عناصر الخطبة
1/ اقتران اسم لقمان بالحكمة 2/ حياة لقمان وزمن وجوده 3/ شرح الآيات التي ورد فيها ذكر لقمان 4/ لقمان ووصاياه لولدهاقتباس
يتردد اسم لقمان بين الناس من زمن بعيد وإلى اليوم، وإذا ذكر اسمه فإنه يقترن بالحكمة، وهذا يدل على شخصيته القوية ووجوده في واقع الحال في وقت ما فرض نفسه على الناس بالاحترام وأقواله بالقبول والاستحسان. وفي القرآن الكريم ثبت ذكره، وبيّن الله -عز وجل- حقيقة وجوده ببيان اسمه وإنعام الله عليه بالحكمة والمعرفة ..
الحمد لله يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي -عباد الله- بتقوى الله وطاعته، وتعلم الحكمة في جميع الأمور، والعمل بها ومجالسة الحكماء والعلماء وأهل الرأي والمشورة في الدين والدنيا.
عباد الله: يتردد اسم لقمان بين الناس من زمن بعيد وإلى اليوم، وإذا ذكر اسمه فإنه يقترن بالحكمة، وهذا يدل على شخصيته القوية ووجوده في واقع الحال في وقت ما فرض نفسه على الناس بالاحترام وأقواله بالقبول والاستحسان.
وفي القرآن الكريم ثبت ذكره، وبيّن الله -عز وجل- حقيقة وجوده ببيان اسمه وإنعام الله عليه بالحكمة والمعرفة وذكر بعض حكمه في وصاياه لابنه.
ويذهب عامة المفسرين والمؤرخين إلى أنه كان في زمن داود -عليه السلام- والله أعلم. وقال ابن كثير -رحمه الله- أنه كان رجلاً صالحًا ذا عبادة وعبارة وحكمة عظيمة، وقال صاحب روح البيان: "كان عبدًا كثير التفكير، حسن اليقين أحب الله فأحبه، فمنّ الله عليه بالحكمة، وهي إصابة الحق باللسان، وإصابة الفكر بالجنان، وإصابة الحركة بالأركان، إن تكلم تكلم بحكمة، وإن تفكر تفكر بحكمة، وإن تحرك تحرك بحكمة".
ولقمان هو أول من يتأثر بالحكمة ويعمل بها، ولذلك كان دائم التفكير، ومما ذُكر عنه أنه كان حكيمًا زاهدًا في الدنيا غير مكترث بها ولا ملتفت إليها.
وقيل أيضًا عنه: إن بيته كان أحقر البيوت وأوهن من بيت العنكبوت، فسئل عن ذلك فقال: هذا كثير لمن يموت.
وعن عبد الله بن دينار، أن لقمان قَدِم من سفر فلقي غلامه في الطريق فقال: "ما فعل أبي؟! قال: مات، قال: الحمد لله، ملكت أمري، قال: وما فعلت أمي؟! قال: ماتت، قال: ذهب همي، قال: ما فعلت امرأتي؟! قال: ماتت، قال: جدد فراشي، قال: ما فعلت أختي؟! قال: ماتت، قال: سُترت عورتي، قال: ما فعل أخي؟! قال: مات، قال: انقطع ظهري وانكسر جناحي، ثم قال: ما فعل ابني؟! قال: مات، قال: انصدع قلبي".
وكان لقمان يطيل الجلوس وحده، فكان يمر به مولاه فيقول: يا لقمان: إنك تديم الجلوس وحدك، فلو جلست مع الناس كان آنس لك، فيقول لقمان: "إن طول الوحدة أفهم للفكر، وطول الفكر دليل على طريق الجنة".
وقول الله تعالى: (وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [لقمان:12]، ومعنى الحكمة كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس -رضي الله عنهم- أنها العقل والفهم والفطنة، وأخرج الإمام أحمد عن مجاهد: أنها العظة والإصابة في القول في غير نبوة، وقال أبو حيان الأندلسي: الحكمة: المنطق الذي يتعظ به ويتنبه به ويتناقله الناس، لذلك قال تعالى: (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) أي أمرناه أن يشكر الله -عز وجل- على ما آتاه الله ومنحه ووهبه من الفضل الذي خصصه به عمن سواه من أبناء جنسه وأهل زمانه من الحكمة، وقد نبّه الله تعالى على أن الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي هو العمل بها وعبادة الله والشكر له، وأن لا يعصي الله بنعمه عليه، وشكر القلب: المعرفة، وشكر اللسان: الحمد، وشكر الأركان: الطاعة، والشكر: كلمة تجمع ما تدور عليه سعادة الدنيا والآخرة؛ لأنه صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه إلى ما خلق لأجله وهو عبادة الله -عز وجل- القائل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56].
والشكر مبني على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، والثناء عليه بها، وأنه لا يستعملها فيما يكره.
(وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان:13]، وصّى لقمان ابنه بعدة وصايا وهو يعظه، فالوعظ زجر مقترن بتخويف، وصّاه لأنه يشفق عليه، فهو أحب الناس إليه، والمقصود أن ينصح ابنه.
وأول وصاياه لابنه: نهاه عن الشرك، قيل: كان ابنه كافرًا، ولذا نهاه عن الشرك، فلم يزل يعظه حتى أسلم، وقيل: كان مسلمًا، ووصف الشرك بأنه ظلم عظيم أي ظلم عظيم للنفس لأنه يعبد مع الله غيره، وهذا وضع الشيء في غير موضعه.
ولما نزلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قول الله تعالى: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام:82]، شقّ ذلك على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنه ليس بذلك، ألا تسمع قول لقمان: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)". أي أن الظلم ليس على إطلاقه وعمومه كما ظننتم بأنه وضع الشيء في غير موضعه، وهو مخالفة الشرع، فقد يقع المسلم في المعاصي ثم يتوب الله عليه.
ثم وصى لقمان ابنه بوصايا أخرى أولها: بر الوالدين، قال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [لقمان14 :15].
فأم الإنسان تحمله ضعفًا على ضعف، ثم تفصله -أي تفطمه- عن الرضاع بعد عامين، تُرَبِّيهِ وترضعه، ثم أمره بشكر الله، وقرن شكره -عز وجل- بشكر والديه، وقيل: الشكر لله على نعمة الإيمان، وللوالدين على نعمة التربية.
وأمره بطاعة الوالدين إلا في معصية الله والإشراك به، ومع ذلك يصاحبهما في الدنيا بما يرتضيه الشرع ويقتضيه الكرم والمروءة، ثم اتباع سبيل المؤمنين، ثم إلى الله المرجع والمآل والمصير.
ثم قال الله تعالى: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان:16].
المثقال: ما يقدّر به غيره، وحبة الخردل صغيرة جدًّا، فمهما تكن خافية فإن الله -عز وجل- مهما اختفت قادرٌ على الإتيان بها، أي يحضرها فيحاسب عليها.
وقال ابن كثير في تاريخه: "ينهاه عن ظلم الناس ولو بحبة خردل، فإن الله يسأل عنها ويحضرها عند الحساب ويضعها في الميزان".
وقد نطقت هذه الآية بأن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، سبحانه لا شريك له، وقيل: المعنى: أنه أراد بالأعمال: المعاصي والطاعات، أي إنْ تك الحسنة أو الخطيئة مثقال حبة يأت بها الله، أي لا تفوت الإنسان المقدور وقوعها منه: (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)، يصل علمه تعالى إلى كل خفي عالم بكل شيء.
ونكمل في الخطبة الثانية -بمشيئة الله تعالى-.
أسأل الله أن ينفعني وإياكم بهدي كتابه الكريم، وسنة خاتم المرسلين، وأن يهدينا للحق أجمعين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأن نتصف بأحسن صفات الحكمة، وإكمالاً لوصايا لقمان لابنه، فقد جاء في كتاب الله الكريم قوله تعالى: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان:17]، فإقامة الصلاة أعظم ما يقوم به الإنسان، إقامتها بحدودها وفروضها في أوقاتها، وبهذا يعلم أن الصلاة كانت مفروضة في سائر الملل، ومع اختلاف هيئتها وطرق أدائها، ثم أوصاه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب طاقتك وجهدك، باليد أو أن يكون باللسان أو بالقلب، حسب الاستطاعة، ويقول الشيخ المراغي في تفسيره للآية: "طلب منه أن يكون يافعًا للخلق، وعضوًا مفيدًا في الجماعة الإنسانية، وهو واجب على كل واحد، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أثر من آثار الإيمان، وحب الفضيلة وأساس من أسس صلاح المجتمع الإنساني، كما أوصاه بالصبر على ما يناله من الناس من أذى إذا أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر، ويجوز أن يكون في كل ما يصيبه من المحن والصبر على شدائد الدنيا من الأمراض وغيرها، وأن لا يجزع أو يعصي الله -عز وجل-: (إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)، أي: الصبر على أذى الناس، وقطع الطريق على التردد فيها بعد العزم والتصميم".
ثم يوصي لقمان ابنه فيقول له: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور) [لقمان:18]، أي: لا تتكبر على الناس أو تحتقرهم، أو يكون لديك خيلاء متكبرًا جبارًا عنيدًا، لا تفعل ذلك لئلا يبغضك الله -عز وجل- فإن الله –عز وجل- يبغض كل متبختر في المشي كبرًا، يفتخر على الناس بنسبه أو غيره.
والوصية الأخيرة: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان:19]، القصد: التوسط بين الغلو والتقصير، أي امشِ مشيًا معتدلاً، ولا تبالغ في الكلام، ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه، فإن أقبح الأصوات صوت الحمير على السمع.
إنها وصايا عظيمة من لقمان لابنه، وورودها في القرآن الكريم لِعِظَمِها، ولأنها أسس أخلاقية ودينية يجب أن يعمل بها كل مؤمن بلقاء الله -عز وجل-.
أسأل الله -عز وجل- أن نتصف بالحكمة ونعمل به، ونعوذ بالله من الإشراك به، وعبادة غيره معه، ونعوذ بالله من عقوق الوالدين والتكبر، ونسأل الله أن يرزقنا الإيمان به وتوحيده والعمل الصالح في طاعته واجتناب معاصيه، ونسأله بر الوالدين في حياتهما وبعد موتهما، ونسأله التواضع وكل خلق فاضل كريم.
وصلوا وسلموا -عباد الله- على خاتم رسل الله، نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم