عناصر الخطبة
1/العبادات رحمة إذا كانت وفق ما قرره الشرع 2/مراتب القربات وأقسام المتعبدين 3/منزلة الفرائض في الدين وفضائل المحافظة عليها 4/تكميل النوافل وجبرها لما نقص من الفرائضاقتباس
إنما عظمت الفرائض لمحلِّها عند الله حين أوجبها، ورتَّب الإثمَ على مخالفتها، وشرع الكفارات علاجًا لتلك المخالفات دون النوافل؛ فكان ظهور الامتثال فيها للأمر أجلى، والتعظيمِ للآمر سبحانه فيها أعظم، وإظهارُ ذل العبودية فيها أبلغ، فلا صلاح للعبد ولا للكون إلا برعاية تلك الفرائض التي هي...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ)[النساء: 1].
أيها المؤمنون: شرْعُ العبادات رحمةٌ من الله سابغة أفاضها على عباده، يتقربون بها إليه؛ ليظفروا بمحبته ورضاه؛ فكان ذلك التقرب وابتغاء الوسيلة محصورًا فيما أذن به الشرع، وقام عليه دليله.
وفاوت سبحانه بين منازل تلك القُرَب كما فاوت بين أهلها؛ فكانت تلك القربات على درجتين: فرائض: وهي أصل القربات وأعظمها، وفروع هي النوافل.
وانقسم الطائعون بقدر ما حققوا من القُرَب فكان منهم المقربون السابقون المداومون على النوافل مع حفظ الفرائض، والمقتصدون أصحاب اليمين المحافظون على الفرائض دون النوافل.
وإنما عظمت الفرائض لمحلِّها عند الله حين أوجبها، ورتَّب الإثمَ على مخالفتها، وشرع الكفارات علاجًا لتلك المخالفات دون النوافل؛ فكان ظهور الامتثال فيها للأمر أجلى، والتعظيمِ للآمر سبحانه فيها أعظم، وإظهارُ ذل العبودية فيها أبلغ، فلا صلاح للعبد ولا للكون إلا برعاية تلك الفرائض التي هي أصل الإسلام، قال ابن أبي الورد: "أصلُ الإسلامِ في هذه الفرائض، وهذه الفرائض في حرفين: ما قال الله ورسوله: "افعل" فهو فريضة ينبغي أن يفعل، وما قال الله ورسوله: "لا تفعل" فينبغي أن يُنتهى عنه؛ فتركه فريضة".
أيها المسلمون: إن الفرائض أفضل العبادات، وأحب القربات إلى الله، وأعظم أسباب ولايته؛ كما قال سبحانه في الحديث القدسي: "مَنْ عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب، وما تقرَّب إلي عبدِي بشيءٍ أحب إلي مما افترضت عليه"(رواه البخاري) قال عمر -رضي الله عنه-: "أفضل الأعمال أداء ما افترض الله".
وما دامت الفرائض أحب العبادات إلى الله؛ فهي أسرع سبل تحقيق رضاه وأرجاها، قال الفضيل بن عياض: "لن يتقرب العباد إلى الله بشيء أفضل من الفرائض؛ الفرائض رؤوس الأموال، والنوافل الأرباح".
ومن رعى حقَّ الفرائض كان هو المتقي حقًّا، قال عمر بن عبد العزيز: "ليست التقوى قيامَ الليل، وصِيام النهار، والتخليطَ فيما بَيْنَ ذلك، ولكن التقوى أداءُ ما افترض الله، وترك ما حرَّم الله، فإنْ كان مع ذلك عملٌ، فهو خير إلى خير".
وسئل الفضيل بن عياض: ما العبادة؟ فقال: "أداء الفرائض".
وقال أبو عبد الله الجلاء: "من حافظ على الفرائض في أول مواقيتها؛ فهو عابد".
وحفظ الفرائض مفتاح الفلاح ودخول الجنة، روى طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- أن أعرابيًا جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثائر الرأس، فقال: يا رسول الله، أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة؟ فقال: "الصلوات الخمس إلا أن تطّوّع شيئًا" فقال: أخبرني ما فرض الله علي من الصيام؟ فقال: "شهر رمضان إلا أن تطوع شيئًا" فقال: أخبرني بما فرض الله علي من الزكاة؟ فقال: فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شرائع الإسلام، قال: والذي أكرمك، لا أتطوّع شيئًا، ولا أنقص مما فرض الله عليّ شيئًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَفْلحَ إنْ صدَق، أو دخل الجنَّةَ إنْ صدَق"(رواه البخاري).
قال السَّريُّ السَّقَطِي: "من أدى الفرائض واجتنب المحارم، وشَكَرَ النعمة عنده؛ فما لأحد عليه سبيل".
وبمحافظة العبد على الفرائض يُعان على النوافل، قال مقاتل في قوله عزَّ وجلَّ: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ)[البقرة: 45] استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض والصلاة.
وسئل ذو النون: ما لنا لا نقوى على النوافل؟ قال: لأنكم لا تصحون الفرائض.
وبالمحافظة على الفرائض يُرزق العبدُ الصبرَ، وتهون عليه المصائب، قال الضحاك في قول الله -تعالى-: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)[البقرة: 156]، قال: "هي لمن أخذ بالتقوى، وأدى الفرائض".
ورعاية الفرائض انضباطٌ يتربّى به العبد على الالتزام بالمشروع، وتكون حائلًا منيعًا دون غشيان الحرمات؛ وذاك سبيل الورع، الذي ما صان عبدٌ دينَه بمثله، قال سفيان الثوري: "أولى الفرائض الانتهاء عن الحرام والمظالم"، وقال مهدي بن ميمون: "كان أبو صادق لا يتطوع من السنة، ولا يصلي غير الفريضة، ولا يصوم يومًا واحدًا غير شهر رمضان، وكان به من الورع شيء عجيب".
ورعاية الفرائض من أرجى أسباب حسن الخاتمة، قال عطاء بن السائب: "دخلنا على أبي عبد الرحمن السلمي عند موته، فقال: "إني لأرجو ربي وقد صمت ثمانين رمضان".
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله...
أما بعد: فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله...
أيها المؤمنون: إذا كان هذا قدْر الفريضة في ميزان الله وشرعه فحقها جدير بالرعي والحفاية من الاهتمام بإدراك أهميتها، وتعلِّم فضائلها، وفقهِ أحكامها، ورجاء قبولها، وترتيب أولويتها سيما عند العجز أو الازدحام.
ولا يزال استشعار الاهتمام بالفريضة يحدو العبد على إتقانها بحضور قلبه أثناء أدائها، واستحضار نظر الله إليه وهو يتقرب إليه بأحب الأعمال لديه، ويختمها متيقنًا بعدم وفائها حقَّها بالاستغفار، واستذكار نعمة الله عليه حين هداه لها وأعانه عليها، ويرجوه أن كما هداه لها وأعانه عليها أن يتقبلها منه؛ كرمًا وفضلًا؛ فالخير منه ابتداءً وانتهاءً وإيجادًا وإمدادًا، ويحرص على جبر نقصان الفريضة بما شُرِع من نوافل ترقع الخلل وتكمل النقص، حاذرًا آفتين طالما نغَّصا صفوَ الفريضة وأنقصا أجرها أو أذهباه:
الآفة الأولى: السدور في الذنوب؛ اغترارًا بأداء الفرائض، كمن لجّ في عصيانه؛ اتكالًا على مغفرة الحج والصيام.
والآفة الأخرى -لمن كان له حظ من العبادة-: وذلك بأن يشغل الشيطانُ العبدَ عن الفرض بالنافلة، كمن حمله طلب الصلاة خلف ذي الصوت الحسن على تفويت فريضة صلاة الجماعة، أو من شغلته نافلة العمل التطوعي عن رعاية حق أسرته الواجب، قال ابن أبي الورد: "آفة الخلق في حرفين: اشتغال بنافلة وتضييع فريضة، وعمل جوارح بلا مواطأة القلب، وإنما منعوا الوصول بتضييع الأصول".
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم