عناصر الخطبة
1/الانفتاح على الآخر؛ مفهومه ومآرب الدعاة إليه 2/الانفتاح على الآخر بين ضوابط الشريعة ودعاة الضلال 3/بعض صور الانفتاح ومظاهره 4/محاذير الانفتاح على الآخر وموانعه وآثاره.اقتباس
الضَّابِطُ الثَّالِثُ: الِانْفِتَاحُ مِنْ غَيْرِ الِانْبِهَارِ بِثَقَافَةِ الْغَيْرِ، وَمَرْجِعُ الِانْبِهَارِ بِثَقَافَةِ وَعُلُومِ الْغَيْرِ هُوَ نَتِيجَةُ الْجَهْلِ بِالْإِسْلَامِ، وَإِلَّا فَيَسْتَحِيلُ لِشَخْصٍ قَدْ تَضَلَّعَ عِلْمًا، وَامْتَلَأَ فِقْهًا وَدِرَايَةً بِالشَّرِيعَةِ وَالدِّينِ، يَسْتَحِيلُ أَنْ يُعْجَبَ بِثَقَافَةٍ لَا تَمُتُّ إِلَى الشَّرِيعَةِ بِصِلَةٍ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ الشَّرِيفَةِ يَعْلَمُ عِلْمًا يَقِينِيًّا لَا مَجَالَ لِلشَّكِّ فِيهِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ قَدْ حَثَّتْ عَلَى الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَشَجَّعَتْ عَلَى الْفِكْرِ وَالتَّأَمُّلِ، وَأَمَرَتْ بِالنَّظَرِ وَالتَّدَبُّرِ، وَأَثْنَتْ عَلَى الْعَقْلِ وَالْعُقَلَاءِ، وَدَعَتْ إِلَى عِمَارَةِ الْأَرْضِ وَبِنَائِهَا، كُلُّ ذَلِكَ عَلَى مَنْهَجِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَهَذِهِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْغَرَّاءِ الَّتِي انْفَرَدَتْ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الشَّرَائِعِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهَا شَرِيعَةٌ رَبَّانِيَّةٌ، أَنْزَلَهَا الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ لِإِصْلَاحِ الْإِنْسَانِ؛ فَمَصْدَرُهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ اللَّهُ -تَعَالَى- الْقَائِلُ: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)[الْأَعْرَافِ: 54]؛ لِهَذَا جَاءَتْ مُتَنَاسِقَةً مُتَوَافِقَةً، لَا تَعَارُضَ فِيهَا وَلَا تَضَادَّ؛ يَقُولُ -تَعَالَى-: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[الْمُلْكِ: 14].
فَهَا هُوَ الْإِسْلَامُ يُرَغِّبُ فِي الْعِلْمِ وَالتَّعَلُّمِ، وَيُثْنِي عَلَى أَهْلِهِ: (يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[الْمُجَادَلَةِ: 11]، وَيَأْمُرُ بِالنَّظَرِ وَالتَّدَبُّرِ وَيُثْنِي عَلَى الْعَقْلِ: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقُ)[الْعَنْكَبُوتِ: 20].
وَيُبَيِّنُ أَهَمِّيَّةَ عِمَارَةِ الْأَرْضِ وَفْقَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- وَأَمَرَ بِهِ: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[النُّورِ: 55].
فَهَلْ هُنَاكَ -بَعْدَ هَذِهِ الْعَظَمَةِ التَّشْرِيعِيَّةِ– مَا يَدْعُو إِلَى الْقَوْلِ بِانْغِلَاقِ هَذَا الدِّينِ وَانْكِفَائِهِ عَلَى نَفْسِهِ؟
عِبَادَ اللَّهِ: لَكِنْ مِنَ الْمُؤْسِفِ فِي الْآوِنَةِ الْأَخِيرَةِ أَنَّهُ قَدْ سَرَتْ حُمَّى مَا يُسَمَّى بِالِانْفِتَاحِ، سَرَتْ فِي الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ وَبِقُوَّةٍ، وَتَفَاوَتَتْ دَرَجَاتُهَا، وَتَعَدَّدَتْ شِعَارَاتُهَا، وَتَنَوَّعَتْ لَافِتَاتُهَا.
وَمُصْطَلَحُ (الِانْفِتَاحِ) مُصْطَلَحٌ يَتَّسِمُ بِالضَّبَابِيَّةِ وَعَدَمِ الْوُضُوحِ، فَهُوَ مُصْطَلَحٌ عَامٌّ تَجَاذَبَتْهُ أَطْرَافٌ عِدَّةٌ، وَكُلُّ طَرَفٍ جَعَلَ لَهُ تَفْسِيرًا يُنَاسِبُ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ؛ فَهُنَاكَ مَنْ فَسَّرَ الِانْفِتَاحَ بِحُرِّيَّةِ الدِّينِ وَالْمُعْتَقَدِ، وَغَدَا يَدْعُو إِلَى الْإِلْحَادِ، وَاصِفًا الدِّينَ بِالِانْغِلَاقِ وَحَجْرِهِ عَلَى الْعَقْلِ.
وَصِنْفٌ فَسَّرَ الِانْفِتَاحَ بِتَشَرُّبِ مَا عِنْدَ الْغَرْبِ مِنْ هَوًى وَهُوِيَّةٍ، وَالذَّوَبَانِ فِي تِلْكَ الْمُجْتَمَعَاتِ الْمُنْحَلَّةِ، وَالتَّشَبُّهِ بِهَا، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَانْغِلَاقٌ وَجُمُودٌ.
وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَ الِانْفِتَاحَ بِالِانْفِتَاحِ الْعِلْمِيِّ، وَالتَّشَبُّعِ الْفِكْرِيِّ مِنَ الْآخَرِ، وَاسْتِنْسَاخِ مَا عِنْدَ الْآخَرِ مِنْ عِلْمٍ وَثَقَافَةٍ وَغَيْرِهَا...
وَهَذَا الْمُصْطَلَحُ لَهُ مِنَ الْإِيحَاءَاتِ السَّلْبِيَّةِ مَا يَجْعَلُهُ مَرْفُوضًا بِلَا تَفْسِيرٍ، إِذْ أَنَّ مُطَالَبَتَنَا بِالِانْفِتَاحِ يَقْتَضِي وُجُودَ انْغِلَاقٍ فِي شَرِيعَتِنَا، وَتَحَجُّرٍ فِي مِلَّتِنَا، وَهَذَا مَا أَثْبَتْنَا عَكْسَهُ فِيمَا سَلَفَ.
وَلَا يُمْكِنُ أَنْ نَحْكُمَ عَلَى هَذَا الْمُصْطَلَحِ كَمُصْطَلَحٍ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَنَا الْمُرَادُ مِنْهُ، وَمَقَاصِدُ الدَّاعِينَ إِلَيْهِ، فَلِكُلٍّ مَقْصِدٌ، وَلِكُلِّ مَقْصِدٍ حُكْمٌ، فَجُمْلَةُ (الِانْفِتَاحُ عَلَى الْفِكْرِ الْآخَرِ) جُمْلَةٌ فَضْفَاضَةٌ، يُرَادُ بِهَا أَنْوَاعٌ مُتَبَايِنَةٌ مِنَ الْأَفْكَارِ وَالْأَهْوَاءِ، يَجْمَعُهَا قَاسِمٌ مُشْتَرَكٌ وَاحِدٌ؛ وَهُوَ أَنَّهَا بَشَرِيَّةُ الْمَصْدَرِ، أَرْضِيَّةُ الْمَوْرِدِ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَحَتَّى لَا نَجْعَلَ الْأَمْرَ مُلْقًى عَلَى عَوَاهِنِهِ، كَانَ لِزَامًا عَلَيْنَا أَنْ نَجْعَلَ ضَوَابِطَ مُعَيَّنَةً، وَشَرَائِطَ وَاضِحَةً لِلِانْفِتَاحِ الْمَقْبُولِ، وَنَفْيِ مَا عَدَاهُ مِنْ أَنْوَاعِ الِانْفِتَاحَاتِ الْأُخْرَى؛ فَإِذَا اسْتَعْمَلْنَا الِانْفِتَاحَ كَمُصْطَلَحٍ عَامٍّ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الِاطِّلَاعِ وَالثَّقَافَةِ، وَالِاسْتِفَادَةِ مِمَّا عِنْدَ الْآخَرِ بِدُونِ انْكِفَاءٍ عَلَى الذَّاتِ، فَإِنَّ هَذَا الْمَعْنَى حَسَنٌ، قَابِلٌ لِلتَّطْبِيقِ إِذَا تَمَّ وَفْقَ ضَوَابِطَ مُعَيَّنَةٍ تُرَاعَى، وَيُحْرَصُ عَلَى تَوَفُّرِهَا، وَمِنْ هُنَا نُلَاحِظُ أَنَّ الِانْفِتَاحَ الْمُنْضَبِطَ الَّذِي حَصَلَ فِي الْأُمَّةِ نَوْعَانِ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: التَّشْجِيعُ عَلَى الْإِبْدَاعِ وَالْحَثُّ عَلَى الِاخْتِرَاعِ؛ وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الِانْفِتَاحِ دَعَا إِلَيْهِ دِينُنَا الْحَنِيفُ، وَشَرْعُ رَبِّنَا اللَّطِيفِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 20]، وَقَوْلِهِ: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ)[الرَّحْمَنِ: 33].
النَّوْعُ الثَّانِي: الِاسْتِفَادَةُ مِمَّا لَدَى الْأُمَمِ الْأُخْرَى مِنَ الْإِبْدَاعِ، شَرْطَ أَلَّا يُخَالِفَ الشَّرِيعَةَ وَلَا يُضَادَّ الْعَقِيدَةَ؛ وَحَتَّى ذَلِكَ يَكُونُ مَقْبُولًا وَمُسْتَسَاغًا، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الضَّوَابِطِ؛ فَمِنْ ذَلِكَ:
أَنْ يَكُونَ الِانْفِتَاحُ بَعْدَ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ: فَهُوَ ضَرُورِيٌّ لِمَعْرِفَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَضَرُورِيٌّ لِلِانْفِتَاحِ الْفِكْرِيِّ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الِانْفِتَاحُ مُفِيدًا وَمَقْبُولًا مَا لَمْ يَكُنْ بَعْدَ تَصَوُّرِ عَقِيدَةِ الْإِسْلَامِ وَأَحْكَامِهِ تَصَوُّرًا صَحِيحًا؛ وَمِنْ ثَمَّ رَدُّ كُلِّ مَا يُخَالِفُهَا أَوْ يُضَادُّهَا مِنْ عَقِيدَةٍ أَوْ عَمَلٍ. فَالْعِلْمُ النَّافِعُ يُعْرَفُ بِهِ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَيُعْرَفُ بِهِ الْهُدَى مِنَ الضَّلَالِ: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[الْمَائِدَةِ: ١٥].
الضَّابِطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الِانْفِتَاحُ مَعَ الِالْتِزَامِ بِالْإِسْلَامِ: وَذَلِكَ لِشُمُولِيَّتِهِ لِكُلِّ جَوَانِبِ الْحَيَاةِ الرُّوحِيَّةِ وَالْمَادِّيَّةِ، فَهُوَ دِينٌ كَامِلٌ بِإِكْمَالِ اللَّهِ لَهُ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[الْمَائِدَةِ: 3].
الضَّابِطُ الثَّالِثُ: الِانْفِتَاحُ مِنْ غَيْرِ الِانْبِهَارِ بِثَقَافَةِ الْغَيْرِ، وَمَرْجِعُ الِانْبِهَارِ بِثَقَافَةِ وَعُلُومِ الْغَيْرِ هُوَ نَتِيجَةُ الْجَهْلِ بِالْإِسْلَامِ، وَإِلَّا فَيَسْتَحِيلُ لِشَخْصٍ قَدْ تَضَلَّعَ عِلْمًا، وَامْتَلَأَ فِقْهًا وَدِرَايَةً بِالشَّرِيعَةِ وَالدِّينِ، يَسْتَحِيلُ أَنْ يُعْجَبَ بِثَقَافَةٍ لَا تَمُتُّ إِلَى الشَّرِيعَةِ بِصِلَةٍ.
يَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: "وَمِنَ الِانْفِتَاحِ الْمَحْذُورِ: الِانْفِتَاحُ الْمَبْهُورُ بِثَقَافَةِ الْآخَرِ، حِينَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ مُضَخِّمًا مِنْ شَأْنِهِ، مُعَظِّمًا مِنْ فِكْرِهِ، شَاعِرًا بِالدُّونِيَّةِ تُجَاهَهُ لِسَبَبٍ أَوْ لِآخَرَ، فَكُلُّ مَا قَالَهُ هَذَا الْآخَرُ فَهُوَ صِدْقٌ، وَكُلُّ مَا رَآهُ فَهُوَ صَوَابٌ، وَكُلُّ مَا فَعَلَهُ فَهُوَ جَمِيلٌ... ".
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: وَالِانْفِتَاحُ عَلَى الْآخَرِ يَأْتِي عَلَى قِسْمَيْنِ:
الْأَوَّلُ: الِانْفِتَاحُ الْمَحْمُودُ، وَنَقْصِدُ بِهِ الْوَعْيَ وَالِاسْتِقْلَالَ الْفِكْرِيَّ، فَعِنْدَمَا فَتَحَ الْإِسْلَامُ الْفُتُوحَاتِ وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ الْبِلَادَ الْمُخْتَلِفَةَ الْمُتَنَوِّعَةَ الْأَعْرَاقِ وَالدِّيَانَاتِ وَالثَّقَافَاتِ وَالْعُلُومِ اسْتَطَاعُوا التَّعَامُلَ مَعَهَا عَنْ طَرِيقِ الْمَنْفَعَةِ الْمُتَبَادَلَةِ، فَأَعْطَوْهُمُ الدِّينَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَخَذُوا مِنْهُمُ الْأُمُورَ الدُّنْيَوِيَّةَ الْمُفِيدَةَ، وَتَرَكُوا جَمِيعَ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَلَمْ يَذُوبُوا فِي هَذِهِ الْمُجْتَمَعَاتِ أَوْ يَنْصَهِرُوا فِي هُوِيَّاتِهَا وَثَقَافَتِهَا، فَنَتَجَ عَنْ ذَلِكَ ضَبْطُ الْعُلُومِ وَتَدْوِينُهَا، وَالِاسْتِفَادَةُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى الْقَضَايَا الْعَقَدِيَّةِ، كَمَا نَتَجَ كَذَلِكَ سِعَةُ الِاطِّلَاعِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْجَدِيدَةِ وَالْمُفِيدَةِ.
الثَّانِي: الِانْفِتَاحُ الْمَذْمُومُ؛ وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ التَّبَعِيَّةِ وَالِانْهِزَامِ، وَهَذَا مَا حَصَلَ لِلْأُمَّةِ بَعْدَ الْقُرُونِ الْمُفَضَّلَةِ الْأُولَى، حَيْثُ انْحَرَفُوا عَنْ جَادَّةِ الصَّوَابِ، وَمَالُوا عَنِ السَّبِيلِ، وَتَنَكَّبُوا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَكَانَ مِنْ ضِمْنِ الْأَسْبَابِ هُوَ انْبِهَارُهُمْ بِمَا لَدَى الْأُمَمِ الْأُخْرَى مِنَ الْعِلْمِ وَالْفِكْرِ، وَالِانْفِتَاحِ التَّامِّ عَلَيْهِمْ لِتَلَقِّي مَا لَدَيْهِمْ بِلَا تَمْحِيصٍ وَلَا تَدْقِيقٍ، وَهَذِهِ هِيَ التَّبَعِيَّةُ وَالِانْهِزَامُ.
وَالِانْفِتَاحُ غَيْرُ الْمُقَيَّدِ الَّذِي لَا يُرْسَمُ لَهُ حُدُودٌ، وَلَا يُجْعَلُ لَهُ مَعَالِمُ، بَلْ يَفْتَحُ الْبَابَ عَلَى مِصْرَاعَيْهِ، هُوَ الَّذِي يَجِبُ الْحَذَرُ مِنْهُ وَمُقَاوَمَتُهُ، لِمَا يَحْتَوِي عَلَيْهِ مِنْ سَلْبِيَّاتٍ كَثِيرَةٍ، وَمِنْ أَهَمِّ تِلْكَ السَّلْبِيَّاتِ مَا يَلِي:
أَوَّلًا: أَنَّ هَذَا الِانْفِتَاحَ مَا هُوَ إِلَّا انْسِلَاخٌ عَنِ الْهُوِيَّةِ، وَذَوَبَانٌ فِي هُوِيَّاتٍ أُخْرَى؛ فَيَتَحَقَّقُ فِيهِمْ مَا حَذَّرَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الْأَنْعَامِ: 153].
ثَانِيًا: أَنَّ هَذَا الِانْفِتَاحَ السَّلْبِيَّ يُؤَدِّي إِلَى التَّأَثُّرِ وَالتَّطَبُّعِ بِطِبَاعِ الْغَيْرِ، فَيُضِيِّعُ الْمُسْلِمُ هُوِيَّتَهُ، وَيَفْقِدُ تَفَرُّدَهُ، وَيُصْبِحُ نُسْخَةً مُطَابِقَةً لِغَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَمَعَاتِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ التَّأَثُّرُ تَأَثُّرًا ظَاهِرِيًّا كَطُرُقِ الْعَيْشِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَأْكَلِ، أَوْ تَأَثُّرًا جَوْهَرِيًّا مَعْنَوِيًّا فِي الْعَادَاتِ، وَالتَّقَالِيدِ، وَالْأَفْكَارِ، وَالثَّقَافَةِ.
ثَالِثًا: التَّشَتُّتُ وَالضَّيَاعُ الَّذِي يُصِيبُ الْفَرْدَ؛ وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْمُحَفِّزَاتِ وَالْمَصَادِرِ الَّتِي يَتَعَرَّضُ لَهَا، وَفِي ظِلِّ هَذَا التَّشَتُّتِ وَالضَّيَاعِ تَضِيعُ أَصَالَةُ الْفَرْدِ وَتَنْتَهِي هُوِيَّتُهُ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ طِفْلٍ سَاذَجٍ يَحْبُو خَلْفَ كُلِّ مَا يُثِيرُهُ دُونَ أَنْ يَتَلَفَّتَ إِلَى مَآلَاتِ الْأُمُورِ.
رَابِعًا: فِقْدَانُ الشَّغَفِ وَالْإِصَابَةُ بِالْمُرُونَةِ السَّلْبِيَّةِ، تِلْكَ الْمُرُونَةُ الزَّائِدَةُ الَّتِي تَجْعَلُهُ مُتَقَبِّلًا لِكُلِّ شَيْءٍ إِلَى حَدِّ فِقْدَانِ الِانْبِهَارِ وَضَيَاعِ الشَّغَفِ وَانْتِهَاءِ الِاهْتِمَامِ، فَيُحَاوِلُ تَعْدِيلَ نَفْسِهِ لِيَتَوَافَقَ مَعَ كُلِّ تَغْيِيرٍ، وَيَتَلَاءَمُ مَعَ كُلِّ الْمَوَاقِفِ، فَهُمْ لَا يَبْذُلُونَ أَيَّ جُهْدٍ فِي تَحَدِّي الْمَوَاقِفِ وَالتَّغْيِيرَاتِ الَّتِي تَطْرَأُ عَلَيْهِمْ، وَكَأَنَّهَا قَدْ فُرِضَتْ عَلَيْهِمْ فَرْضًا. وَهَؤُلَاءِ عَلَى عَكْسِ أَصْحَابِ الِانْفِتَاحِ الْإِيجَابِيِّ الَّذِينَ يُكَيِّفُونَ الْمَوَاقِفَ وَيُعَدِّلُونَ الْبِيئَةَ لِتَتَوَافَقَ هِيَ مَعَ أَفْكَارِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ وَمَا يَعْتَقِدُونَ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّنَا نَعِيشُ الْيَوْمَ فِي عَالَمٍ يَعِجُّ بِالْمُشَتِّتَاتِ، وَيَفِيضُ بِالْمُحَفِّزَاتِ، تَزْدَادُ فِيهِ وَتِيرَةُ الصِّرَاعَاتِ الْفِكْرِيَّةِ، وَالصِّدَامَاتِ الثَّقَافِيَّةِ، وَيُحَاوِلُ فِيهِ الْجَمِيعُ الِاسْتِحْوَاذَ وَفَرْضَ السَّيْطَرَةِ عَلَى الْآخَرِينَ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْتَوَيَاتِ، سَوَاءٌ عَلَى الْمُسْتَوَى الشَّخْصِيِّ الِاجْتِمَاعِيِّ أَوِ الْمُسْتَوَى الْعَالَمِيِّ بَيْنَ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ، وَفِي هَذِهِ الظُّرُوفِ أَنْ تَكُونَ قَادِرًا عَلَى الِانْفِتَاحِ عَلَى الْآخَرِ فَتَخْرُجَ مِنْ مُحِيطِكَ مُنَقِّبًا عَنْ وُجُهَاتِ النَّظَرِ الْأُخْرَى، بَاحِثًا عَنِ الْأَفْكَارِ الْجَيِّدَةِ، وَمُفَتِّشًا عَنِ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ فَذَلِكَ حَسَنٌ؛ شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دُونَ الْمَسَاسِ بِالثَّوَابِتِ، أَوِ التَّنَازُلِ عَنِ الْعَقَائِدِ، أَوِ التَّفْرِيطِ بِالتَّقَالِيدِ وَالْأَعْرَافِ، وَدُونَ التَّخَلِّي عَنْ هُوِيَّتِكَ الشَّخْصِيَّةِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم