قصة موسى ويوم عاشوراء

ناصر بن محمد الأحمد

2013-04-29 - 1434/06/19
التصنيفات: الأمم السابقة
عناصر الخطبة
1/ بنو إسرائيل في مصر. 2/فرعون يظلم بني إسرائيل ويقتل أبناءهم. 3/ ولادة موسى ونجاته من كيد فرعون بقدرة الله الغالبة. 4/ موسى يقتل المصري ويهرب إلى مدين. 5/ نبوة موسى في طريق مدين. 6/موسى يدعو فرعون إلى التوحيد. 7/ جدال موسى مع فرعون. 8/ إيمان السحرة بموسى ودينه. 9/ خروج بني إسرائيل في مصر وهلاك فرعون. 10/ دروس من القصة.

اقتباس

إن نور الله ظاهر مهما حاول المجرمون طمس معالمه، وأن الطغاة وإن أثّروا في عقول الدهماء فترة من الزمن واستمالوهم بالمنح والعطايا فإن القلوب بيد الله يصرفها كيف يشاء، وتأملوا في حال فرعون وسحرته، وكم وُعدوا لقاء مواجهتهم موسى، ومع ذلك انقلبوا فجأة عليه، واستهانوا بما وعد به حين...

 

 

 

 

الحمد لله:

 

 

أما بعد: دخل يعقوب عليه السلام أرض مصر مع بنيه بطلب من ولده يوسف عليه السلام حين ولي وزارة مصر، وكانوا أفراداً معدودين، فآواهم يوسف عليه السلام وقال لهم: (ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ) [يوسف:99]، ولمكانة يوسف عند الملك أكرم الملك أبويه وإخوانه وأهله، وأحسن مثواهم ومكّن له في الأرض، حتى ولاّهم مناصب عالية فيها. ومضت السنون، وكثر بنو إسرائيل في مصر وزاد عددهم، وبدأ الفراعنة يحسدونهم على ما وصلوا إليه في البلاد من مناصب مع غربتهم، وبدؤوا يقلقون بسبب وجود بني إسرائيل في مصر، فأخذوا يعزلونهم عن المناصب والولايات.

 

وحدث أن رأى فرعون رؤيا، فُسرت له بأن هلاكه وذهاب ملكه، سيكون على يد غلام يولد من بني إسرائيل، فاستشاط غضباً، وأصدر أوامره بذبح كل مولودٍ ذكر من بني إسرائيل، وأخذ يستخدم كبار رجالهم ونسائهم في الأعمال الشاقة، وفي ذلك يقول ربنا سبحانه: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [القصص:4].

 

ولكن الله تعالى يريد غير ما يريد فرعون، ويقدّر غير ما يقدر الطاغية، والطغاة البغاة تخدعهم قوتهم وسطوتهم وحيلتهم فينسون إرادة الله تعالى وتقديره، ويحسبون أنهم يختارون لأنفسهم ما يحبون، ويختارون لأعدائهم ما يشاءون، ويظنون أنهم على هذا وذاك قادرون. والله يعلن إرادته، ويكشف عن تقديره، ويتحدى فرعون وهامان وجنودهما بأن احتياطهم وحذرهم لن يجديهم فتيلاً: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ  وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَـامَـانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ) [القصص:5، 6 ].

 

ويولد موسى عليه السلام في هذه الظروف، والخطر محدق به، والموت يتلفت عليه، وتحتار أمه، وترجف خشية أن تتناول عنقه سكين جنود فرعون، ويوحي إليها ربها: (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّي وَعَدُوٌّ لَّهُ) [طه:39]، وهذا منتهى التحدي. لقد أُعلنت الطوارئ، وصدرت الأوامر بذبح المواليد، تخوّفاً من واحد سيكون هلاك فرعون على يده، وإذا بالقدرة الإلهية تحمل هذا الغلام نفسه إلى فرعون، مجرداً من كل قوة ومن كل حيلة، عاجزاً عن أن يدفع عن نفسه أو حتى يستنجد، وكأنها تقول له:

 

يا فرعون! لا تتعب نفسك في البحث عن هذا الغلام الذي سيكون ذهاب ملكك على يده، فها هو بين يديك، فإن كان لك كيد أو تدبير فاصنع ما تريد. وإذا بفرعون نفسه يبحث لموسى عن المراضع، ويأتيه بهن واحدة بعد الأخرى حتى آل إلى أمه (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) [القصص:13].

 

ويتربى موسى في قصر فرعون تحت رعايته وإشرافه، وفرعون يوفر له كل احتياجاته (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَـامَـانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَـاطِئِينَ) [القصص:8]، وتنتهي مدة الرضاع وفترة الصِّبا، ويبلغ موسى أشده، ويستوي عوده، ويكتمل نضجه العضوي والعقلي.

 

وفي يوم، وبينما موسى يتجول في المدينة، في وقت الظهيرة حين تغفو العيون (فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَـاذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَـاذَا مِنْ عَدُوّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ) [القصص:15]، فأجمعوا أمرهم ليقتلوه، فنصحه ناصح بالخروج من البلاد (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ) [القصص:21]، حتى دخل مدين (وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ* قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظّلّ فَقَالَ رَبّ إِنّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ* قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأَبَتِ اسْتَأجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَـجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ* قَالَ إِنّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّـالِحِينَ* قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الاْجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَىَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) [القصص:23-28].

 

وقضى موسى أبر الأجلين وأوفاهما، ثم استأذن صهره في الرجوع إلى مصر! مصر التي قَتل فيها رجلاً بالأمس! مصر التي خرج منها خائفاً يترقب! ترى هل نسي ما كان منه؟ هل نسي أن لهم عنده ثأراً؟ إنها إرادة الله! إنه القدر الذي ذكّر الله عز وجل به موسى حين قال سبحانه له: (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يا مُوسَى) [طه:40]، وفي الطريق اشتد البرد، وفقد النار، وضل الطريق، وبينما هو في هذه الظروف القاسية (إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأهْلِهِ امْكُثُواْ إِنّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلّى آتِيكُمْ مّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى) [طه:10]، فأتى موسى هذه النار فإذا هي نور عظيم، وعندها خير كثير: (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يا مُوسَى إِنّي أَنَاْ رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى  إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) [طه:11-14].

 

وبهذا نبَّئ موسى، وأرسل حين قال له ربه: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) [سورة طه: 24] وموسى يعرف من هو فرعون فسأل الله العون: (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي) [سورة طه: (25- 30)] فقال الله له: (اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [سورة طه: (42- 44)] فالقول اللين لا يثير العزة بالإثم، ولا يهيج الكبرياء الزائف الذي يعيش به الطغاة، ومن شأنه أن يوقظ القلب فيتذكر ويخشى عاقبة الطغيان.

 

وإذا كان موسى هو النبي المعصوم المؤيد بقوى السماء مأموراً بالقول اللين، فما بال غير المعصومين وغير المؤيدين يغلظون القول ويقسون على المدعوّين، أهم خير أم موسى؟! وهل من يدعونهم شر من فرعون؟! فرفقاً بالناس معاشر الدعاة! فما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه. ومن يحرم الرفق فقد حرم الخير كله. أما قرأتم وسمعتم قول الله تعالى لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) [سورة آل عمران: (159)].

 

ويأخذ موسى أخاه هارون ويتوجهان إلى فرعون، ويبدأ موسى الكلام فيقول لفرعون: (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [سورة الشعراء: (16)] هكذا من أول لحظة، ليُشعِر فرعون أنه ليس رباً ولا إلهاً، وأنه مربوب لرب العالمين الذي يجب أن يتخذه إلها يعبده.

 

ويعجب فرعون وهو يرى موسى يواجهه بهذه الدعوى الضخمة (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ويطلب إليه ذلك الطلب الضخم: (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) [سورة الشعراء: (17)] فإن آخر عهده بموسى أنه كان ربيباً في قصره منذ أن التقطوا تابوته، وأنه هرب بعد قتله للقبطي. فما أبعد المسافة بين آخر عهد فرعون بموسى، إذن وهذه الدعوى الضخمة التي يواجهه بها بعد عشر سنين، ومن ثم بدأ فرعون متهكماً مستهزئاً مستعجباً: (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) [سورة الشعراء: (18- 19)] فهل هذا جزاء التربية والكرامة التي لقيتها عندنا؟! بأن تأتي اليوم لتخالف ديننا ولتخرج على الملك الذي نشأت في بيته، وتدعو إلى إله غيره؟! ولقد قتلت نفسا بالأمس وأنت من الكافرين برب العالمين الذي تقول به اليوم؟! فما الذي حدث؟! ويرد موسى في ثبات وثقة وطلاقة لسان: (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ * فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ * وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ) [سورة الشعراء: (20- 22)].

 

وعندئذ عدل فرعون عن هذه المسألة، وراح يسأله عن صميم دعواه، ولكن في تجاهل وسوء أدب في حق الله. (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ) [سورة الشعراء: (23- 30)] فسُقط في يده، ورأى أنه لا بد أن يستمع لبرهانه، فطلب منه أن يأتي بالدليل: (قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ) [سورة الشعراء: (31- 33)] وأحس فرعون بضخامة المعجزة وقوتها، فأسرع يقاومها ويدفعها وهو يحس ضعف موقفه، ويكاد يتملق الملأ من حوله، ويهيج مخاوفهم من موسى وقوله، ليغطي على وقع المعجزة المزلزلة: (قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) [سورة الشعراء: (34- 35)] فأشاروا عليه أن يأخذ من موسى موعداً يجتمع فيه السحرة من كل مكان، ويقابلون سحر موسى بسحرهم، فمن غلب اتبعوه، والأمر مفصول فيه أن السحرة هم الغالبون، فخيَّب الله سعيهم، وأبطل كيدهم، وجعل نبيه موسى هو الأعلى: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) [سورة الشعراء: (46- 48)] فجن جنون فرعون وأخذ يهدد ويتوعد، ولكن بشاشة الإيمان إذا خالطت القلب لم يعبأ بأية تهديد، ولذا قال المؤمنون كلمتهم بكل جرأة وثبات: (قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ) [سورة الشعراء: (50)] لا ضير في تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، لا ضير في التصليب والتعذيب، لا ضير في الموت والاستشهاد، (لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ) وليكن في هذه الأرض ما يكون، فالمطمع الذي نتعلق به ونرجوه أن يغفر لنا ربنا خطايانا جزاء أن كنا أول المؤمنين.

 

وهنا تدخل الملأ، أهل الأهواء والمصالح والمطامع، تدخلوا ليهيجوا فرعون على موسى ومن معه، ويخوفونه عاقبة التهاون في أمرهم، فطمأنهم فرعون بأنه سيحكم القبضة، ويعيد العمل بقانون الطوارئ، فيقتل الذكران ويستحيي النساء. وأخذ موسى يعظ قومه وينصحهم بالصبر حتى يأتي أمر الله، فـ قالوا: (أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [سورة الأعراف: (129)] ومضى فرعون وملؤه في جبروتهم، ومضى موسى وقومه يتحملون العذاب ويرجون فرج الله، وعندئذ تدخلت القدرة الإلهية فأخذت (آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) [سورة الأعراف: (130)] ثم جاءت الإنذارات تتراً (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ) [سورة الأعراف: (133)] ثم أعلنوها صريحة: (وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) [سورة الأعراف: (132)].

 

وأدرك موسى أن لا فائدة ترجى من القوم، وأنهم مصرون على الكفر والفساد في الأرض (فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ) [سورة الدخان: (22)] فأوحى الله إليه (فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ) [سورة الدخان: (23)] فإذا عبرت أنت ومن معك (وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا) [سورة الدخان: (24)] أي ساكنا كما هو إغراء لفرعون بالعبور، فإنهم قوم مغرقون. وفي الليلة الموعودة خرج موسى ببني إسرائيل، وعلم فرعون بخروجهم فجمع الجموع وخرج في طلبهم (فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ) [سورة الشعراء: (60)] (فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [سورة الشعراء: (61)] (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [سورة الشعراء: (62)] (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [سورة الشعراء: (63)] أي كالجبل العظيم، وصار البحر اثني عشر طريقاً لكل سبط طريق، وأمر الله الريح فنشفت أرضه، وهذا هو قوله تعالى: (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا) [سورة طه: (77)] وتخرّق الماء بين الطريق كهيئة الشبابيك ليرى كل قوم غيرهم فيطمئنوا عليهم.

 

وجاوز بنو إسرائيل، فلما خرج آخرهم كان فرعون قد انتهى إلى شاطئ البحر، فوقف مترددا أيعبر خلفهم؟ أم يرجع وقد كُفيهم؟ فجاء جبريل -عليه السلام- على فرس فمر إلى جانب حصان فرعون فحمحم إليها واقتحم جبريل فاقتحم فرعون وراءه، وميكائيل في ساقتهم، لا يترك منهم أحداً إلا أقحمه، حتى إذا أدركوا في البحر جميعاً جاءهم الموج من كل مكان وجعل يرفعهم ويخفضهم، وتراكمت الأمواج فوق فرعون، وجاءته سكرة الموت فنادى: (آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [سورة يونس: (90)] فقيل له: (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [سورة يونس: (91)] (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) [سورة يونس: (92)].

 

عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «قال لي جبريل: لو رأيتني وأنا آخذ من حل البحر فأدسّه في فيّ فرعون، مخافة أن تدركه الرحمة».

 

وهكذا أنجى الله موسى والمسلمين، وأغرق فرعون والكافرين، (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ) [سورة الأعراف: (137)] (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [سورة الشعراء: (8- 9)].

 

بارك الله لي ولكم..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله..

 

أما بعد: ولنا مع قصة موسى -عليه السلام- وفرعون مصر عدد من الدروس والوقفات المهمة:

 

1- أن نور الله ظاهر مهما حاول المجرمون طمس معالمه، وأن الطغاة وإن أثّروا في عقول الدهماء فترة من الزمن واستمالوهم بالمنح والعطايا فإن القلوب بيد الله يصرفها كيف يشاء، وتأملوا في حال فرعون وسحرته، وكم وُعدوا لقاء مواجهتهم موسى، ومع ذلك انقلبوا فجأة عليه، واستهانوا بما وعد به حين أبصروا دلائل الإيمان، ولاذوا بحمى الملك الديَّان، فكانوا أول النهار سحرة، وآخره شهداء بررة (وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) [سورة الأعراف: (113- 122)].

 

 إنه موقف من المواقف الحاسمة في تاريخ البشرية، هذا الموقف بين فرعون وملئه، والمؤمنين من السحرة السابقين. وإنه موقف حاسم ينتهي بانتصار العقيدة على الحياة، وانتصار العزيمة على الألم، وانتصار الإنسان على الشيطان. وليس هذا أول خرق في سفينة فرعون فقد كان في بيته مؤمنون، ومع ضعف النساء فقد تحدت آسية امرأة فرعون زوجها، وشمخت بإيمانها ولم تفتنها الدنيا ومباهجها. وضرب الله بها مثلا للمؤمنين وقالت: (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [سورة التحريم: (11)].

 

ووجد في آل فرعون مؤمنون ناصحون رغم العنت والأذى: (وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ) [سورة غافر: (28)].

 

2- قد عاش المسلمون في أيام فرعون ظروفاً عصيبة ملؤها الخوف والأذى، ووصل بهم الأمر أن يسروا بصلاتهم ويتخذوا المساجد في بيوتهم، قال الله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة يونس: (87)] قال ابن عباس في تفسير الآية: "قالت بنو إسرائيل لموسى -عليه السلام-: لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة، وأذن الله لهم أن يصلوا في بيوتهم".

 

وفي ظل هذه الظروف العصيبة أمر المسلمون بالصبر عليها والاستعانة بالله على تجاوزها بالوسائل التالية: منها: الصبر والصلاة (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ) [سورة الأعراف: (128)] وقال لهم ولغيرهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [سورة البقرة: (153)] فالصلاة سمة المسلم حين الرخاء وحين الشدة والضراء.

 

ومنها: الإيمان بالله والتوكل عليه، ضروري للمسلم في كل حال، وهما في حال الشدة عدة (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ) [سورة يونس: (84)].

 

ومنها: الدعاء وصدق اللجوء إلى الله يصنع أملاً من الضيق، وفيه فرج من الكروب وخلاص من فتنة الظالمين ونجاةً من الكافرين. (فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ) [سورة يونس: (86- 88)].

 

ومع ذلك فلا بد من الاستقامة على الخير وعدم الاستعجال في حصول المطلوب، فذلك أمر يقدره الله أنّى شاء وكيف شاء (قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) [سورة يونس: (89)].

 

3- أن الصراع مهما امتد أجله والفتنة مهما استحكمت حلقاتها فإن العاقبة للمتقين. لكن ذلك يحتاج إلى صبر ومصابرة واستعانة بالله صادقة: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [سورة الأعراف: (128)] أجل فلا ينبغي أن يخالج قلوب المؤمنين أدنى شك بوعد الله، ولا ينبغي أن يساورهم القلق وهم يصبرون على الضراء، ولا ينبغي أن يخدعهم أو يغرهم تقلب الذين كفروا في البلاد فيظنوه إلى الأبد، وما هو إلا متاع قليل، ثم يكون الفرج والنصر المبين بإذن الله.

 

أيها المسلمون: ويحس المسلمون برباط العقيدة مهما كانت فواصل الزمن، وكما تجاوز المؤمنون من قوم موسى -عليه السلام- المحنة كذلك ينبغي أن يتجاوزها المسلمون في كل عصر وملة، وكما صام موسى يوم عاشوراء من شهر الله المحرم شكراً لله على النصر للمؤمنين صامه محمد -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون، ولا يزال المسلمون يتواصون بسنة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- بصيام هذا اليوم، ويرجون بره وفضله.

 

عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: « ما هذا؟ " قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجَّى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال: " فأنا أحقُّ بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه».

 

وفي رواية مسلم قال: «هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وغرّق فرعون وقومه فصامه موسى شكراً لله تعالى فنحن نصومه».

 

وقد قال -عليه السلام- بشأنه: «وصوم عاشوراء يكفر السنة الماضية» وفي لفظ: «وصيام يوم عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله» فقدروا لهذا اليوم قدره وسارعوا فيه إلى الطاعة واطلبوا المغفرة، وخالفوا اليهود، وصوموا تطوعاً لله يوماً قبله أو يوماً بعده، فذلك أكمل.

 

أيها المسلمون: وإذا صمنا يوم عاشوراء وكلنا سيصوم إن شاء الله فينبغي أن نعلم أن الخطايا التي تكفر إنما هي الصغائر، فليحذر الكثير من الناس الذين يرتكبون الموبقات ويتركون الفرائض وينتهكون المحرمات، ويظنون أن ذلك يكفر بصيام هذا اليوم وأن صومه يكفر ذنوب سنة، وينسون أن أمر الكبائر يحتاج إلى توبة وعزم على عدم الرجوع.

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وتكفير الطّهارة، والصّلاة، وصيام رمضان، وعرفة، وعاشوراء للصّغائر فقط".

 

اللهم ...

 

 

 

المرفقات

موسى ويوم عاشوراء

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات