قراءة في نسب حالات الطلاق

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2023-02-10 - 1444/07/19 2023-02-14 - 1444/07/23
عناصر الخطبة
1/الحكمة من تشريع الطلاق 2/كثرة حالات الطلاق في البلدان العربية 3/خطورة تفشي الطلاق4/إحصائيات الطلاق 5/توصيات للزوجين قبل وقوع الفأس في الرأس.

اقتباس

كَمْ سَمِعْنَا عَنْ زَوْجَةٍ قَتَلَتْ زَوْجَهَا أَوْ خَانَتْهُ مَعَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ رَفَضَ طَلَاقَهَا مَعَ إِصْرَارِهَا عَلَى الطَّلَاقِ، فَلَمْ تَجِدْ مِنْ أَسْرِهِ خَلَاصًا إِلَّا بِهَذَا!... نَقُولُ: بَلِ الْفُرْقَةُ هُنَا أَرْشَدُ وَأَقْوَمُ وَأَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ وَالْإِيمَانِ، ثُمَّ لِيَبْدَأْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَرِيقَهُ مِنْ جَدِيدٍ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ الزَّوَاجَ رَابِطَةٌ وَثِيقَةٌ، وَمِيثَاقٌ غَلِيظٌ، فَهُوَ أُسْرَةٌ تُبْنَى، وَبَيْتٌ يُقَامُ، وَمُسْلِمُونَ جُدُدٌ يَأْتُونَ إِلَى الدُّنْيَا، فَاسْتِقَامَةُ أَمْرِ الزَّوَاجِ وَاسْتِدَامَتُهُ صَلَاحٌ لِلْأُسْرَةِ وَالْمُجْتَمَعِ، وَنَفْعٌ لِلْإِسْلَامِ، أَمَّا هَدْمُ الْأُسْرَةِ بِطَلَاقٍ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ تَقْوِيضٌ لِبِنَاءِ الْمُجْتَمَعِ، وَثُلْمَةٌ تُثْلَمُ فِي أَرْكَانِهِ.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَلِمَا يُحْدِثُهُ الطَّلَاقُ مِنَ الْآثَارِ وَالدَّمَارِ فِي الْبُيُوتِ وَالْأُسَرِ جُعِلَ أَبْغَضَ الْحَلَالِ؛ إِلَّا أَنَّ الشَّرْعَ الْحَكِيمَ أَحَلَّهُ؛ لِيَكُونَ وَسِيلَةً رَاقِيَةً وَأُسْلُوبًا سَامِيًا لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ اسْتِحَالَةِ اسْتِمْرَارِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ شَرْطَ الطَّلَاقِ فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يَكُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَبِالْإِحْسَانِ، يَقُولُ -تَعَالَى-: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)[الْبَقَرَةِ: 229]، وَيَقُولُ -جَلَّ وَعَلَا-: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)[الْبَقَرَةِ: 231].

 

وَلَا يُلْجَأُ إِلَى الطَّلَاقِ فِي دَيْنِنَا إِلَّا لِلضَّرُورَةِ الَّتِي لَا تُرْفَعُ إِلَّا بِهِ، وَبَعْدَ اسْتِنْفَادِ جَمِيعِ وَسَائِلِ الْإِصْلَاحِ، يَقُولُ -تَعَالَى-: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا)[النِّسَاءِ: 34]، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ فَهُنَاكَ وَسِيلَةٌ أَخِيرَةٌ: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا)[النِّسَاءِ: 35]، فَإِنْ أَصْلَحَا، وَإِلَّا كَانَ الطَّلَاقُ.

 

فَإِنَّهُ قَدْ يَسْتَحِيلُ وَيَمْتَنِعُ اسْتِمْرَارُ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، فَنَكُونُ بَيْنَ خِيَارَيْنِ: إِمَّا أَنْ نَجْعَلَ لِلْمُتَضَرِّرِ طَرِيقًا مَشْرُوعًا يَحِلُّ بِهِ رِبَاطَهُ بِشَرِيكِهِ، وَإِمَّا أَنْ نَضْطَرَّ النَّاسَ إِلَى الْأَسَالِيبِ الْمُعْوَجَّةِ الشَّائِنَةِ!... وَلَنَا -مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ- عِبْرَةٌ بِأَهْلِ تِلْكَ الدِّيَانَاتِ الَّتِي لَا تُبِيحُ الطَّلَاقَ؛ كَيْفَ يَسْعَى الرَّجُلُ فِيهِمْ -إِذَا كَرِهَ زَوْجَتَهُ- إِلَى إِثْبَاتِ خِيَانَتِهَا زُورًا وَافْتِرَاءً؛ لِأَنَّهَا الْحَالَةُ الْوَحِيدَةُ الَّتِي يُبَاحُ لَهُ فِيهَا الطَّلَاقُ عِنْدَهُمْ!

 

وَهُنَا تَبْرُزُ وَتَتَبَيَّنُ حِكْمَةُ الشَّارِعِ الْحَكِيمِ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي تَشْرِيعِ الطَّلَاقِ، الَّذِي قَدْ يَتَحَتَّمُ عِنْدَ إِصَابَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ بِمَرَضٍ خَطِيرٍ مُعْدٍ، وَلَا يَحْتَمِلُ شَرِيكُهُ الصَّبْرَ عَلَيْهِ، أَوْ تَكُونُ الزَّوْجَةُ أَوْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا سَيِّءَ الْعِشْرَةِ، عَدِيمَ الْأَخْلَاقِ، فَلَا يُتْرَكُ شَرِيكُهُ أَسِيرًا لَدَيْهِ يَكْتَوِي بِسُوءِ خُلُقِهِ، بَلْ نَجْعَلُ لَهُ مَخْرَجًا:

وَمِنْ نَكَدِ الدُّنْيَا عَلَى الْحُرِّ أَنْ يَرَى *** عَدُوًّا لَهُ مَا مِنْ صَدَاقَتِهِ بُدُّ

 

وَقَدْ يَحْدُثُ نُفُورٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ -مَعَ صَلَاحِهِمَا-، كَمَا وَقَعَ بَيْنَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، أَوْ بَيْنَ الزُّبَيْرِ وَأَسْمَاءَ، أَوْ بَيْنَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ وَجَمِيلَةَ بِنْتِ أُبَيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-، وَكَذَا غَيْرُهُمْ فِي عَصْرِنَا هَذَا، فَإِمَّا أَنْ نُرْغِمَهُمَا عَلَى عَيْشٍ نَكِدٍ وَتَعَاسَةٍ وَإِخْلَالٍ بِحُدُودِ اللَّهِ، وَإِمَّا أَنْ "‏نَخْتَارَ أَهْوَنَ الشَّرَّيْنِ‏"‏، وَ"نُزِيلَ‏ الضَّرَرَ الْأَشَدَّ بِالضَّرَرِ الْأَخَفِّ"‏‏؛ فَنُبِيحَ الطَّلَاقَ.

 

وَكَمْ سَمِعْنَا عَنْ زَوْجَةٍ قَتَلَتْ زَوْجَهَا أَوْ خَانَتْهُ مَعَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ رَفَضَ طَلَاقَهَا مَعَ إِصْرَارِهَا عَلَى الطَّلَاقِ، فَلَمْ تَجِدْ مِنْ أَسْرِهِ خَلَاصًا إِلَّا بِهَذَا!... نَقُولُ: بَلِ الْفُرْقَةُ هُنَا أَرْشَدُ وَأَقْوَمُ وَأَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ وَالْإِيمَانِ، ثُمَّ لِيَبْدَأْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَرِيقَهُ مِنْ جَدِيدٍ، يَقُولُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ)[النِّسَاءِ: 130].

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: يُقَرِّرُ أَغْلَبُ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ الْحَظْرُ، فَهَذَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- يَقُولُ: "الْأَصْلُ فِي الطَّلَاقِ الْحَظْرُ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ مِنْهُ قَدْرُ الْحَاجَةِ"، وَيَزِيدُ الْحَدَّادِيُّ الْحَنَفِيُّ قَائِلًا: "الْأَصْلُ فِي الطَّلَاقِ الْحَظْرُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ النِّكَاحِ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ الْمَصَالِحُ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ".

 

لَكِنَّ الْعَجَبَ كُلَّ الْعَجَبِ، أَنْ تَجِدَ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ زَادَتْ فِيهَا حَالَاتُ الطَّلَاقِ زِيَادَةً مُرْعِبَةً، تُنْبِئُ بِتَسَاهُلِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَدْمِ أُسَرِهِمْ، وَتُظْهِرُ مِقْدَارَ بُعْدِهِمْ عَنْ هَدْيِ نَبِيِّهِمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَتُخْبِرُ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الطَّلَاقِ السُّنِّيِّ الَّذِي يُعْطِي عِدَّةَ فُرَصٍ لِلْأَزْوَاجِ لِلتَّرَيُّثِ قَبْلَ إِيقَاعِ الطَّلَاقِ، وَلِمُرَاجَعَةِ زَوْجَاتِهِمْ بَعْدَ إِيقَاعِهِ.

 

فَنَسْمَعُ كُلَّ يَوْمٍ عَنْ بَيْتٍ مُسْلِمٍ كَانَ آمِنًا مُسْتَقِرًّا، وَإِذَا بِهِ تَتَزَلْزَلُ أَرْكَانُهُ وَيَنْهَدِمُ بُنْيَانُهُ، ثُمَّ يَحْدُثُ الطَّلَاقُ عَلَى غَيْرِ مَا يُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-! فَيُطَلِّقُهَا ثَلَاثًا فِي كَلِمَةٍ، أَوْ أَثْنَاءَ حَيْضِهَا، أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ! فَيُقَوِّضُ بَيْتَهُ وَيَبُوءُ بِذَنْبِهِ!

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ هَذَا التَّهَوُّرَ وَالتَّسَرُّعَ فِي التَّطْلِيقِ يَقْرَعُ فِي مُجْتَمَعَاتِنَا نَوَاقِيسَ الْخَطَرِ؛ فَإِنَّهُ خَرَابٌ لِلْبُيُوتِ، وَتَصَدُّعٌ لِلْأُسَرِ، وَتَهْدِيدٌ حَقِيقِيٌّ لِكِيَانِ الْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ، وَهُوَ أَيْضًا تَشْتِيتٌ لِلْأَوْلَادِ، وَتَعْرِيضٌ لَهُمْ لِلْإِصَابَةِ بِالْأَمْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ وَالسُّلُوكِيَّةِ، وَفِيهِ أَيْضًا زَرْعٌ لِلتَّقَاطُعِ وَالْعَدَاوَةِ بَيْنَ الْمُطَلِّقِينَ وَعَائِلَاتِهِمْ.

 

وَإِنَّهُ أَمْرٌ يُسْعِدُ عَدُوَّنَا الْأَوَّلَ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ؛ إِبْلِيسَ اللَّعِينَ، فَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ"، قَالَ الْأَعْمَشُ: أُرَاهُ قَالَ: "فَيَلْتَزِمُهُ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، أَيْ: يَضُمُّهُ إِبْلِيسُ إِلَى نَفْسِهِ وَيُعَانِقُهُ؛ "مِنْ غَايَةِ حُبِّهِ لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ فِتْنَةً؛ لِمَا فِيهِ مِنَ انْقِطَاعِ النَّسْلِ، وَالْوُقُوعِ فِي الزِّنَا؛ الَّذِي هُوَ أَفْحَشُ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ"(شَرْحُ الْمَصَابِيحِ، لِابْنِ الْمَلِكِ).

 

وَكَمْ مِنْ زَوْجٍ تَسَرَّعَ فِي طَلَاقِ زَوْجَتِهِ، فَلَمَّا طَلَّقَهَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْحَسْرَةُ وَالنَّدَمُ، فَمِنْ هَؤُلَاءِ الْفَرَزْدَقُ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ "نَوَارَ"، قَالَ فِي كَمَدٍ وَحَسْرَةٍ:

نَدِمْتُ نَدَامَةَ الْكُسَعِيِّ لَمَّا *** غَدَتْ مِنِّي مُطَلَّقَةً نَوَارُ

وَكَانَتْ جَنَّتِي فَخَرَجْتُ مِنْهَا *** كَآدَمَ حِينَ أَخْرَجَهُ الضِّرَارُ

وَلَوْ أَنِّي مَلَكْتُ يَدِي وَنَفْسِي *** لَكَانَ عَلَيَّ لِلْقَدَرِ الْخِيَارُ

 

وَكَقَيْسِ بْنِ ذُرَيْحٍ لَمَّا نَدِمَ عَلَى تَطْلِيقِ زَوْجَتِهِ "لُبْنَى"، فَانْطَلَقَ يَقُولُ:

فَوَاكَبِدِي عَلَى تَسْرِيحِ لُبْنَى *** فَكَانَ فِرَاقُ لُبْنَى كَالْخِدَاعِ

تَكَنَّفَنِي الْوُشَاةُ فَأَزْعَجُونِي *** فَيَا لَلنَّاسِ لِلْوَاشِي الْمُطَاعِ

فَأَصْبَحْتُ الْغَدَاةَ أَلُومُ نَفْسِي *** عَلَى أَمْرٍ وَلَيْسَ بِمُسْتَطَاعِ

كَمَغْبُونٍ يَعَضُّ عَلَى يَدَيْهِ *** تَبَيَّنَ غَبْنَهُ بَعْدَ الْبِيَاعِ

 

عِبَادَ اللَّهِ: حَتَّى نُدْرِكَ حَجْمَ الْكَارِثَةِ، فَإِنَّ الْأَرْقَامَ لَا تُحَابِي وَلَا تُجَامِلُ، تَتَحَدَّثُ الْإِحْصَائِيَّاتُ أَنَّ (48%) مِنْ إِجْمَالِيِّ عَدَدِ الزِّيجَاتِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ بِمُعَدَّلِ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ حَالَةَ طَلَاقٍ يَوْمِيًّا، وَرُبَّمَا أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ النِّسْبَةِ فِي بَعْضِ دُوَلِ الْخَلِيجِ.

 

فَيَا لَلَّهِ يَا لَلَّهِ! إِنَّهَا لَأَرْقَامٌ صَادِمَةٌ مُفْزِعَةٌ مُخِيفَةٌ، تُنْذِرُ بِكَارِثَةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ عَاصِفَةٍ، وَتَكْشِفُ لَنَا هَشَاشَةَ أُسَرِنَا وَمُجْتَمَعَاتِنَا! وَغَلَبَةَ الْجَهْلِ عَلَى شَبَابِنَا؛ فَإِنَّ أَغْلَبَ حَالَاتِ الطَّلَاقِ بَيْنَ الشَّبَابِ! فَإِمَّا أَنْ يَتَدَارَكَنَا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِتْنَةٌ لَا يَعْلَمُ مَدَاهَا إِلَّا اللَّهُ!

 

إِخْوَانِي: هَا هُوَ بَعْضُ الْوَاقِعِ، وَأَدْرَكْنَا مَكْمَنَ الدَّاءِ؛ وَبِحَجْمِ الْفَاجِعَةِ، فَحَصِّنُوا أُسَرَكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِهِ، وَمُدُّوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَزْوَاجِكُمْ جُسُورَ الْمَوَدَّةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّفَاهُمِ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يُنَجِّيَنَا بِلُطْفِهِ مِنْ سُوءِ الْمَصِيرِ.

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللَّهِ: هَذِهِ وَصَايَا لِلْأَزْوَاجِ، تَصُونُ الْبُيُوتَ -بِعَوْنِ اللَّهِ- مِنَ التَّفَكُّكِ، وَتَحْفَظُهَا مِنَ الِانْهِيَارِ، فَأَوَّلُهَا: أَنْ أَقِيمُوا حُدُودَ اللَّهِ فِي بُيُوتِكُمْ، وَلَا تَتَعَدَّوْهَا، فَمَا مِنْ بَيْتٍ وَلَا بَلَدٍ تَعَدَّتْ حُدُودَ رَبِّهَا إِلَّا أَتَاهَا الْخَرَابُ عَاجِلًا غَيْرَ آجِلٍ: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا)[الطَّلَاقِ: 8]، وَمِنْ عَجِيبِ الْأَمَارَاتِ أَنْ تَأْتِيَ هَذِهِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ "الطَّلَاقِ"، وَبَعْدَ آيَاتِ الطَّلَاقِ مُبَاشَرَةً.

 

أَمَّا الثَّانِيَةُ: فَلَا تَطْرُقُوا لِلطَّلَاقِ بَابًا، وَلَا تَجْعَلُوهُ فِي حِسَابَاتِكُمْ، وَلَا يَقْرَبَنَّ أَلْسِنَتَكُمْ؛ فَإِنَّهُ أَمْرٌ لَا يُلْجَأُ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَاتِ، وَ"آخِرُ الدَّوَاءِ الْكَيُّ"، وَهَذَا الْحَبِيبُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَوَعَّدُ مَنْ تَطْلُبُ طَلَاقَ نَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَيَقُولُ: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلَاقًا مِنْ غَيْرِ بَأْسٍ، فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، كَمَا حَرَّمَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَيْهَا أَنْ تَطْلُبَ طَلَاقَ ضَرَّتِهَا، قَائِلًا: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تَسْأَلُ طَلَاقَ أُخْتِهَا، لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

وَالثَّالِثَةُ: عَدَمُ اسْتِجْرَارِ الْمَشَاكِلِ السَّابِقَةِ عِنْدَ كُلِّ خِلَافٍ؛ فَإِنَّهُ يُفَاقِمُ الْخِلَافَاتِ وَيُضَخِّمُ الْمُشْكِلَاتِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى الطَّلَاقِ.

 

وَالرَّابِعَةُ: التَّغَاضِي عَنِ الْأَخْطَاءِ وَالزَّلَّاتِ، وَالتَّعَامِي عَنِ الْعُيُوبِ وَالْهَفَوَاتِ، وَبِهَذَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قَالَ: "لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، وَحِينَ أَفْشَتْ حَفْصَةُ سِرَّ زَوْجِهَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَاتَبَهَا عَلَى بَعْضِهِ فَقَطْ، وَتَغَافَلَ عَنِ الْبَعْضِ الْآخَرِ فَضْلًا وَكَرَمًا، يَقُولُ السُّدِّيُّ: "وَمَعْنَى: (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ)[التَّحْرِيمِ: 3]: عَرَّفَ حَفْصَةَ بَعْضَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّهَا أَخْبَرَتْ عَائِشَةَ بِمَا نَهَاهَا عَنْ أَنْ تُخْبِرَهَا، وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ تَكَرُّمًا..."، وَقَالَ الْحَسَنُ: "مَا اسْتَقْصَى كَرِيمٌ قَطُّ""(تَفْسِيرُ الْقُرْطُبِيِّ).

 

وَالْخَامِسَةُ: تَرْكُ التَّأْنِيبِ وَالتَّوْبِيخِ: فَإِنَّ كَثْرَتَهُ تَقْطَعُ الْمَوَدَّةَ وَتُورِثُ الْبَغْضَاءَ، وَلَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى عَنْ تَأْنِيبِ الْجَارِيَةِ وَإِنْ زَنَتْ فَقَالَ: "إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ، ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

فَتَرَيَّثُوا -مَعَاشِرَ الرِّجَالِ- قَبْلَ إِيقَاعِ الطَّلَاقِ؛ فَإِنَّهُ يُخَلِّفُ آهَاتٍ وَوَيْلَاتٍ وَنَدَامَاتٍ وَحَسَرَاتٍ، وَاقْطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى الْخِلَافَاتِ بِالْحِلْمِ وَالصَّفْحِ، وَأَوْقِدُوا فِي بُيُوتِكُمْ شُمُوعَ الرِّفْقِ وَالتَّسَامُحِ وَالرِّضَا، تَسْكُنْ بُيُوتَكُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَتَرْتَحِلُ عَنْهَا الشَّيَاطِينُ.

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ:56].

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

المرفقات

قراءة في نسب حالات الطلاق.pdf

قراءة في نسب حالات الطلاق.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات