فلنغير من أنفسنا

عبد العزيز بن عبد الله السويدان

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ تأملات في سنة التغيير 2/ تحمُّل الإنسان مسئولية تصرفاته وعواقبها في الدنيا والآخرة 3/ الوعظ أول مراحل التغيير 4/ أهمية تغيير أحوالنا حتى يتغير مجتمعنا إلى الأفضل.

اقتباس

إن من صور التناقض أن يتحسر فلان على واقع الأمة كمدًا، وأن يصرخ فلان الآخر في المسلمين كي ينهضوا لنصرة إخوانهم هنا أو هناك، وهما على ما هما فيه من تقصير شديد وقنوط مريب، بل ربما يقولان هذا القول وهم مقيمون على معاصي كبار لا تكفرها إلا التوبة النصوح.. لا بد من تغيير النفس من حال إلى حال.. لا بد من إحداث شيء يختلف عما عليه نفوسنا الآن، لا بد من تغيير الأنشطة القولية والفعلية المختلفة التي تؤدِّي إلى جعل الواقع يختلف عن الوضع اليوم؛ لأن الوضع الحالي لم ينتج إلا ما نراه من ضعف وهوان.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]،  (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

 

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

إن من سنن الله -تعالى- في خلقه سُنة التغيير؛ إما إلى الرقي، وإما إلى الانحطاط، إما إلى الخير، وإما إلى الشر، فقد أودع الخالق -تبارك وتعالى- قانونًا يجري على جميع خلقه، فرتَّب التغيير وأثره في واقع الحياة على حركة الإنسان الصادقة داخل نفسه، ووصف الحركة بالصدق؛ إشارةً إلى ما يتبع ذلك بالضرورة من تغيير في الأخلاق والأفعال، فلا يكون التغيير في النفس صادقًا إذا لم يكن له أثر فعلي محثوث في الجوارح والأركان، وكما قال -صلى الله عليه وسلم-: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب".

 

وأيضًا كما قال الحسن البصري -رحمه الله-: "ليس الإيمان بالتمني ولا التحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل".

 

ومن ثَم إذا حصل ذلك التغيير في النفس؛ فإن الواقع يستجيب بأمر الله -تعالى- بناء على ذلك التغير، هكذا أراد الله، أراد أن يعلّق تغييره لواقع الناس على تغييرهم هم لأنفسهم، تغيرهم لأنفسهم من الشك إلى اليقين، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن الكسل إلى النشاط، ومن الهزل إلى الجد، ومن مساوئ الأخلاق إلى مكارمها، فكان تغيير الخارج مبني على تغيير الداخل، قال سبحانه: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ) [الرعد:11].

 

وقال أيضًا جل وعلا: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال:53].

 

هكذا جعل الله -تبارك وتعالى- للإنسان سهمًا أساسًا في تحسين وضعه، أو إفساد وضعه، فحمل الإنسان مسئولية تصرفاته وعواقبها في الدنيا والآخرة، فعملية التغيير بيد الإنسان، وأمره راجع إلى خياره وقراره، فهو صانع التغيير بعد الله -تبارك وتعالى- وصاحب القرار الذي بيده أن يمضي فيه وأن يحققه.

 

فالذي يصنعه الإنسان من خير أو شر له تبعات يذوقها في الدنيا أو في الآخرة، أو في كليهما، ولذلك ضرب الله المثل فقال سبحانه: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) [النحل:112].

 

قال أهل التفسير: "إنها مكة"، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فأهل هذه القرية غيَّروا واقعهم من حَسَن إلى سيئ كيف؟ بكفرهم بأنعم الله وعصيانهم وجحودهم، فجاءته سنة الله كما قال -تعالى- في آية أخرى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) [إبراهيم:28].

 

وقال سبحانه في سبأ: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) [سبأ: 15- 17].

 

فلكلِّ حدثٍ في الكون سببٌ، عَلِمَه مَن علمه، وجهله من جهله، وكله بعلم الله -تعالى- ومشيئته.

 

والقرآن -أيها الإخوة- يجلِّي لنا الأسباب الشرعية التي تخفى على غير المؤمنين ممن عدموا هذه النعمة العظيمة، نعمة الهداية بالقرآن، فهذه القرى التي تعرضت لسنن الله الجارية عبر التاريخ، لو مالت إلى الخير لأتاها الخير، وقد بيَّن القرآن هذا في آية صريحة فقال -تعالى- (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ  لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [الأعراف:96].

 

وقال -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ) [المائدة: 65- 66].

نسأل الله الإيمان والتقوى والبركات من السماء والأرض.

 

أيها الإخوة: الوعظ هو ما أمر الله -تعالى- به الرسل وأتباعهم، قال -تعالى-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا) [النساء:63]، وقال -تعالى-: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) [سبأ:46].

 

ربما يكون الوعظ أول مراحل التغيير، لكن الوعظ يحتاج إلى آذان صاغية، وإلى قلوب واعية؛ لأن الوعظ إن لم يلامس قلبًا لينًا ومستعدًّا وقابلاً للتغير فلن ينفع.

 

الآية أيها الإخوة محكمة (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11]، (إِنَّ) حرف توكيد، لفظ الجلالة اسمها (لاَ يُغَيِّرُ) لا النافية (حَتَّى يُغَيِّرُواْ) حتى حرف غاية فلا تغيير للحالة إلا بتغيير ما في النفس.

 

إذاً فالحال الرديء الذي تعيشه أمتنا اليوم لا يتغير إلا بتغيير ما بنفوسنا أولاً، فالآية تنفي التغيير الظاهر إلا بالتغيير الداخل، ولذلك يصح أن يقال: إن من صور التناقض أن يتحسر فلان على واقع الأمة كمدًا، وأن يصرخ فلان الآخر في المسلمين كي ينهضوا لنصرة إخوانهم هنا أو هناك، وهما على ما هما فيه من تقصير شديد وقنوط مريب، بل ربما يقولان هذا القول وهم مقيمون على معاصي كبار لا تكفرها إلا التوبة النصوح.

 

فلماذا لا يبدآن بتغيير ما هما فيه حتى ينسجم القول مع العمل؛ فإن الآية تنص على إلزامية ذلك التغيير، لابد من تغيير النفس من حال إلى حال، تغيير في إقبال القلب على الله وتطهيره من الأحقاد، تغيير في مدى تمسكنا بشريعة الله في القسط والعدل مع النفس ومع الناس، ورفع المظالم، وإحقاق الحقوق في المعايير ما هي سمات الصحيح وما هي صفات الخطأ في حياتنا.

 

لابد من مراجعتها وتغييرها في حياتنا، في تقييم الأشياء لا بد من تغيير ما هو المهم وما هو الأهم؟ لا بد من إحداث شيء يختلف عما عليه نفوسنا الآن، لا بد من تغيير الأنشطة القولية والفعلية المختلفة التي تؤدِّي إلى جعل الواقع يختلف عن الوضع اليوم؛ لأن الوضع الحالي لم ينتج إلا ما نراه من ضعف وهوان.

 

هكذا (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، فإن في التغيير اقتداء بهدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسيرته الشريفة تخبرنا في أكثر من موضع أنه -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- غيَّر كثيرًا من شؤون حياة أصحابه القولية والفعلية، فهذا يوصيه "لا تغضب"، وذاك يقول له: "لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله"، وآخر يشير إليه بكفّ الأذى في وصفه لأفضل الإسلام فيقول له: "من سلم المسلمون من لسانه ويده"، وذاك يذكره بفضل الكرم وترك الجفاء في رده على سؤاله "أي الإسلام خير" فقال له "وتطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف"، هكذا يريد منهم أن يغيروا من واقعهم.

 

 أيها الإخوة: التغيير دليل الطموح والتطلع والرغبة في تحقيق الأفضل والأجمل والأكمل، والماء الراكد يأسن ويتعكر، وإننا نعلم أن هناك الكثير من الطاقات البشرية المهدَرة المعطلة التي لم يسعَ المجتمع للانتفاع بها وتفعيلها؛ لأن الممارسات الظالمة تمنع ذلك: الواسطة، إسداء الأمر إلى غير أهله، تغليب المصالح الخاصة على المصالح العامة..

 

كل هذا يدفن المواهب ويغيِّبها، أما الوقت فما أدراك ما الوقت كم من الأوقات الضائعة التي نهدرها جميعًا إلا ما ندر، على مدار اليوم والليلة في ما لا فائدة فيه ولا نفع، سواء أكان ذلك في الأقوال أو الأفعال.

 

 كم من ساعة لا نفع فيها يقضيها الكثير من الناس لاسيما الشباب أمام شاشات التلفزيونات وأجهزة الحاسب الآلي والجوال؟!

 

كم من ساعة على وجه الخصوص وهم يتجولون بسيارتهم هنا وهناك بلا هدف ولا فائدة ولا مصلحة؟!

 

كم من الساعات الكثيرة المباركة التي ينامها الكثير من الناس زيادة عن الحاجة على مدار اليوم والليلة؟

 

كم من الفرائض تُؤخر عن وقتها، وربما تضيع تساهلاً وتهاونًا والعياذ بالله؟!

كم من الكلمات التي يطلقها الإنسان وهو لا يدري أهي محسوبة له أم عليه؟!

كم من النقود الكثيرة التي تُصرف في أشياء ليست ضرورية ولا تدعو إليها الحاجة؟!

 

كم من الساعات التي تقضيها الناس وبعض الرجال في القيل والقال وكثرة الكلام؟!

كم من الأوقات ضاعت في ألوان من اللهو والغفلة لم يستفد منها معظم الناس في حياتهم؟!

كم من النصائح والمواعظ والمواقف التي سمعناها وعرفناها وتأثرنا بها في حينها ثم نسيناها بعد ذلك؟!

 

كم من الفائض من أصناف الأطعمة والأشربة في الحفلات والمناسبات العامة والخاصة؟!

 

ثم بعد هذا كله هل نغير من وضعنا؟!

هل تغير هذا الوضع؟!

هل تعدل نمط حياتنا؟ ألسنا في حاجة ماسة في أن نحدث تغييرًا ولو يسيرًا كي يتغير واقع حياتنا؟!

 

وأخيرًا لا تنظر إلى من حولك، ولكن نفسك غيِّرها للأحسن، فالتغيير يبادر إليه الحصيف، ولو رأى الكسل والتخاذل في كل من حوله، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- فيما صح في الترمذي من حديث حذيفة: "لا تكون إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا"..

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين..

 

 

المرفقات

من أنفسنا

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات