قصة حاطب رضي الله عنه وفوائدها

ناصر بن محمد الأحمد

2012-11-03 - 1433/12/18
عناصر الخطبة
1/ مكاتبة حاطب لأهل مكة 2/ الاستفسار عن الخطأ وأسبابه منهج نبوي 3/ دروس وعبر من قصة حاطب بن أبي بلتعة 4/ تصنيف الناس بين الظن واليقين 5/ ميزات تقييم الرجال.

اقتباس

إن من حكمة الله تعالى أنه لم يجعل لنا قدوة مطلقة في كل شيء إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشرع الله لا يتحمل أخطاء المنتسبين إليه كما أن خطأ الواحد لا يتحمله غيره، إننا نسمع كثيرًا من يقدح في العلماء أو طلبة العلم أو الدعاة والمصلحين بسبب خطأ وقع فيه واحد منهم، وإن حقيقة هذا المتكلم إنما أراد أن ..

 

 

 

أما بعد: روى البخاري في صحيحه عن علي رضي الله عنه قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوا منها، فانطلقنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة، قلنا لها: أخرجي الكتاب. قالت ما معي كتاب فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب. قال: فأخرجته من عقاصها، أي شعرها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من قريش يخبرهم ببعض أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا حاطب ما هذا؟ قال: يا رسول الله لا تعجل عليّ، أني كنت امرءًا ملصقًا في قريش أي حليفًا، ولم أكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين من لهم بهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذا فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدًا يحمون قرابتي ولم أفعله ارتدادًا عن ديني ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقكم».

فقال عمر يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرًا فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» فأنزل الله السورة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) [الممتحنة: 1] إنها حادثة غريبة في تاريخ الإسلام حدثت بأمر الله تعالى لتعطي لنا دروسًا وفوائد ولترسم لنا شيئًا من ملامح هذا الدين العظيم وهذه عدة وقفات مع هذه الحادثة:

1- إن الخطأ الذي اقترفه الصحابي الجليل حاطب بن أبي بلتعة ليس خطأً يسيرًا إنه يسمى في قوانين العالم الآن بالخيانة العظمى، والتي يكون عقابها الإعدام إنه كشف لأسرار لو وصلت إلى الأعداء ربما أحدثت كارثة للصحابة رضي الله عنهم ولكن الله سلّم.

وهذا الصحابي ليس من عوّام الصحابة بل هو من خاصتهم ومن أولي الفضل منهم إنه من أهل بدر ويكفيه شرفًا أنه من أهل بدر. ومع كل هذا يخطئ حاطب رضي الله عنه هذا الخطأ الفادح ليعلم الصحابة والأمة من بعدهم أن البشر كل البشر ماداموا ليسوا رسلاً معصومين من الخطأ حتى وإن كانوا من خيار الناس فإنهم معرضون للخطأ، وإن الإيمان كما هو معروف في عقيدة أهل الإسلام يزيد وينقص يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فما من إنسان إلا ويتعرض إلى فترات من الضعف تمر عليه في حياته، وقد يكون الضعف بسبب ضعف اتصاله بالله أو بكتابه أو بالمؤمنين أو بسبب زينة من زينات الدنيا تعلق بها أو بسبب معصية ارتكبها إلى غير ذلك من الأسباب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون».

إن خطأ هؤلاء القمم من الصحابة رحمة للأمة حتى لا يأتي بعض الناس في زماننا هذا ويضع لبعض البشر هالة من التقديس أو الألوهية كما فعلت النصارى وكما تفعل باقي الملل المنحرفة وحتى الفرق المنتسبة للإسلام؛ إذ رفعوا من مراتب أئمتهم إلى منازل لا يستحقها إلا الله جل جلاله.

إن البشر لا يصلحون أن يكونوا إلا بشرًا كما خلقهم الله. وإن عدم فهم هذه القضية سبّب لنا أزمة فكرية تمثلت في طائفة من المسلمين الذين ينظرون إلى القدوات من المتدينين وطلبة العلم الشرعي والدعاة إلى الله على أنهم معصومون من الخطأ، حتى إذا ما أخطأ أحدهم يومًا من الأيام لضعفٍ أصابه فإنهم يستعظمون ذلك الخطأ ولا يلتمسون له عذرًا، بل إنه يسقط من أعينهم وربما يعامل معاملة قاسية حتى بعد توبته من ذلك الخطأ، وأعظم من ذلك وأطّم أن يُعمم الحكم على طائفة من المستقيمين بسبب خطأ ارتكبه بعضهم.

أيها المسلمون: إن من حكمة الله تعالى أنه لم يجعل لنا قدوة مطلقة في كل شيء إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فشرع الله لا يتحمل أخطاء المنتسبين إليه كما أن خطأ الواحد لا يتحمله غيره، إننا نسمع كثيرًا من يقدح في العلماء أو طلبة العلم أو الدعاة والمصلحين بسبب خطأ وقع فيه واحد منهم، وإن حقيقة هذا المتكلم إنما أراد أن يسِّوغ أخطاءً هو واقع فيها، فإذا ما أُمر بإصلاح وضعه تعذر بأعذار واهية منها حال بعض الملتزمين بتلك الأحكام التي فرط هو فيها.

فمن أمثلة ذلك أن تقول لأحد المسلمين ارفع ازارك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أسفل الكعبين من الإزار فهو في النار»، فيقول لك: إن جاري شخص متدين وثوبه ليس مُسبلاً لكنه يعامل أهله معاملة سيئة كما أنه لا يسلم عليّ إذا لقيني، إن هذه الإجابة إنما هي حيدة أراد بها التخلص من الموقف ومغالطة لا تنطلي على من يعلم السر وأخفى وإلا فما علاقة استجابتك أنت بتفريط غيرك في مسألة أخرى.

كما أنه يجب علينا أيها الإخوة أن نفرّق بين من يخطئ ويصرّ على خطئه وبين من يخطئ ويشعر بخطئه ويندم عليه ثم يصلح من نفسه. ولهذا ذكر الله تعالى من صفات المتقين وعدهم بجنة عرضها السموات والأرض بأنهم: (إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران: 135].

الوقفة الثانية: أن المسلم مطلوب منه التريث قبل إصدار الأحكام فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه يُوحى إليه، لم يستجعل في الحكم على حاطب رضي الله عنه، فلما سمع من حاطب رضي الله عنه عذره علم صدقه فعفا عنه.

وإن مما ابتليت به الأمة في الأزمان المتأخرة تصدي بعض الجهلة لإطلاق الأحكام على الناس ورميهم بالبدعة والانحراف واتهام النيات التي استأثر الله بعلمها فماذا سيقولون لله يوم القيامة إذا سألهم: على أي شيء استندتم في اتهام نية أخيكم المسلم أنه أراد بكلامه ما فهمتم من فهم سيء.

وإنه لمن المؤسف أن يعتذر هؤلاء المسيئون للظن في إخوانهم المسلمين من العلماء والدعاة والمصلحين من المؤسف أن يعتذروا بأنهم أرادو الاصلاح أو تحذير الناس من أخطاء هؤلاء المحذر منهم، وإنه لمن العقل والحكمة والدين أن يرجع هؤلاء عن اتهامهم لغيرهم بغير برهان، وأن يتقوا الله في أعراض المسلمين قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه الندم. علمًا بأن سوء الظن وحمل الكلام على أسوأ الاحتمالات إنما هو دليل على سوء طوية الظان وفساد قلبه وقد قيل إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه.

نسأل الله لنا وللمسلمين العافية وأن يجعلنا من المتقين لله في القول والعمل إنه على كل شيء قدير.

بارك الله لي ولكم في القرآن.

 

 

الخطبة الثانية:

إن الحمد لله..

أما بعد: أيها المسلمون: الوقفة الثالثة: إنه من الظلم والطيش أن يقوّم الرجال من حادثة واحدة مهما كانت الحادثة، ويُترك الماضي المليء بالأحداث والمواقف فالصحابة رضي الله عنهم ليسوا من مرتبة واحدة، وكذلك غيرهم، فالمهاجرون ليسوا كالأنصار وأهل بدر ليسوا كأهل أحدٍ، ومن آمن قبل الفتح ليس كمن آمن بعده والسابق للإسلام ليس كغيره، وكذلك الأعمال تتفاوت فالمجاهد ليس كغيره والعالم ليس كمن هو دونه في العلم، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أصحابه بما فيهم عمر رضي الله عنه يذكرهم بأن حاطبًا ممن شهد بدرًا.

وكذلك بالنسبة لنا في زماننا هذا فإن الإنسان المسلم إذا اشتهر عنه شهود الجماعة في المسجد ولم يُعهد عنه انحراف ظاهر أو محاربة للدين وأهله فإنه يُلتمس له العذر قدر الإمكان ولا يحكم عليه بحكم عام بسبب خطأ واحد. فإن المسلم قد يتعرض لمواقف تخرجه عن طوره، فقد يتلفظ بألفاظ غير مناسبة أو يتصرف تصرفًا غريبًا فلا بد قبل الحكم عليه أن تُعرف سيرته وظروف الحادثة التي أخطأ فيها.

الوقفة الرابعة: أن الله عز وجل قد تكفل بحماية أوليائه المجاهدين في سبيله في الدنيا فضلاً عن الأجر العظيم المدخر لهم في الآخرة. فهذا حاطب رضي الله عنه ينزل الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم بالعفو عنه فالله عز وجل هو الذي يحمي دعوته ورجال دعوته (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا) [الحج: 38]، فعلى الدعاة والصالحين أن يتذكروا دائمًا هذه الآية (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا) [الحج: 38].

وأن يتأملوا كيف أنقذ الله نوحًا عليه السلام ومن آمن معه في السفينة وأغرق كل من على الأرض في طوفان لم يتكرر في تاريخ البشرية، وكيف أنقذ الله إبراهيم عليه السلام وهو يلقى في النار؛ لتظهر بعد ذلك دعوة التوحيد رغم أنف الطاغية النمرود.

وكيف أنقذ الله موسى عليه السلام ومن آمن معه من فرعون وجنوده وأطبق الله عليهم البحر ويختم السلسلة محمد صلى الله عليه وسلم التي املأت حياته عليه الصلاة والسلام بالأعاجيب التي أظهر الله فيها كيف يحمي الله نبيه وكيف يحمي حملة دينه في كل زمان.

إنه درس لنا لنعلم أن النصر إنما هو من عند الله لمن استحقه من المسلمين، وإن الحافظ هو الله سبحانه وحده، وما الخطط والتدبير والسلاح إلا أسبابًا لا تنفع إلا بمشيئة الله، فعلى الدعاة والمخلصين أن يستمروا في طريقهم دون خوف ولا وجل ماداموا قد أصلحوا ما بينهم وبين ربهم فإن ماتوا فهم شهداء وإن حَيوا صاروا أعلامًا يرتفع عليها الحق ويخسأ بسببها الباطل وأهل الباطل.

ولا ننس أيها الإخوة أن في هذه الحادثة وغيرها من الحوادث والأحاديث النبوية والآيات القرآنية ما فيه بيان المنزلة العظيمة التي ارتضاها الله لصحابة نبيه صلى الله عليه وسلم، فما أضل قومًا طمس الله بصائرهم فزعموا أنهم يتقربون إلى الله ببغض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم!! وصار في طقوس دينهم وعبارات صلواتهم سبُ الصحابة ولاسيما الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عن الصحابة أجمعين.

نسأل الله العفو والعافية.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين…
 

 

 

 

المرفقات

حاطب رضي الله عنه وفوائدها

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات