عناصر الخطبة
1/ فوائد قصص القرآن الكريم 2/ قصة أيوب عليه السلام 3/ دروس وعبر من القصةاقتباس
لقد أصابه البلاء في ماله وولده وجسده، وذلك أنه -عليه الصلاة والسلام- كان لـه من الأموال والدواب والحرث شيءٌ كثيرٌ، وكان لـه أولادٌ ومنازلُ وفضلٌ واسع، فابتلاه الله في ذلك حتى ذهب عن آخره، ثم ابتُلي بمرض في جسده، ولم يبق منه سليماً إلا قلبُه ولسانُه يذكر بهما ربه ..
أيها المسلمون: يقول الله تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين: (إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الـمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرَاً كَبِيراً) [الإسراء:9].
حقاً والله! فقد اشتمل كتاب الله على كُلِّ هدى، فأنار القلوب، وأبان السبيل، وانجلت به كل الظلمات؛ ففيه المواعظ والعِبَر، والتذْكِرَات والفِكَر، التي لا يحصيها إلا مُنزل الكتاب -سبحانه-.
وإن مما أخذ من كتاب الله نصيباً وافراً ذلكم الضرب من ضروب الموعظة المودَع في أسلوب لا يُمل ولا يُسأم ولو رُدّدَ وكُرّر، بل لا يتم الغرض منه إلا بترديده وتكراره، وإطالة النظر فيه، واستنباط الفوائد منه.
إنه أسلوب القصص الذي تجده في كتاب الله كثيراً، فقد أكثر الله من ذكره في سُوَرِ الكتاب العزيز، بل إن من سور القرآن سوراً مِن أولها إلى آخرها تتحدث عن قصة أو حادثة مما حدث في الأمم السابقة.
اقرأ سورة يوسف والتي تزيد آياتها على مئة وعشر آية تجد أنها تتحدث عن نبي الله يوسف وما حدث لـه صغيراً وكبيراً، ولقد افتتح الله تلك القصة بقوله (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف:3]، ثم لما أتمها قال في آخر آية منها: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثَاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدَىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف:111].
وبعد كثير من قصص القرآن يبين الله شيئاً من الفائدة من إيرادها، واستمع إلى ذلك في مثل قولـه بعد قصة نوح في سورة هود: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) [هود:49].
وفي آخر سورة هود قال تعالى: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود:120]، ومعنى: (وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ) أي: جاءك الحق والهدى في هذه السورة، سورة هود.
ولما لقصص السابقين، وخاصة الأنبياء والمرسلين، من كبير فائدة، وعظيم عبرة، فقد كانت بعض سور القرآن تتسمى بذلك الأسلوب العظيم، أمثال سورة القصص، وسورة الأنبياء.
ولعلنا في هذه الخطبة نعيش لحظات مع آية من سورة الأنبياء، وقصة من قصصهم العظيمة التي ملؤها العظة والعبرة.
كلكم -يا عباد الله- يعرف نبي الله أيوب -عليه السلام-، ذلكم النبي الكريم الذي يُضرَب المثل بصبره على ما ابتلاه الله من البلاء العظيم الذي كان عاقبته إلى خير لا يحصيه إلا هو -سبحانه-، وقد ورد في سورة الأنبياء الإشارة إلى شيء من قصته: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ ? وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) [الأنبياء:84].
كان أيوب نبياً كريماً فابتلاه الله ابتلاءً رفع به قدره، وأعلى به منزلته. فيا ترى ما هي قصته؟ وكيف كان ابتلاؤه؟ وكم كانت مدته؟ ثم كيف كانت نجاته؟.
لقد أصابه البلاء في ماله وولده وجسده، وذلك أنه -عليه الصلاة والسلام- كان لـه من الأموال والدواب والحرث شيءٌ كثيرٌ، وكان لـه أولادٌ ومنازلُ وفضلٌ واسع، فابتلاه الله في ذلك حتى ذهب عن آخره، ثم ابتُلي بمرض في جسده، ولم يبق منه سليماً إلا قلبُه ولسانُه يذكر بهما ربه.
واشتد به البلاء حتى عافه الجلساء، وأُفرد في ناحية من البلد ليس لـه من يؤنسه إلا زوجته التي كانت تخدمه.
وسنأتي بالقصة على وجه صحيح بذكر اللفظ الذي حدّث به رسولنا -صلى الله عليه وسلم- أصحابه، ففي صحيح ابن حبان من حديث أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أيوبَ نبيَّ الله -عليه السلام- لبث في بلائه ثمان عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين كانا من أخص أصحابه كانا يغدوان إليه ويروحان .
فقال أحدهما لصاحبه: تعلَم؟ لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحدٌ من العالمين. فقال صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثمان عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به.
فلما راح الرجل إلى أيوب لم يصبر حتى ذكر لـه ذلك، فقال أيوب: أدري ما تقول! غير أن الله يعلم أني كنت أمُرُّ على الرجلين يتنازعان فيذكران الله -يعني: فيحلفان- فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما، كراهية أن يُذكر الله إلا في حق.
قال: وكان أيوب عليه السلام يخرج إلى حاجته فإذا قضى أمسكت امرأته بيده، فلما كان ذات يوم أبطأ عليها فأوحى الله إلى أيوب في مكانه: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) [ص:42].
فاستبطأته زوجته فبلغته -أي وصلت إلى مكانه- فأقبل عليها قد أذهب اللهُ ما به من البلاء، فهو أحسن ما كان، فلما رأته قالت: أي، بارك الله فيك! هل رأيتَ نبيَّ الله هذا المــُبْتَلَى؟ واللهِ ما رأيتُ أحداً كان أشبهَ منك إذ كان صحيحاً! قال: فإنه أنا هو!. إسناده صحيح على شرط مسلم.
ثم إن الله تعالى -بفضله- رد عليه أهله وماله، (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) [ص:43] بأن ردّ عليه العافية، ومن الأهل والمال الشيء الكثير.
من هذه القصة العظيمة نعلم أن الابتلاء من سنن الله في خَلقه، فمن ابتُلى فليس بأول مبتلى، وليس بالآخِر؛ بل إن أكثر الناس بلاء أكثرُهم فضلاً ونبلاً، حتى إن الناس يُبتلون على قدر أديانهم.
ومن عِبَر هذه القصة أن نعلم قدر الصبر، وعِظَم أجره، وثواب المتَّصف به، ووالله إنه لمن أفضل الصفات، وأجَلِّ الأخلاق والقربات! ولذلك كان ثوابه جزيلاً، وأجره عظيماً، حتى إن الصبر على ما لا يُعجب الإنسان، وإن كان سهلاً، يورث رضا الله، ومغفرة الذنوب.
ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد مرفوعاً: "ما يصيب المسلم من نَصَب، ولا وَصَب، ولا هَمٍّ، ولا حزَن، ولا أذى، ولا غمٍّ، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه".
وليس ذلك بغريب فقد ذكر الله الصابرين وقال: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10].
أيها المسلمون: هذه دعوة لنا جميعاً أن تستحضر الاحتساب في كل مصائبنا وأمراضنا ممــَّا قَلَّ منه أو كثُر؛ لئلا نُحرَم الأجر والثواب.
وما هو الاحتساب؟ الاحتساب هو أن تعلم أن ما أصابك فهو بقضاء الله وقدَره، فتسلِّم إليه، وترضى به، وتحمده عليه، وتعلم أنك في حالك هذه مأجورٌ على صبرك على ذلك المرض، هذا هو الاحتساب، ومَن استشعره حاز على فضل الله والثواب، قال -عز وجل-: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن:11].
وفي قوله تعالى: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) قال بعض السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويُسَلِّم.
أيها الإخوة في الله: في كثير من الأحيان يُصَاب الإنسان بما لا يُعْجِبُهُ من الأمور، فقد يصاب بمرَض، أو همٍّ، أو موت قريب، وقد يركبه الدَّيْن، أو تُصدم سيارته، أو يؤخذ مالُه، أو تُغضبه زوجته، أو يعقّه أبناؤه، أو يُصاب بما لا يحِب في سائر أموره، وعند ذلك فإما أن يحتسب الأجر عند الله، فهو رابح مأجور؛ وإما أن يغفل عن ذلك، فهو خاسر، إذ لم تتيسَّر لـه دنياه، ولم يحتسب الأجر فيكتب لـه الثواب في أخراه.
ألا فمَن أصابه شيء مما سبق أو أكبر منه أو أصغر مما لا يحبه فليقل ما كان يقوله الحبيب -صلى الله عليه وسلم- إذا أصابه ما لا يعجبه، فقد كان يقول: "الحمد لله على كل حال".
ثم ليعلم أن ما أصابه -وإن كان صغيراً- إنما هو بقضاءٍ وقدَر، فلْيَصْبِر وليحتسب، ولْيَعْلَمْ أنه مأجور، عندها لن يُعدَم خيراً،، فضلاً من الله وبراً.
اللهم وفِّقْنا لما يرضيك، ووفقنا لاحتساب أجرك وثوابك، واجعلنا من الصابرين الشاكرين يا أرحم الراحمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم