عناصر الخطبة
1/تأملات في معاني اسم الله الرزاق 2/أنواع الرزق 3/الثقة واليقين بأرزاق رب العالمين 4/دعاء الله تعالى باسمه الرزاق 5/القناعة والإحسان والصدقة من مفاتيح الرزق.اقتباس
وَرِزْقُ اللهِ -تَعَالَى- نَوعَان: الأَوّل رِزْقُ القُلُوبِ بِالعُلُومِ النَّافِعَةِ وَالإِيمَانِ الصَحِيحِ، وَالعَلْمِ بِالحَقَائِقِ النَافِعَةِ وَالعَقَائِدِ الصَائِبَةِ، ثُمَ التَخَلُقِ بِالأَخْلَاقِ الجميلة، والتنزهِ عن الأخلاق الرذيلة. والنوعُ الثاني: إِيْصَالُ البَارِي جَمِيعَ الأَقْوَاتِ التِي تَتَغَذَّي بِها المَخْلُوقَاتِ بَرَّها وفَاجِرَها المُكَلفُونَ وَغَيرُهم..
الخطبة الأولى:
الحَمدُ للهِ الذِي تَكَفَّلَ بِأرزَاقِ خَلقِهِ فَقَالَ: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[هود:6].
وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبدُاللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَليهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبعَهُ بِإِحْسَانٍ وسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً.
أَمَّا بَعدُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102].
أَيْهَا الإِخْوَةُ: تَأَمُّلُ أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ يُورثُ فِي القَلْبِ الطْمَأنِينَةَ والأَمَانَ، وَيُنْزِلُ فِي القَلْبِ الرِضَا وَالِاسْتِقْرَارَ؛ فَتُثْمِرُ حَالاً عَلِيَّةً، وَأَقْوَالاً سَنِيَّةً، وَأَفْعَالاً رَضِيَّةً، وَمَرَاتِبَ دُنْيَويَّة، وَدَرَجَاتٍ أُخْرَويَّة.
أَيُهَا الإِخوَةَ: وَمِنْ أَعْظَمِ أَسمَاءِ اللهِ الحُسْنَى الَتِي تَبْعَثُ فِي القَلبِ الثقةَ "الَرَزَّاق": وَهُوَ اسْمٌ يَدُلُ عَلَى أَنَّهُ رَزَّاقٌ لِجَمِيعِ المَخْلُوقَاتِ، فَمَا مِنْ مَوجُودٍ فِي العَالَمِ العُلويِ وَلَا السُفْلِي إِلا مُتَمَتِعٌ بِرِزْقِهِ مَغْمُورٌ بِكَرَمِهِ، وَهُوَ الَذِي يَتَوَلَى تَنْفِيذَ الأَرْزَاقِ لَحظَةً بِلَحظَةٍ؛ فَهُوَ كَثِيرُ الإِنْفَاقِ.
وَلَفْظُ الَرَزَّاقِ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ فِي قِسمَةِ الأَرزَاقِ؛ فَرِزْقُ الخَلَائِقِ عَلَيهِ وَلَيسَ لَهُمْ اعْتِمَادٌ فِي الرْزقِ إِلَا عَلَيهِ. وَقَدْ ضَمِنَ رِزْقَهُم وَسَيُؤدِيهِ كَمَا وَعَدَ؛ فقد قال: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[هود:6]، والرَزْقُ: هُوَ العَطَاءُ المُتَجَدِدُ الذِي يَأَخُذُهُ صَاحِبُهُ فِي كُلِ تَقْدِيرٍ يَومِيٍ أَوْ سَنَويٍ أَوْ عُمْرِيٍ.
وَفِي هَذَا الزَمَنِ أَجْلَبَ مُغَرِدُونَ بِتَغْرِيدَاتِهِم، وَمُحَلِلُونَ بِتَحْلِيلَاتِهم وَتَوَقْعَاتِهِم عَنْ أَحْوَالِ الأُمةِ الاقْتِصَادِيَةِ وَكَأَنَّهُم مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ: صَبَّحَكُم أَوْ مَسَّاكُم. لِذَلِكَ كُلِّهِ أَرَدْتُ أَنْ أَتَفَيَأَ وَإِيَاكُمْ ظِلَالَ اسْمِ اللهِ -تَعَالَى- الَرَزَّاقِ نَتَدَارَسُ مَعَانِيهِ، ونسْتَجلِي مِنْ الدَلَالَةِ مَا فِيهِ.
وَرِزْقُ اللهِ -تَعَالَى- نَوعَان: الأَوّل رِزْقُ القُلُوبِ بِالعُلُومِ النَّافِعَةِ وَالإِيمَانِ الصَحِيحِ، وَالعَلْمِ بِالحَقَائِقِ النَافِعَةِ وَالعَقَائِدِ الصَائِبَةِ، ثُمَ التَخَلُقِ بِالأَخْلَاقِ الجميلة، والتنزهِ عن الأخلاق الرذيلة.
والنوعُ الثاني: إِيْصَالُ البَارِي جَمِيعَ الأَقْوَاتِ التِي تَتَغَذَّي بِها المَخْلُوقَاتِ بَرَّها وفَاجِرَها المُكَلفُونَ وَغَيرُهم.. فهُوَ الرَزَّاقُ الخَلَّاقُ وَهُوَ عَلَى كُلِ شَيءٍ قَدِير: (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[الشورى:12]، ورزقُهُ -سبحانَهُ- لا يخُصُ به مؤمنًا دونَ كافرٍ، ويسوقُهُ إلى الضعيفِ الذي لا حِيلَةَ لَهُ، كما يسوقُهُ إلى الجَلْدِ القوي، قال -تعالى-: (كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)[الإسراء:20].
أيها الأحبة: رزقُ العبدِ مضمونٌ منه -تعالى-، ولم يكتفِ بالضمانِ بل أقسمَ –سبحانه- عليه فقال: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ* فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)[الذاريات:22،23]، ولا ينقطعُ عنْ مَخْلُوقٍ الرزق حتى تنقطعَ أنفاسُه قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَو أَنَّ ابْنَ آدَمَ هَرَبَ مِنْ رِزْقِهِ كَمَا يَهْرُبُ مِنَ الْمَوْتِ، لَأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كَمَا يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ"(البيهقي وحسنه الألباني عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ الله عَنْهُ).
لا تبتأسوا! فقد تكفل -سبحانه- بأرزاق الخلائق جميعًا، وأنزل ذلك قرآناً يُتلى فقال: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[العنكبوت:60]؛ أي: أنَّ الباري -تباركَ وتعالى-، قد تكفلَ بأرزاقِ الخلائقِ كُلِهم، قَويهم وعاجزِهم، من يدخرُ رزقَهُ ومن لا يدخرُهُ؛ فيُسخرُ اللّهُ -تعالى- لهم الرزقَ، في كلِ وقتٍ بوقتِه لا يخفى عليه خافية، ولا تهلك دابة من عدم الرزق بسبب أنها خافية عليه.
وقد وصفَ -صلى الله عليه وسلم- رَبَّهُ -تعالى- بِأَنَّهُ الرَّزَّاق، فَقَالَ: "إِنَّ اللهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ، الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ"(رواه الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه وصححه الألباني)، وهو الذي يعافي ويرزق، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، يَدَّعُونَ لَهُ الوَلَدَ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ"(رواه البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه).
أحبتي: إذا أَعْوَزَكُمْ الرَزقَ، فلا تطلبُوهُ بكثرةِ الحرصِ، فلنْ يَزيدَ الحرصُ والشحُّ العبدَ في رزقِهِ المقدَّر فوقَ ما قَسَمَهُ اللهُ لَهُ، قَالَ النَبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَيُّهَا النَّاسُ: اتَّقُوا اللهَ وَأَجمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا، وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ"(رواه أبو نعيم في الحلية وصححه الألباني).
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
الحَمدُ للهِ رَبِ العَالَمِين وَأَشهدُ ألَّا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ لَهُ وليُ الصَالِحِينَ، وَأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ سَيدُ المرْسَلِينَ صلَّى اللهُ وسلَّم وباركَ عليه وعلى آلهِ وأصحابِهِ ومن تبعهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يومِ الدَّينِ.
أمَّا بعدُ: أَيُهَا الإِخْوَةَ: اتَقُوا اللهَ حَقَ التَقْوَى، وَادْعُوا اللهَ باسمه الرزاقِ دعاءَ مسألةٍ ودعاءَ عبادةِ، وَدُعَاءَ المَسْأَلَةِ أَنْ تَطْلُبَ مِنْ ربكَ جَلَبَ الرزقِ فتقول: اللهم ارزقني، أَوْ يَا رَزَّاقَ ارزقني أو كدعاءِ إبراهيمَ -عليه السلام- الذي لَما قالَ: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)[البقرة:126]، وقَولِهِ: (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم:37].
أما دعاءُ العبادةِ: فثقةُ العبدِ بالله أنَّ الرزقَ الذي كتَبَهُ اللهُ لَهُ سَيَصِلُهُ حَيثُ كَانَ، وَإِنَّما كَانَ السَعْيُ لوقوعِ الأحكامِ على المحكومِ، قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلاَقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِى الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لاَ يُحِبُّ وَلاَ يُعْطِى الإيمان إِلاَّ مَنْ أَحَبَّ"(رواه أحمد وصححه الألباني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ).
فالعَبدُ يَثقُ بـ(إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)[الذاريات:58]، وَيُنْفِقُ ولَا يَخشَى مِنْ ذِي العَرشِ إِقْلَالَا.. أَلَا تَرى الطيرَ لا تَمْلِكُ خَزَائنُ لقُوتِها، وليسَ لها منَ الرزقِ إلا ما قدَّره اللهُ بسعيِها، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا"(رواه الترمذي وغيره عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ).
أيها الإخوة: حُسْنُ التَوحِيدِ فِي اسْمِ اللهِ الرَّزَّاقِ يَجْعَلُ العَبْدَ عَلَى يَقِينِ أَنَّ الرْزقَ سَيأَتِيهِ، وَقَدْ أَخبَرَ اللّهُ –تَعَالَى- أَنَّهُ هُوَ الرَّزَّاقُ، كَمَا أَنَّهُ الخَالِقُ المُحْيي المُمِيتُ، وَقَدْ قَرَنَ -سُبْحَانَهُ- بَيْنَ هَذِهِ الأَرْبَعِ فَي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مَعَ تَرْتِيبِ الحَكْمَةِ والقُدْرَةِ، فَقَالَ -تَعَالَى-: (اللّهُ الذِي خَلقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُميتُكُمْ ثُمَّ يُحْييكُمْ)[الروم:4]؛ فَكَمَا أَنَّ اللهَ هُوَ وَحْدَهُ الخَالِقُ المُحْي المُمِيتُ ، فَكَذَلِكَ هُوَ وَحْدَهُ الرَّزَّاقُ.
وَعَلَى المُؤمِنِ الذِي آَمَنَ باسْمِ اللهِ الرَّزَّاقِ: أَنْ يُسْدِىَ الإِحْسَانَ إلِى عِبَادِهِ، وَيَبذِلَ فِي سَبِيلِهِ، وَلَيسَ لابنِ آَدَمَ مِنْ مَالِهِ إِلَّا إِحْدَى ثَلَاثٍ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَقْرَأُ (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)[التكاثر:1]؛ قَالَ: "يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مَالِي. قَالَ: وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ"(رواه مسلم).
وبعد أحبتي: اسأَلُوا اللهَ مِنْ وَاسِعِ فَضْلِهِ، وَلَا تَخْشَوا مِنْ ذِي العَرْشِ إِقْلَالاً، وَقُومُوا بِمَا يَجِبُ عَلَيْكُم مِنْ حَقِهِ بِعِبَادَتِهِ وَأَدَاَءِ شُكْرِهِ؛ يَرْزُقُكُم اللهُ مِنْ حَيثُ لَمْ تَحْتَسِبُوا.
وصلوا وسلموا على نبيكم يعظم الله أجركم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم