قد تكون حقيقة فيعذره الله –تعالى- بها، وقد تكون تبريرًا لتأخيره وتسويفه، عند ذلك يقول لك الله جل وعلا: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)، ويقول سبحانه: (وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) ...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله –تعالى- من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، فالله –تعالى- أمركم بتقواه ووعدكم على التقوى أجرًا عظيمًا وفضلاً كبيرًا وثوابًا جزيلاً (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الزمر:61].

 

أيها المؤمنون عباد الله: خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه يومًا من الأيام، فقال: "يا أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج فحجوا"، فأخبرهم -صلى الله عليه وسلم- بهذا النداء عن فرض من الفرائض العظيمة، وركن من أركان الإسلام الوطيدة ودعامة من دعائمه التي لا يقوم إلا بها.

 

في الصحيحين من حديث عبدالله بن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بُنِي الإسلام على خمس؛ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت".

 

هذه أصول لا يصح إسلام أحد إلا بها، وعلى كل مسلم ذكر أو أنثى ممن جرى عليه قلم التكليف أن يفتّش نفسه في هذه الأمور في التوحيد الذي هو أصل الأصول (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة: 4] بألا يكون في قلبك معظَّم إلا الله، ولا محبوب إلا هو -جل في علاه- تعظيمًا عباديًّا ومحبة عبادية له لا يشركه فيها غيره.

 

فهذا أصل إقامة توحيد الله -عز وجل- في القلوب، فلا إله إلا الله معناها لا معبود حق إلا الله، لا معبود يستحق العبادة إلا الله، فكل ما عُبِدَ من دونه ومن سواه باطل، كما قال -جل وعلا-: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) [الأحقاف:6].

 

فحق على كل مؤمن أن يحقِّق هذا الأصل، ثم يتبع ذلك بما يتحقق به توحيده، ويتأكد به إفراده بالعبادة بأن يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج البيت.

 

ليس في هذه طرف هي متفاوتة في المنازل، لكنها مطلوب في الإيجاب، فليس فيها شيء يغني عن شيء، الصلاة لا تغني عما سواها، وهي رأس الأعمال وعمود الإسلام، والزكاة لا يغني عنها غيرها، كما الصوم لا يقوم غيره مقامه، والحج كذلك.

 

وإن كثيرًا من الناس يغفل عن واجبٍ فرضه الله –تعالى- على الناس مرةً في العمر، وهو الحج، ولذلك جاء فيه من التأكيد على وجوبه والقيام به ما ينبغي للمؤمن أن يبادر إليه، وأن يجتهد في أدائه على الوجه الذي يرضى الله به تعالى عنه، وألا يتأخر في ذلك ما دامت قد توافرت فيه شروط الوجوب، فالله –تعالى- قد قال في مقدمة فرض الحج قبل أن يفرضه بين فوائده وثماره وأسبابه وما يدعو إليه (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران:97].

 

كل هذه المقدمة تمهيدًا للأمر الذي جاء بعدها، فقد قال الله تعالى بعد ذلك: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران: 97].

 

حذَّر الله -عز وجل- عن الغفلة عن هذا الحق فقال: (وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97].

 

فينبغي لكل مؤمن أن يبادر إلى أداء هذا النسك متى ما استطاع إليه سبيلاً، متى ما قد توفرت فيه شروط الوجوب من الإسلام والبلوغ والحرية والاستطاعة، عليه أن يبادر إلى أداء هذا الفرض، وليحتسب الأجر عند الله؛ فإنه زاد عظيم يفرح به عند لقاء ربه، ولذلك لما ذَكَر الله فرض الحج فقال: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ)، ثم قال: (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [الحج: 197]، هذه رحلة تزود استعداد استكثار من الخير، تأهب للقاء الله -عز وجل-، فالزاد الذي تناله بالحج لا تناله بسواه.

 

جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه"، وجاء أيضًا في الصحيحين أنه قال -صلى الله عليه وسلم-: "والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".

 

رحلة في أيام معدودات، وأعمال محدودات، وتكلفة ميسرة ينال بها الإنسان هذا الفضل العظيم والأجر الكبير، يحط الله به الخطايا، ويبلغك الله بها المنازل العليا من الجنة، نسأل الله أن نكون من أهلها.

 

فـ"من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمته"، و"الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".

 

اللهم أعنا على طاعتك، واسلك بنا سبيل الرشاد، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى حق حمده لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.

 

أما بعد فاتقوا الله أيها المؤمنون حق التقوى، بادروا بقضاء ما فرض الله عليكم من الواجبات؛ فإن أحب ما تقربتم به إلى الله أن تقوموا بما أوجب عليكم.

 

جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل"، وهذه هي المرتبة الثانية "حتى أحبه" التقرب إلى الله بالمستحبات والتطوعات "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن استنصرني لأنصرنه، ولئن استعاذني لأعيذنه".

 

أيها المؤمنون: إن من الملاحظ على كثير من الناس التسويف والتأجيل والتأخير في فرض الحج، حتى يبلغ بعض الناس مبلغًا متقدمًا من العمر وهو في صحة وعافية وسعة من المال لكنه لم يحج تجده طوّف بلاد الدنيا، بل من الناس من يستدين ليتفسح ويتنزه يمنة ويسرة، وإذا جاء الحج قال: عليّ دين ما أستطيع، اصبر أشوف، وما إلى ذلك من الأعذار التي قد تكون حقيقة فيعذره الله –تعالى- بها، وقد تكون تبريرًا لتأخيره وتسويفه، عند ذلك يقول لك الله جل وعلا: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)، ويقول سبحانه: (وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97].

 

 الله ليس بحاجة إلى كدنا وتعبنا؛ فالله غني عنا، وعن عبادتنا، إنما ذاك لنفعنا، كل عبادة كل طاعة كل قربة تتقرب بها إلى الله -عز وجل- أنت المنتفع أنت المستفيد، الفائدة تعود إليك، أما الله فهو الغني عنا وعن عبادتنا، "يا عبادي إنكم لم تبلغوا ضَرّي فتضروني ولم تبلغوا نفعي فتنفعوني".

 

 قرَّب الله هذا المعنى في تصوير في حديث أبي ذر فقال: "يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم –كل المكلفين من الإنسان والجن- كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم"، يعني الجميع كانوا في التقوى والإيمان على قلب محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- أتقى قلب أتقى الثقلين- ما زاد ذلك في ملكي شيئاً".

 

"يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا علي أفجر قلب رجل واحد منكم –على قلب فرعون أو من أشقى منه في الكفر والجحود والإعراض والاستكبار- ما نقص ذلك من ملكي شيئاً".

 

إذا كان كذلك فاعلم أن عبادتك، صلاتك، صومك، حجك، زكاتك سائر ما تتقرب به أنت المنتفع (فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) [يونس: 108]، ليس فقط في الآخرة وما يكون فيها من الأجور والثواب، بل حتى في الدنيا فلن تنال سعادة ولا انشراح ولا طمأنينة ولا سكن ولا بهجة ولا سرور إلا بتحقيق الطاعة لله -عز وجل- تحقيق العبودية له جل في علاه (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28].

 

هذه الطمأنينة، هذه السكينة لا يمكن أن تُشتَرى بمال، ولا يمكن أن تُدرَك بجاه، هذه الطمأنينة التي تغشى القلوب لا يحصلها الإنسان إلا بالتقوى، ولا يدركها إلا أن يكون ذاكرا لله، وليس الذكر تمتمة وهمهمة باللسان يعرى عنها القلب ويتجرد منها الفؤاد، بل الذكر ابتداء يكون بقلب يذكر الله ويعظّمه وينطلق اللسان معبرًا عن هذا التعظيم والجوارح ممتثلة لذاك القلب المعظم لله، "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله".

 

إذا عرفنا هذا تيقنا أن كل طاعة هي من مصلحتنا في الدنيا والآخرة وكل معصية هي نقص علينا في دنيانا وأخرانا، سنجد عونا في الإقبال على الطاعات وفي الانزجار عن السيئات؛ لأن كل طاعة تقربك إلى الله وتقربك إلى السعادة، وكل معصية تبعدك عن الله وتوقعك في الشقاء (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا) [طه: 123- 126]، النسيان هنا الترك وليس النسيان الذي يُعذر به الإنسان (فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى)، أي كذلك اليوم تُترك في النار كما تركت الطاعة في الدنيا.

 

اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا، أعنا على طاعتك، واصرف عنا معصيتك، اسلك بنا سبيل الرشاد، أعنا على الطاعة والإحسان.

 

 

 

المرفقات

الله عليكم الحج فحجوا

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات