عناصر الخطبة
1/كثرة الفتن في هذا الزمن 2/إحدى وعشرون قاعدة للتعامل بها مع الفتناقتباس
عباد الله: إن ما يحصل في بلدان المسلمين اليوم سواء في بلاد الشام، أو مصر، أو العراق، أو غيرها، لا يعدو أن يكون مما أراده الله -جل وتعالى- أن يحصل، وكلها تدور ضمن دائرة القضاء والقدر.
وعلى كل مسلم تجاه ما يحصل، وإن كان منزعجاً: أن يحسن الظنّ بربه؛ كما...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: زماننا هذا زمن فتن تدع الحليم حيراناً، ما من يوم تصبح فيه إلاّ وتسمع خبراً مزعجاً عن أيّ مجتمع من مجتمعات المسلمين، لا تملك إلاّ الدعاء لهم.
وعند حلول الفتن تزيغ أبصارٌ عن الحق، وتبصره أخرى، وفيها تتبدل الأحوال، وتُختبر عقول الرجال، ويُمتحن الإيمان أيّما امتحان.
فتن كثيرة عاصفة ناسفة، لا يسلم من شرها إلا من ثبته الله من عنده، فرزقه بصيرة وفرقاناً يبصر بها الحق، وينصف بها الخلق.
عباد الله: إن ما يحصل في بلدان المسلمين اليوم سواء في بلاد الشام، أو مصر، أو العراق، أو غيرها، لا يعدو أن يكون مما أراده الله -جل وتعالى- أن يحصل، وكلها تدور ضمن دائرة القضاء والقدر.
وعلى كل مسلم تجاه ما يحصل، وإن كان منزعجاً: أن يحسن الظنّ بربه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من الله، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه".
ومن آمن بما قدر الله وقضى؛ عاش مطمئناً مستقراً، ثابتاً مرابطاً، لا تزعزعه الفتن، ولا توهنه المحن، مع أخذه بالأسباب الشرعية في دفع القدر بالقدر.
وهذه إحدى وعشرون قاعدة يجب أن تكون منك على بال، ونحن نعيش أوقات فتن، وهذه القواعد ليست مرتبة حسب أهميتها، لكنها مهمة بمجموعها:
أولاً: الإيمان بعلم الله الشامل المحيط بكل شيء؛ الذي يعلم الغائب والشاهد، والظاهر والمستتر، وأنه سبحانه لا تخفى عليه خافية، ويعلم ما كان وما سيكون، وأنه لا يقع شيء في الوجود إلا بعلمه سبحانه؛ كما قال جل وعلا: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)[الأنعام: 59].
وقال تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ )[الرعد: 9].
وقال تعالى: (ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[المائدة: 97].
إذا عُلم هذا واستقر في القلوب؛ أيقنتِ النفوس المؤمنة واطمأنّت بأن ما يحدث بعلمه واطلاعه سبحانه، فلماذا تخاف وتقلق؟ ولماذا ترتبك وتتراجع، والملك الجبار عالم بكل ما يحدث، وما يخططه الأعداء، وما يحيكه المنافقون في الخفاء، فالإيمان بهذا الأمر يورث الأمن والطمأنينة والثبات -بإذن الله عز وجل-؟
ثانياً: أنه لا يحدث شيء في هذا الكون من خير أو شر إلا بإرادته ومشيئته، ولا يقع أي أمر إلا بإذنه، فلا يُتصور ولا يُتخيل أن يحدث شيء بدون إرادته سبحانه، وأن الخلق مهما خططوا وفعلوا فلن يحدث ولن يقع إلا ما أراد وقدر سبحانه؛ قال جل وعلا: (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ)[هود: 107].
وقال تعالى: (وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ)[الرعد: 11].
وقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)[الحـج: 14].
إذا عُلم هذا فإذا نزلت النازلة وحلت المصيبة تذكَرْ: أنه بإرادة الله ومشيئته، فلا تجزع، فإنك تأوي إلى ركن شديد.
ثالثاً: أن ما قَدّره سبحانه في هذا الكون لحكمة ومصلحة قد نعلمها وقد لا نعلمها، والله -سبحانه- لا يقدر الأقدار ويخلق الخلق لغير حكمة، فهو سبحانه منزه عن العبث واللعب، قال جل وعلا: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ)[الأنبياء: 16].
وقال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا)[المؤمنون: 115].
وحال المؤمنين إذا تفكروا في ملكوت الله وخلقه، قالوا: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ)[آل عمران: 191].
إذا عُلم هذا فعند حلول المصائب تطمئن وترضى، وتُسلّم لقضاء الله وقدره، وتُحسن الظن بالله؛ لأنه ما قدّر هذه المصائب التي تحل بالأمة، أو بالأفراد، إلا لحكمة بالغة؛ لأنه سبحانه الحكيم الخبير.
رابعاً: أن الله -سبحانه- لا يقدر شراً محضاً ليس فيه خير؛ بل كل ما قدر وإن ظهر لنا أنه شر كله فإن من وراءه من الخير مالا يعلمه إلا الله؛ كتكفير السيئات، ورفعة الدرجات، وتمحيص المؤمنين، وتبصيرهم بعيوبهم، وكشف ما يُخطط لهم، أو دفع شر أعظم مما حل بهم؛ كحفظ دينهم، ولو ذهب شيء من دنياهم، ونحو ذلك من المصالح التي لا تخطر على البال، وقد جاء في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لربه: "والشر ليس إليك".
فإذا حلت المصائب لا تظن -أيها العبد- يا من علمك ناقص وبصرك محدود، اعلم أن الحكيم الخبير والرؤف الرحيم لا يمكن أن يقدر على خلقه أمراً ليس فيه خير، ومصلحة لهم.
خامساً: أن الله -سبحانه- يفعل في خلقه وملكه ما يشاء، وهو لا يُسئل سبحانه عما يفعل وهم يُسألون؛ لأنه مالك الملك وجبار السموات والأرض رب العالمين، وخالق الناس أجمعين، ومدبر الكون، وإله الأولين والآخرين -جل وعلا -، فلا يحق لنا أن نسأله لماذا قدر علينا المصيبة؟ ولماذا أصابنا ولم يصب غيرنا؟
فنحن خلقه وعبيده، وهذا ملكه ووجوده يفعل في خلقه وملكه ما يشاء سبحانه، وهذا الأدب مع الله هو أساس اعتراف العبد بألوهية الله وربوبيته -سبحانه-، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
سادساً: الاعتقاد الجازم الذي لا يخالطه شك بأنه سبحانه الحكم العدل الذي حرّم الظلم على نفسه، وجعله بين خلقه محرماً، وهو سبحانه لا يرضى عن الظلم والظالمين، قال تعالى: (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)[الكهف: 49].
وقال سبحانه: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ)[فصلت: 46].
ويقول جل وعلا: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا)[النساء: 40].
إذا عُلم هذا، فإذا رأيت المصائب تنزل فاستحضر هذه القاعدة، ولتكن منك على بال، فلا تسيء الظن بربك، فهو أعدل العادلين، وأحكم الحاكمين، وهو سبحانه لا يرضى أن يُظلم عباده، وسوف ينتصر لهم ولو بعد حين، وقد أعد للظالمين عذاباً أليماً، ودعوة المظلوم لا ترد وتصعد إلى السماء كأنها شرارة.
سابعاً: أن الله -سبحانه- رحيم بالمؤمنين؛ بل هو أرحم بهم من أمهاتهم وآباءهم ومن رحمته ما يقدر في الكون، وهو قد كتب على نفسه الرحمة، ورحمته سبقت غضبه، وما يقدر في الكون من خير وشر هو من رحمته بنا؛ لأننا لا نعلم ما يخبئه الله لنا من الخير والرحمة خلف هذه المصائب والشرور، وهو العالم بما يُصلحنا ويسعدنا وبما يفسدنا ويشقينا، والله -سبحانه- قد قال في الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي فليظن بي ما شاء" فلا نظن بربنا إلا خيراً.
ثامناً: أن كل ما سوى الله وأسمائه وصفاته مخلوق؛ فالعباد وأعمالهم كلها مخلوقة لله -جل وعلا-: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)[الزمر: 62].
قال الله -تعالى-: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)[الفرقان: 2].
وقال تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)[الصافات: 96].
إذا تأملت هذا وآمنت به؛ علمت ضعف عدوك، وقلة حيلته، وأنه مخلوق لله هو وما يصنع وما يدبر، فلا تُعلّق قلبك إلا بالقوي الخالق لكل شيء سبحانه.
تاسعاً: أن الأقدار والأيام دول: وأن دوام الحال من المحال، فالله قد قضى وقدّر في الكون أن أقداره ماضية على المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وأن التدافع بين الخير والشر سنة ماضية، وحكمة قاضية؛ قال الله -تعالى-: (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)[آل عمران: 140].
فمرة لأهل الحق ومرة لأهل الباطل، والصراع بينهما إلى قيام الساعة؛ كما قال جل وعلا: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ)[البقرة: 251].
ولكن الذي نوقن به ولا نشك: أن دين الله منصور وغالب، وأن العاقبة للمتقين، وأنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة لا يضرها من خذلها ولا من خالفها إلى قيام الساعة، فلا تنظر إلى الأحداث بنظرة عجلة قصيرة، بل استشرف المستقبل المشرق، واعمل بالأسباب التي تؤدي إلى النصر والتمكين، والله -سبحانه- ناصر دينه وأولياءه.
عاشراً: الصبر على أقدار الله مما أمرنا الله به، وأوجبه علينا، وهو سر الهداية والفلاح؛ فقد قال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[آل عمران: 200].
وأمرنا سبحانه بالاستعانة بالصبر والصلاة؛ فقال تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ)[البقرة: 45].
وقال سبحانه مبيناً ابتلاءه واختباره لعباده، وأن الفائز والناجح في هذا الامتحان هو الصابر الراضي بقضائه وقدره؛ فقال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة: 155-157].
هذا في الدنيا، أما في الآخرة فأجر الصابرين عظيم، لا يعلم قدره إلا الله؛ قال الله -تعالى-: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزمر: 10].
والصبر هو أحد أسباب النصر على الأعداء، وهو الذي تطلبه الأمة من ربها عند لقاء عدوها، قال جل وعلا: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)[آل عمران: 146].
وقال عن الفئة المؤمنة المستضعفة التي قاتلت الطاغية جالوت: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ)[البقرة: 249-251].
الحادي عشر: الكلام في الفتن بعلم وعدل:
أولاً: العلم بما يحصل على وجه ليس مبناه على التوقعات، أو كلام الجرائد والمجلات، أو المجالس والقيل والقال، بل يكون مصدره الثقات الأثبات، أو يكون هو الذي سمع وشاهد وعاصر وناظر، وكم من أناس يُحسبون على العلم والدعوة تكلموا بغير علم ولا بصيرة، فندموا واتهموا أناس لا ناقة لهم ولا جمل، ووقعوا في أعراض أناس أطهار لا يجوز التعرض لهم، والله -سبحانه- يقول: (إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[الزخرف: 86].
ومن جوانب العلم التي لا بد منها: العلم بمراد الله وشرع الله في هذه القضايا، فإنك تسمع بين الفينة والأخرى من يتكلم في بعض وسائل التواصل باسم الدعوة والعلم، وكلامه لا يعدوا أن يكون كلام صحفي فاشل، فلا يليق في مثل هذه الأوقات العصيبة أن نتكلم بهذه البساطة والسطحية، وقلة الفقه والعلم، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه.
وأما الأمر الثاني، فهو: العدل: قال الله -تعالى-: (وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ)[الشورى: 15].
فالله أمر نبيه أن يعدل بين الطوائف كلها، فيجب العدل مع كل أحد حتى الكافر في ظل شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- لا يُظلم ويعطى حقه، فكيف بالمسلمين ولو أخطأوا ووقع منهم ما وقع، فيجب العدل معهم في الأقوال والأفعال والمواقف، والعدل في وضع خطئهم في نصابه المحتمل، وأن لا يحمّل خطأ أي مسلم فوق ما يحتمل.
الثاني عشر: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت؛ يظن البعض أنه لابد أن يكون له موقف في كل حدث، وأنه يجب عليه أن يعلق على كل ما يحصل، خصوصاً ممن لهم حضور في بعض وسائل التواصل، وإذا لم يبد موقفاً أو يتكلم أنه يعد منقصةً له، أو أنه ليس من أهل الرأي والمشورة والعقل، وهذا –والله- يدل على قلة الفقه والعلم والورع.
نعم هناك أمور واضحة لا خلاف فيها، والأمة وعلماؤها مطبقون على معرفة حكم الله فيها؛ لصراحة النصوص ووضوحها، وعدم وجود الغبش فيها، ولكن في أوقات الفتن تبقى مسائل مشكلة، وأمور تحتاج إلى تأني، وعدم الخوض فيها، فليسع الإنسان ما وسع الصحابة -رضي الله عنهم-، وسلفنا الصالح الذين اعتزلوا في بعض الفتن، ولم يشاركوا لا مؤيدين ولا معارضين؛ لتعارض النصوص، ولم يظهر لهم وجه الحق في بعض المواقف، فآثروا السلامة، ولم يُدخلوا في ذممهم شيئاً، وعملوا بوصية نبيهم الكريم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت".
الثالث عشر: تعظيم الحرمات؛ التي حرمها الله ورسوله وعلى رأسها حرمة دم المسلم؛ قال الله -تعالى-: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)[النساء: 93].
ولهذا في مثل هذه الفتن التي تراق فيها الدماء يجب التثبت، وعدم العجلة، والرجوع إلى أهل العلم الراسخين في العلم، وعدم الأخذ بظواهر بعض النصوص، فإذ لم يتورع المسلم في دم المسلم ففيم يكون الورع؟ وقد تقدم أن السلف اعتزلوا الفتن حتى لا يصيبوا دماً حراماً.
الرابع عشر: الحرص على التشاور؛ والأخذ بالنصيحة والسماع من أهل العلم والعقل، وعدم التفرد بالرأي؛ خاصة في أمور الأمة العظام، فإن من أخص صفات المؤمنين؛ كما قال الله -جل وعلا-: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)[الشورى: 38].
والمشورة وأخذ الآراء تدل على رجاحة العقل والتواضع والورع، وهذه الصفات إذا اجتمعت في شخص فإنه -بإذن الله- يوفق في كلامه ومواقفه، وما يبثه بين المسلمين في المجالس، أو في وسائل التواصل.
بارك الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: القاعدة الخامسة عشر: فهم المقاصد الشرعية من الشرائع والعبادات فهماً صحيحاً؛ ونقصد بها أن نفهم الغايات التي شُرعت من أجلها العبادات؛ مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ مثلاً، فقد شُرع لدفع المفاسد والشرور عن المسلمين في أديانهم وأخلاقهم، أو تقليلُها، فإذا كان أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر قد يفوت معروفاً أعظم، أو يتسبب في منكر أعظم؛ فإنه في هذه الحالة لا يشرع لك الأمر ولا النهي.
وكذلك الجهاد في سبيل الله، فالغاية منه ذكرها الله في كتابه الكريم؛ فقال جل وعلا: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه)[الأنفال: 39].
فالهدف الذي من أجله شرع الجهاد هو تعبيد الناس لله وحده، وإخراجهم من عبودية العباد إلى العبودية لرب العباد، وإزالة الشرك، قال الإمام المفسر ابن جرير الطبري -رحمه الله-: "فقاتلوهم حتى لا يكون شرك، ولا يُعبد إلا الله وحده لا شريك له، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض، وهو الفتنة، ويكون الدين كله لله، وحتى تكون الطاعة والعبادة كلها لله خالصة دون غيره" أ. هـ.
فإذا لم يكن الدين كله لله وجر القتال ويلات على المسلمين، وزاد البلاء، ولم يكن الدين كله لله، فلا يُشرع حينها القتال، بل يجب الصبر، وكف الأيدي؛ لأن الغاية لم تتحقق من الجهاد الذي شُرع؛ لكي يزيل العوائق، حتى يَدخل الناس في الدين، ويكون شرع الله هو الحاكم والمهيمن.
السادس عشر: المسلمات والأصول الثابتة في شرعنا يجب أن تبقى مسلمات وأصول لا تتغير؛ ففي أوقات الفتن يكثر اللغط، ويتكلم الجهلة والسفلة، وتختلط الأمور، فيُنكر المعروف، ويصبح الواجب محرماً، والمحرم واجباً، ويصير الأصل الثابت في ديننا إرهاباً وتطرفاً، وهكذا.
ولذا يجب ترسيخ الثوابت في زمن الفتن أكثر من أي وقت، فالأصول تبقى أصول، والمسلمات لا نقاش فيها.
فالولاء للمؤمنين، والعداء للكافرين؛ إلى قيام الساعة، ويُبين للناس ذلك، وأنه لا يجوز أن يكون في قلوبنا، أي محبة لأي كافر، نعم نعدل معهم، ولكن لا يعني هذا محبتهم ومودتهم، فهذا أصل ثابت متقرر لا يتغير؛ كما قال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ)[الممتحنة: 1].
وغيرها من الآيات الصريحة في هذا الأمر.
وكذلك النصوص الصريحة في نصرة المؤمنين، وحماية أعراضهم، ودمائهم وأموالهم، هذه مسلمات وأصول لا تتغير.
وكذلك من الأصول الثابتة: أن الجهاد من ديننا وشريعتنا، وهو ماض إلى يوم القيامة؛ كما أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم، وغيرها من الأصول والمسلمات التي لا نقاش فيها؛ يجب أن تبين وتوضح للناس أوقات الفتن.
السابع عشر: حسن التأمل والوعي بالحال؛ الواجب على أهل الشأن أن يغوصوا بعيداً ليروا الأسباب الحقيقية للفتنة، وحيثياتها الكثيرة، وجذورها القديمة، وتوضيحها للناس، ولا نكتفي بمجرد الحلول العاطفية للمشاكل، بل ننزل إلى أصول البلاء.
الثامن عشر: الحلم والأناة، وعدم التعجل أوقات الفتن؛ لأن ذلك يجعل المسلم يُبصر حقائق الأمور بحكمة، ويقف على خفاياها وأبعادها وعواقبها؛ كما قال عمرو بن العاص في وصف الروم: "إنهم لأحلمُ الناس عند فتنة".
التاسع عشر: عدم تطبيق ما ورد في الفتن من نصوص على الواقع المعاصر؛ لأن منهج أهل السنة والجماعة إبان حلول الفتن، هو عدم تنزيل أحاديثها على واقع حاضر، وإنما يتبين ويظهر صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما أنبأ وحدّث به أمته من حدوث الفتن عقب حدوثها واندثارها، مع تنبيه الناس من الفتن عامة، ومن تطبيقها على الواقع الحالي خاصة.
العشرون: الحرص على الإكثار من العبادة زمن الفتن؛ روى مسلم في صحيحه عن معقل بن يسار -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "العبادة في الهرج كهجرة إليّ".
ومعنى: "في الهرج" أي في الفتنة.
الحادي والعشرون: الإلحاح بالدعاء والتعوذ بالله من الفتن؛ قال صلى الله عليه وسلم: "تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن" [رواه مسلم].
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم