الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: عباد الله، هي قصة شاب افترق والداه فعاش في كنف أمه وترعرع، فلما بلغ ستة عشر عاماً، وبينما هو جالس في حيه، جاءه شاب آخر فعرض عليه الذهاب إلى البحر، فاستشار والدته، فهو وحيدها، فمنعته من الذهاب؛ خوفا على فلذة كبدها من الانحراف مع رفقاء السوء، فأخذت بيده، وأمسكت بصدره، فما كان منه إلا أن نزع يده بقوة شبابه، ودفعها دفعا مؤذيا، وذهب مع خلانه.
وما إن مضت نصف ساعة على فراق أمه على تلك الحال حتى جاءه انتقام الله لهذه الوالدة، فسقط في البحر، فشُلّ كاملا، وفقد وعيه وتنفسه وكلامه، فأنقذ بإذن الله من الغرق الكامل، فعرض على جمع من الأطباء فصُنف من الميؤوس منه في علاجهم.
فرد إلى أمه تنظر إليه في بيتها وتضمه وهو في غيبوبة تامة، وأخبرها الأخصائيون أنه سيعيش مدة قليلة بآلات التنفس، ثم يكون مصيره لقاء الله بعد شهرين أو ثلاثة، ولا جدوى من معالجته.
لكن مشيئة الله وقدرته كانت فوق ما يصوره العلم ويقدره، فشاء الله أن يستيقظ من موتته الصغرى بعد ستة أشهر فاقدا لكل حركة حتى لسانه، فعرض على طبيب فأوصله علمه أن يجري له عملية يسترجع بها تنفسه الطبيعي فقط، أما الكلام فقد انعدمت فيه الحبال الصوتية، فأجريت العملية له بنجاح، لكن قدر المولى -عز وجل- أن ينطق ذاك الشاب بعدها!.
فاندهش الطبيب، وجُمع الأطباء للنظر في ذلك؛ لأن العلم وقف عند حدوده، وجاء لطف أرحم الراحمين فأنطق الشاب التائب الراجع إلى الله بالدعاء والذكر والحمد، الذي كان من دعائه بعد إفاقته أن يرد الله عليه لسانه ليذكره ويتلو كتابه، فاستجاب له مجيب المضطرين، فتحرك لسانه بالذكر الذي لا ينفك عنه، فكان حامدا مثنيا على الله، راضيا بقضائه وقدره، تائبا من عقوق أمه، إذ عرف أن سبب مصيبته ما بدر منه من معاملة والدته بالسوء.
[أمه] التي صارت خادمة وراعية لشأنه كله، فلم تنتقم منه، أو تفكر في ذلك في يوم من أيامها؛ بل سامحت ابنها الوحيد، وخدمته، ووقفت بجانبه، ورضيت بقدر الله وقضائه، وأنه ابتلاء منه لتصبر وتحتسب.
تمضي الأيام بالشاب وهو على ذكرٍ وحمدٍ وحفظٍ لكتاب الله، وسماعٍ للخير، فكانت منة الله عليه عظيمة، وأسرار لطفه به عجيبة، فهو يروي في قصته أشياء تنبئ على ذلك، من رعاية الله له، ورحمته به، وحفظه له؛ ليعتبر كل من رآه.
فمما كان من أمره أن جاءه بعض الشباب يخبرونه بمجيء شيخ من الفضلاء إلى مدينة قريبة من مدينتهم يلقي عليهم بعض المحاضرات، وأنهم عازمون على الذهاب للقاء به، وتمنوا أن لو كان معهم يرافقهم إلى ذاك الشيخ، فما كان من الشاب إلا أن دعا الله أن يمكنه من رؤية ذلك الشيخ، فلما أنهى الشيخ محاضرته واتجه إلى مدينة غير مدينة الشاب أخبره أحد مرافقيه أننا سنمر بجانب مدينة فيها شاب له قصة عجيبة في البلاء والصبر والاحتساب، والمرافق لا يعرف عنه شيئا إلا أنه أخبر برسالة من أحدهم كان خارج البلد بآلاف الكيلومترات: "لو زرتم شابا له قصة عجيبة!"، فوافق الشيخ، وانحرفوا جهة مدينته من غير وعد ولا ميعاد ولا اتفاق، فلما دخلوا عليه وأخبر بأنه الشيخ الفلاني سعد سعادة عظيمة وصاح بأعلى صوته: "والله ما جاء بك إلا الدعاء"، فصار يسرد قصته على الشيخ والمرافقين.
ومما كان يدعو به أن يحرك الله له يده ليتمكن من مسك المصحف وتقليب أوراقه، فاستجاب الله له دعاءه وحرك له يده، وقد عجز الأطباء عن تحريك أي عضو من أعضائه، فصارت يده المشلولة لا تصلح لا للأكل ولا لغيره إلا لتقليب أوراق المصحف، واعتبرها من أعظم النعم والمنن عليه؛ ففرح بذلك، وأثنى على الله، وحمده.
ومما ذكر أنه كان يتألم كثيرا من إحدى رجليه، وجرب الأطباء كل الأدوية لتخفيف الآلام، فما نفعه دواء، فكان يقول: والله إذا أردت النوم أذكر: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم. فيكررها فيذهب ما فيه من الألم ويرتاح.
وفي إحدى المرات كان في البيت لوحده، وأمه ذهبت لقضاء بعض حاجاته، فجاءته ذبابة فصارت تدخل في أذنه وأنفه، وأزعجته إزعاجا كبيرا، يقول الشاب: فقلت لها: والله إن لم تذهبي شكوتك إلى الله، قال: والله ما رأيت لها أثرا بعد ذلك!. فسبحان من يدافع عن أوليائه، وأهل ذكره ودعائه!.
وإذا زاره من يزوره من الشباب ذكرهم بنعمة الله عليهم، وحثّهم على شكره وذكره، والابتعاد عن المعاصي، خاصة الشباب منهم، وبين لهم فضل بر الوالدين، والعمل على إرضائهم، وحذرهم من العقوق.
ومرت بالشاب سبع عشرة سنة وهو على تلك الحال، يحمد الله ويثني عليه، ويكثر من قوله: "الحمد لله على كل حال، ودوام الحال من المحال"، ويقول إن هذه السنوات التي مرت به هي أسعد أيامه وأحلاها، يصبر على القضاء، ويرضى به، لسانه ذكر وثناء وحمد، حفظ من كتاب الله -تعالى- ثلثيه، وهو ماض في إكمال حفظه، حفظه الله -تعالى- ورعاه.
وفي آخر المجلس بعد أن سرد قصصه العجيبات مع لطف الله -تعالى- ورحمته ذكر أنه يتمنى شيئا واحدا في هذه الدنيا: أن ينهض من سريره ويقبل رجلي أمه، فإن لم يكن في الدنيا ففي الجنة؛ لأن أمه الصابرة منعته كل المنع من تقبيل رجليها، فهي خادمته، وحاضنته، والصابرة على البلاء الذي أصابها. نسأل الله أن يرحمه، ويلطف به، ويلبسه لباس الصحة والعافية، ويكتب له الأجر، ويعظم له الثواب.
والحمد لله رب العالمين...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: عباد الله، قصة هذا الشاب، وقد تركتُ الكثير منها، ليست ضربا من الخيال، ولا كانت في خوالي الأزمان؛ بل عايشتها قبل أيام قلائل مع بعض الفضلاء، وهي كلها عبرة وعبر، وتذكرة لمن كان له قلب وادّكَر.
هي موعظة لكل من ابتلي بعقوق والديه: ألا تخشى من انتقام الله وغضبه فيبتليك الله بمثل ما ابتلاه وغيره أو أكثر؟! ألم تعلم أن دعاء الوالدين على الولد مستجاب؟ ألم تعلم أن الله يمهل ولا يهمل؟ كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته".
ومن عبرها -أيضا- أن قدرة الله وعلمه لا تضاهيها قدرة البشر، فأمره -سبحانه- أن يقول للشيء كن فيكون.
ومن عظاتها أن أبواب التوبة مفتوحة مهما عظم الذنب وكبر، فبادر بالتوبة -عبد الله- قبل أن يفجأك الموت وأنت مقيم على المعاصي، منغمس في الرذائل؛ فالموت يأتي بغتة.
ومن عبرها -أيضا- الرضا بقضاء الله وقدره، وشكر الله على نعمه، فمهما أصابك فبعدل الله وحكمته ولطفه ورحمته، فما ابتلاك إلا ليمحصك ويرفع عنك الآثام.
ومن فوائدها أن الله وعد بالمدافعة عن المؤمنين من أوليائه جميعا، فضلا عن الدفاع عن الولي الواحد، قال -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) [الحج:38].
ومن ذلك -أيضا- أن البلاء يحتاج إلى صبر ولو طال، والمؤمن لا يجزع لطول مدته، فهو مكفر للسيئات، رافع للدرجات؛ فعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من يرد الله به خيرا يصب منه". وصبر العبد، بل ورضاه بقدر الله وأمره، دليل على إيمان العبد وتقواه، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة".
ومن عظات هذه القصة تذكير الناس بما كان عليه سلف الأمة من الصبر والحمد والشكر، وهو عنوان سعادة العبد في هذه الدنيا قبل الآخرة، ولَأحدهم كان أشدا فرحا بالبلاء من أحدكم بالعطاء، بل إن الشاب ذكرنا بهدي النبيين الذين ابتلاهم الله بأنواع البلايا، فهو يردد قوله -تعالى-: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [الأنبياء:83]، فكان يقول: "إن أيوب -عليه السلام- ابتلي في جسده فصبر، وأنا كذلك أصبر كما صبر"، وهو على يقين أن الله هو الشافي -سبحانه-، ولم يفقد أملا في ذلك.
ومن عظات هذه القصة، وعظاتها كثيرة، أن الخير باقٍ في أمة محمد، فمثل هذه القصص لا زلنا نقرؤها في كتب الزهد والتراجم عن السلف الصالحين، وها هي تتكرر في مجتمعنا، فلن نعدم الخير ما بقي الإيمان والتوحيد في قلوبنا.
ومن فوائدها شكر النعم، شكر المنعم -سبحانه- على النعم، ومعرفة قدرها مهما دقت وصغرت وهانت في أعين الناس، فلقد كان هذا الشاب يقول لمن حوله عن أقل النعم وأيسرها في نظر العبد: أقلها في نظر الصحيح المعافى مقدرته على مسح عينيه بيده. أما هو فقد فَقد هذه النعمة الكبرى، وغيرها كثير، فاحمد الله -عبد الله- على النعم مهما قلت وصغرت في عينك وأعين الناس.
ثم إن شكر النعم والصبر على البلاء والاستغفار من الذنوب عنوان سعادة المرء في الدارين، يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله- وكأنه يصف حال هذا الشاب، شفاه الله: الأمور الثلاثة عنوان سعادة العبد وعلامة فلاحه في دنياه وأخراه، ولا ينفك عبد عنها أبداً؛ فإن العبد دائم التقلب بين هذه الأطباق الثلاثة: الأول: نعم من الله -تعالى- تترادف عليه فقيدها الشكر، الثاني: محن من الله -تعالى- يبتليه بها ففرضها فيه الصبر والتسلي، فإذا قام به العبد كما ينبغي انقلبت المحنة في حقه منحة، واستحالت البلية عطية، وصار المكروه محبوبا؛ فإن الله -سبحانه- لم يبتله ليهلكه؛ وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته، فإن لله -تعالى- على العبد عبودية الضراء، وله عبودية عليه فيما يكره كما له عبودية فيما يحب، وأكثر الخلق يعطون العبودية فيما يحبون...
ثم قال -رحمه الله-: ولكن عدو الله –يعني إبليس- لا يخلص إلى المؤمن إلا غيلة على غرة وغفلة فيوقعه في المعاصي ويظن أنه لا يستقبل ردة -عز وجل- بعدها، وأن تلك الوقعة قد اجتاحته وأهلكته، وفضل الله -تعالى- ورحمته وعفوه ومغفرته وراء ذلك كله، فإذا أراد الله بعبده خيرا فتح له من أبواب التوبة والندم والانكسار والذل والافتقار والاستعانة به وصدق اللجأ إليه ودوام التضرع والدعاء والتقرب إليه بما أمكن من الحسنات ما تكون تلك السيئة به رحمة، حتى يقول عدو الله: يا ليتني تركته ولم أوقعه! وهذا معنى قول بعض السلف: إن العبد ليعمل الذنب يدخل به الجنة، قالوا: كيف؟ قال يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه منه مشفقا وجلا باكيا نادما مستحييا من ربه -تعالى-، ناكث الرأس بين يديه، منكسر القلب له، فيكون ذلك الذنب أنفع له من طاعات كثيرة بما ترتب عليه من هذه الأمور التي بها سعادة العبد وفلاحه، حتى يكون ذلك الذنب سبب دخوله الجنة. انتهى باختصار.
وكأنه يتكلم عن حال هذا الشاب الذي اقترف ذنبا فابتلاه الله فصبر على البلاء مدة سبع عشرة سنة، وهو في عبودية وانكسار، وذكر وشكر، وحمد واطمئنان.
نسأل الله أن يرفع عنه البلاء، ويلبسه وغيره ممن ابتلي بمثل ما ابتلي لباس الصحة والعافية، والصبر والتقوى، والرضا، وحسن الختام، وقبول التوبة، والندم، والاستغفار.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم