قصة الذبيح

إبراهيم بن صالح العجلان

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/محبة إبراهيم لابنه الوحيد وتعلقه به 2/في الابتلاء عبر وعظات 3/الأضحية شعيرة وفداء

اقتباس

ما أحرانا قبل شراء الأضاحي أن نستشعر قصةَ الاستسلامِ العظيمةَ، الذي كانتْ خلفَ تشريعِ هذه الشَّعيرةِ الكريمةِ، لتمتلئ الصُّدُورُ بِالِامْتِثَالِ، وَالرِّضَا بِأَحْكَامِ الْخَبِيرِ الْمُتَعَالِ، فَلَا تَقْوَى وَلَا إِيمَانَ، إِذَا غَابَتْ عُبُودِيَّةُ التَّسْلِيمِ عَنِ الْجَنَانِ...

الخطبة الأولى:

 

معاشر المسلمين: اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وبوَّأه ربه مكانًا جليلًا، ومكثَ الخليلُ لم يُرزقْ وَلدًا زمنًا طويلًا، فابتهل إلى الله: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ)[الصَّافَّاتِ: 100]؛ فجاءَتهُ البُشارةُ من الكريم الرحيم: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ)[الصَّافَّاتِ: 101].

 

ولدت هاجرُ إسماعيل، لا تَسَلْ بعدَ هذا عن فرحة إبراهيم الوحيد، المقطوع عن أهله وقرابته ووطنه، أحبَّ إبراهيمُ إسماعيلَ حُبًّا شديدًا، وملك عليه قلبه وكيانه، وأنس بثمرة فؤاده.

 

مضت سنون إسماعيل، تحفُّه شفقة الوالد الكهل، وما كاد الغلام يتفتح صباه، ويبلغ سِنَّ الرُّشْدِ، ويبلغ معه السعي، فيَذْهَبُ مَعَ أَبِيهِ وَيَمْشِي، ويرافقه في الحياة، والوالد حينما يكبر في السن يزداد ضَعْفُه، ويبدأ في الاعتماد على ولده ويزداد تعلقًا به.

 

حتى رأى الخليل في منامه أنه يذبح وليده ووحيده، ورؤيا الأنبياء حق، فأدرك حينها أنها إشارة من ربه بالتضحية، ما اعترض إبراهيم ولا عارض، ولم يتوقف، وإنما لبى واستجاب.

 

فيا لله… أي استسلام وتسليم هذا، لم يُطلب منه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة، ولا أن يكلفه بأمر تنتهي به حياته، إنما يطلب إليه أن يتولى هو بيده.

 

يتولى ماذا؟ يتولى ذبح ابنه، وجزِّ رأسه، فيا لله أي قلوب ومهج بشرية تطيق هذا البلاء، (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ)[الصَّافَّاتِ: 106].

 

(قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)[الصَّافَّاتِ: 102]، (يَا بُنَيَّ) هكذا بالتصغير، إنها عبارة تحمل في طياتها حنان الأبوة المشحونة بعاطفة الحب، ليعرض عليه هذا المصير المفجع.

 

(فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى)[الصَّافَّاتِ: 102] أراد إبراهيم أنْ يُشرك ولده معه في هذا الاختبار، وألَّا يأخذه على غِرَّة حتى لا تتغير نفسه نحو أبيه فيكرهه وهو لا يعلم ما حدث، وأراد أيضًا ألَّا يحرم ولدَه من الثواب والأجر على الاستجابة الطاعة والصبر على بلائها.

 

فماذا أجاب إسماعيل؟ ماذا أجاب الفتى الصغير في مستهل زهرات عمره، بعد هذا الخبر الذي يقف له الشعر، وتنفجر منه المشاعر، هل عبس وبسر، واستنكف وتضجر؟ هل اعترض بأنها رؤيا وليست وحيا؟  كلا.

 

وإنما قال مُسَلِّمًا ومُسْتَسْلِمًا: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)[الصَّافَّاتِ: 102]، هذا جواب الابن الصابر المحتسب، البارّ بوالده، امتلك توازنه، ولم يخرج عن رشده، ولم يحضر اعتراضه وطيشه، ولسان حاله: إذا كان هذا أمرًا من اللهِ -تعالى-، فشبح الذبح لن يزعجنا، ونهاية المصير لن تخيفنا، يكفي أنه من الله، وليس لنا إلا الصبر، ولأن الصبر في مثل هذه المواطن غير مضمون احتاج إلى الاستعانة بالله، فقال: (سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)[الصَّافَّاتِ: 102].

 

استجاب الابن وأبيه للأمر المكروه العصيب، طاعة لله وامتثالًا، وانقيادًا للحكيم واستسلاما (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)[الصَّافَّاتِ: 103].

 

وجاءت ساعة إسالة الدم، وإزهاق الروح، وما أعظمها من لحظة تنهار فيها الأعصاب، وتنحبس معها الأنفاس، وتتهاوى حينها القُوَى، ويضيع لحظتها العقل والتفكير.

 

(فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)[الصَّافَّاتِ: 103]، أضجعَه على وجهِه لئلا ينظرَ إليه وقتَ الذَّبحِ، فالولد مُلقًى على الأرض، والوالد في يده السكين، يحاول بالفعل ذَبْح ولده، وأىُّ ولد؟ ولده الوحيد الذى رُزِق به على كِبَرٍ، ولكَ أن تتخيلَ حالَهما في تلكَ اللَّحظةِ التي لا يستطاع تصويرها.

 

إنها مواقف لا يستطيعها إلا الإيمان العظيم.

 

يمضي إبراهيم، بيمينه السكين، وبشماله الجبين، وإسماعيل يتحين لحظة الموت، وما أصعب انتظار الموت.

 

أرأيتم قلبًا أبويًّا *** يَتقبلُ أمْرًا يأباهُ

أرأيتم ابنا يتلقى *** أمرًا بالذبح ويرضاه

ويُجيبُ الابنُ بلا فزع *** افعلْ ما تؤمرْ أبتاهُ

لن أعصيَ لإلهي أمرًا *** مَنْ يعصي يومًا مولاه

واستلَّ الوالدُ سكينا *** واستسلم ابنٌ لِرَداهُ

ألقاه برفقٍ لجبينٍ *** كي لا تَتلقَّى عيناهُ

 

وحين بلغ إبراهيم هذه الدرجة من الاستسلام ولم يبق إلا حركة السكين، وظهر من إبراهيم وإسماعيل صدقهما، إذا بالنِّداءِ الرَّحيمِ يأتي من السَّماءِ، (أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)[الصَّافَّاتِ: 104-105].

 

نجزيهم بنجاحهم في الاستجابة لأشد البلاء، ونجزيهم برفع ذِكْرهم عند أهل الأرض والسماء، ونجزيهم كذلك بإبقاء ذكرهم خالدًا مخلدًا إلى يوم الجزاء!

 

(وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)[الصَّافَّاتِ: 107]، عظيم لأنه كان فداء لإسماعيل، وعظيم لأنه من جملة العبادات الجليلة، وعظيم لأنه بقي قربانا وسُنَّة إلى يوم القيامة.

 

(وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ)[الصَّافَّاتِ: 77-78]، فبقي بلاء إبراهيم أعظم العِبَر والأمثال، وبقي اسمُه مذكورًا على توالي القرون والأجيال، وأصبح لوحده قدوة وأُمَّة، ومن نسله جاء الأنبياء، ومن دعوته بُعِثَ خيرُ الأصفياءِ، فكان أولى الناس به، وكانت أُمَّتُه الإسلامية المسلمة أولى الناس به، ورثت ملته، وقد كتب الله لها البقاء والقيادة؛ لأنها على ملة إبراهيم الحنيف، (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 68].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم …

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعدُ: فيا أهل الإيمان: لقد حوت قصة الذبيح عدَّة معانٍ ودلالات، لعل أبرزها: الاستجابة الحقة لله رب العالمين.

 

فيا أخي المضحي: اسْتَشْعِرْ هذه النيةَ الطيبةَ وأنتَ تضحي، أنكَ تسير على درب إبراهيم، واستشعر تضحية الخليل الخالدة الوحيدة.

 

لا يكن ذبحنا للأضحية مجرد عادة، أو طلب ثواب، دون أن يكون لها معنى إيماني نتربى عليه.

 

ما أجمل أن نوطِّن أنفسنا موسمَ الأضاحي على التسليم لله ورسوله.

 

ما أحرانا قبل شراء الأضاحي أن نستشعر قصةَ الاستسلامِ العظيمةَ، الذي كانتْ خلفَ تشريعِ هذه الشَّعيرةِ الكريمةِ، لتمتلئ الصُّدُورُ بِالِامْتِثَالِ، وَالرِّضَا بِأَحْكَامِ الْخَبِيرِ الْمُتَعَالِ، فَلَا تَقْوَى وَلَا إِيمَانَ، إِذَا غَابَتْ عُبُودِيَّةُ التَّسْلِيمِ عَنِ الْجَنَانِ (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[النِّسَاءِ: 65].

 

ما أحرانا أن نتربى على التسليم لله، في وقت ماجت فيه الانْحِرَافَاتُ الْفِكْرِيَّةُ، وراجت سوقُ التَّفْسِيرَاتِ الزَّائِغَةِ لِلنُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ.

 

ما أحرانا أن نذكرَ ونكررَ مبدأَ التسليم لله حتى لا يهون في الْقُلُوبِ مَبْدَأُ الاستجابة لِلْوَحْيَيْنِ، لِتُصْبِحَ تِلْكَ النُّصُوصُ مُجَرَّدَ قِطَعٍ أَثَرِيَّةٍ، تَسْتَعْذِبُهَا الْقَرَائِحُ، وَتَسْتَمْلِحُهَا الْأَذْوَاقُ دُونَ أَنْ يَكُونَ لَهَا حَقٌّ مِنَ التَّعْظِيمِ وَالِامْتِثَالِ.

 

وَإِذَا امْتَلَأَ قَلْبُ الْعَبْدِ اسْتِجَابَةً وَتَسْلِيمًا نَطَقَتْ جَوَارِحُهُ امْتِثَالًا وَتَصْدِيقًا، وَلَا تَسَلْ بَعْدَهَا عَنِ انْشِرَاحِ صَدْرِهِ، وَقَنَاعَتِهِ بِالْأَحْكَامِ، وَرِضَاهُ بِالْقَضَاءِ.

 

فَلَا شُكُوكَ تَجْثُمُ، وَلَا شُبُهَاتٍ تُؤَثِّرُ فيه، لِيَكُونَ حَالُهُ مَعَ كُلِّ عَاصِفَةٍ فِكْرِيَّةٍ: (وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 22].

 

أما إذا غابَ عَنِ الْقَلْبِ مَعَانِي التَّسْلِيمِ فَلَا تَنْتَظِرْ أَنْ يَكُونَ للأَحْكَامِ وَزْنٌ، وَلَا للنُّصُوصِ تَعْظِيمٌ.

 

إِذَا ضَعُفَ التَّسْلِيمُ حَلَّتِ الْحَيْرَةُ، وَحَضَرَتِ الشُّكُوكُ، وَحَانَ الصُّدُودُ، وَتِلْكَ حَالَةٌ مُؤْسِفَةٌ فِي الضَّلَالِ، يَتَكَرْدَسُ فِيهَا صَاحِبُهَا مِنْ عَمًى إِلَى عَمًى.

 

فيا أهل التسليم والاستجابة: استجيبوا للملك العلَّام، في خير أيام العام، بالاستكثار من عمل الصالحات، والمسارعة في الخيرات، وترك المنكرات.

 

فيا سعدَ مَنْ أطاب في هذه الأيام الكلامَ، وأطعم الطعامَ، وأحيا ليلَه بالقيام، ونهاره بالصيام، (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)[فُصِّلَتْ: 35].

 

وإذا فَتُرَتْ نفسُك -يا عبد الله- عن العمل الصالح في هذه العشر، فلا تُغْلَبْ عن صيام يوم عرفة، الذي قال فيه -صلى الله عليه وسلم-: "يوم عرفة أحتسبُ على الله أن يُكفَّرَ السنةَ التي قبله وبعده".

 

أحسنوا فيما بقي من عشركم الغالية، واستثمِروا يومَ عرفةَ المشهودَ، وتفرغوا من كل الشواغل فيه، فخيرُ الدعاءِ دعاءُ يومِ عرفةَ، وخيرُ ما قال الأنبياء فيه: "لا إله إلَّا الله وحدَه لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ".

 

فشمِّروا وأخلِصوا لربكم واصبروا وصابروا ليكون الجزاء: كلوا واشربوا هنيئًا بما أسلفتم في الأيام الخالية.

 

اللهم صلِّ على محمد...

المرفقات

قصة الذبيح

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات