عناصر الخطبة
1/ما امتن الله على قريش من النعم 2/ما قابلت به قريش نعم الله عليها 3/التحذير من كفر النعم وآثاره 4/توجيهات للحفاظ على نعمة الأمناقتباس
وإن الاستقامةَ على شرعِ اللهِ هي التي تحفظُ النعم، بأن نقيمَ شعائرَ الإسلامِ في ظواهرنا وبواطننا، ونتمسكَ بها، ونثبتَ عليها، وندعوَ إليها، ونتعاضدَ لتحقيقِ وحدتِنا، وطاعةِ ولاةِ أمورنا، ونحذرَ ممن يريد أن يحرفَنا عن شريعةِ ربِّنا، أو ممن يمكرُ ويكيدُ ليفرقَ شملَنا...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
أما بعد: قريشٌ، وما أدراكَ ما قريش؟! تلك القبيلةُ التي من اللهُ عليها بالنعمِ، وأغدقَ عليها بالخيراتِ، كانت قريشٌ بين القرى حولهَا كالدرةِ المضيئة، والكوكبِ اللامع؛ فهي محطُّ أنظارِ العربِ، وسيدةُ الجزيرة، وقد امتن اللهُ عليهم، وذكّرهم بنعمِه في كتابِه في كثيرٍ من الآيات.
فامتن عليهم بنعمةِ المالِ، وتسهيلِ التجارةِ، ورغَدِ المعيشةِ، والأمنِ، وذلك كلُّه في السورةِ التي سماها اللهُ باسم هذه القبيلةِ، فقال -سبحانه- في سورة قريش: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)[قريش: 1 - 4].
وامتن اللهُ عليهم بسكنى الحرمِ الذي بسببه حلَّ عليهم الأمنُ، في وقتٍ كان يُتخطفُ الناسُ من حولهِم، قال -سبحانه-: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ)[العنكبوت: 67].
وبسببِ الحرمُ كان يُجلب لهم ثمراتُ كلِّ شيء، وهم الساكنون بوادٍ قليلِ الزرعِ قليلِ المطرِ، قال -سبحانه- ممتنا: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[القصص: 57]، كيف لا؟ وفيهم تجلّتْ دعوةُ إبراهيم -عليه السلام-، التي أرسلها قبلَ آلافِ السنين، فاستجاب اللهُ لها، وجعل مكةَ مهوى أفئدةِ الناس، ومحطَّ رحالِهم، وذلك حين دعا إبراهيم -عليه السلام- فقال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)[إبراهيم: 37].
كلُّ تلك المننِ لقريشٍ ذكرها اللهُ في كتابه، لتُتلى على قريشٍ، فيشكروها ولا يكفروها، بأن يعبدوا ربَّ البيت، وأن يؤمنوا برسولِ الله، وأن يحسنوا كما أحسنَ اللهُ إليهم، وقد استجاب فئامٌ من قريشٍ لذلك، فكان منهم السابقين إلى الإسلامِ من الصحبِ الكرامِ، وأما عامَّةُ قريشٍ من رؤساءَ ومرؤوسين، فلم يكن لهم آذانٌ صاغيةٌ، ولا قلوبٌ واعيةٌ، فكفروا بنعمةِ اللهِ، وبدلوها كفراً وجحوداً ونكراناً، وصداً عن سبيلِ الله، وحرباً على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
قال -جل وعلا-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ)[إبراهيم: 28]، قال السعدي: "يقول -تعالى- مبيناً حالَ المكذبين لرسولِه من كفارِ قريشٍ وما آل إليه أمرُهم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا)، ونعمةُ اللهِ هي إرسالُ محمدٍ -عليه الصلاة والسلام- إليهم، يدعوهم إلى إدراكِ الخيراتِ في الدنيا والآخرةِ وإلى النجاةِ من شرورِ الدنيا والآخرةِ، فبدلوا هذه النعمةَ بردِّها، والكفرِ بها والصدِّ عنها بأنفسهم، وَصدَّهم غيرَهم حتى (أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) وهي النار حيث تسببوا لإضلالهم، فصاروا وبالاً على قومِهم، من حيث يُظَن نفعُهم، ومن ذلك أنهم زَيَّنُوا لهم الخروجَ يومَ بَدرٍ؛ ليحاربوا اللهَ ورسولَه، فجرى عليهم ما جرى، وقُتِلَ كثيرٌ من كبرائِهم وصناديدِهم في تلك الوقعة".
وقال -سبحانه-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ)[النحل: 112 - 113]، قال السعدي: "وهذه القريةُ هي مكةُ المشرفةُ التي كانت آمنةً مطمئنةً لا يُهاجُ فيها أحد، وتحترمها الجاهليةُ الجهلاءُ، حتى إن أحدهم يجد قاتلَ أبيه وأخيه، فلا يُهيجه مع شدّةِ الحميةِ فيهم، والنعرةِ العربيةِ؛ فحصل لها من الأمنِ التامِّ ما لم يحصل لسواها وكذلك الرزق الواسع.
كانت بلدةً ليس فيها زرعٌ ولا شجرٌ، ولكن يسر اللهُ لها الرزقَ يأتيها من كل مكان، فجاءهم رسول منهم يعرفون أمانتَه وصدقَه، يدعوهم إلى أكملٍ الأمور، وينهاهم عن الأمورٍ السيئةٍ، فكذبوه وكفروا بنعمة الله عليهم، فأذاقهم الله ضد ما كانوا فيه، وألبسهم لباسَ الجوعِ الذي هو ضدُّ الرَغَدِ، والخوفَ الذي هو ضدُّ الأمنِ، وذلك بسبب صنيعِهم وكفرِهم وعدمِ شكرِهم؛ (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)".
وقال البغوي: "(فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ) ابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِالْجُوعِ سَبْعَ سِنِينَ، وَقَطَعَتِ الْعَرَبُ عَنْهُمُ الْمِيرَةَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى جَهِدُوا فَأَكَلُوا الْعِظَامَ الْمُحَرَّقَةَ، وَالْجِيَفَ، وَالْكِلَابَ الْمَيِّتَةَ، وَالْعِهْنَ، وَهُوَ الْوَبَرُ يُعَالَجُ بِالدَّمِ، حَتَّى كَانَ أَحَدُهُمْ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى شِبْهَ الدُّخَانِ مِنَ الْجُوعِ، ثُمَّ إِنَّ رُؤَسَاءَ مَكَّةَ كَلَّمُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَالُوا: هَذَا عَادَيْتَ الرِّجَالَ، فَمَا بَالُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟ فَأَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِلنَّاسِ بِحَمْلِ الطَّعَامِ إِلَيْهِمْ وَهُمْ بَعْدُ مُشْرِكُونَ، (وَالْخَوْفِ) يَعْنِي: بُعُوثَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَسَرَايَاهُ الَّتِي كَانَتْ تُطِيفُ بِهِمْ".
كلُّ ذلك كان جزاءً لكفرِهم بنعمةِ اللهِ، وعدمِ شكرِهم لها، وهذا المثلُ هو سنةُ اللهِ التي تَحِلُّ على كلِّ بلدةٍ تُبدلُ نعمةَ اللهِ كفراً، وتستعملُ نعمَ اللهِ في معاصيه، بدلا عن طاعتِه؛ (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[الأنفال: 53].
أقول هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية:
عباد الله: لقدْ أنعمَ اللهُ علينا في هذه البلاد بنعمٍ كثيرةٍ، ومننٍ جليلةٍ، من الواجبِ علينا تحقيقُ شكرِها، والحذرُ من جحودِها، فكم نرفُلُ في نعمِ الأمنِ والأمانِ، والوحدةِ والاجتماعِ، والغنى ورغدِ العيشِ، فالواجبُ أن نشكرَ هذه النعم ولا نكفرَها، قال -جل وعلا-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم: 7].
هذا، وإن الاستقامةَ على شرعِ اللهِ هي التي تحفظُ النعم، بأن نقيمَ شعائرَ الإسلامِ في ظواهرنا وبواطننا، ونتمسكَ بها، ونثبتَ عليها، وندعوَ إليها، ونتعاضدَ لتحقيقِ وحدتِنا، وطاعةِ ولاةِ أمورنا، ونحذرَ ممن يريد أن يحرفَنا عن شريعةِ ربِّنا، أو ممن يمكرُ ويكيدُ ليفرقَ شملَنا، ويشقَّ صفَّنَا، ويشتتَ جمعَنا.
ولنحافظ على الوصية العظيمة التي أوصانا بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "أوصيكم بتقوى اللهِ، والسمعِ والطاعةِ وإن عبدًا حبشيًّا؛ فإنه من يعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنةِ الخلفاءِ المهديّين الراشدين تمسّكوا بها، وعَضّوا عليها بالنواجذِ، وإياكم ومحدثاتِ الأمورِ؛ فإنَّ كلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ".
ومن شكرِ النعمِ أيضاً ألا ننسى إخوانَنَا المسلمين المنكوبين في كلِّ مكان، فبيننا وبينهم أعظمُ الروابطِ، وأوثقُ الحبالِ التي تتمثلُ في رابطةِ الأخوةِ الإسلاميةِ، فنقدمُ العون، ونحسنُ إليهم كما أحسن اللهُ إلينا، ولنحذرِ التخلي عن واجبِنا تجاههم؛ فإنَّ الخِذْلانَ يستجلبُ العقوبةَ، ويُزيلُ النِّعمَ.
اللهم إنا نعوذ بك من زوالِ نعمتك، وتحولِ عافيتك، وفُجاءَةِ نقمتِك، وجميعِ سخطِك، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأبرم لنا أمرا رشدا، يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، اللهم كن لإخواننا المسلمين في كلِّ مكان، اللهم ارزقنا وإياهم الأمنَ والطُّمأنينةَ، والعفافَ والغنىَ، واجعل بلادَ المسلمينَ بلاداً آمنةً مستقرةً رغيدةً، اللهم وفقنا لاتباع أمرك، والعمل بشرعك، والشكر لنعمتك.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم