فلنعد إلى الله تعالى

الخطبة الأولى:

الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا وراءه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُمّا، وبعث فيهم رسولاً من أن أنفسهم عربًا وعجمًا، وأزكاهم محتدًا ومنمى، وأشدهم بهم رأفة ورحمى، حاشاه عيبًا ووصمًا، وزكاه روحًا وجسمًا، وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.

معاشر الصالحين: أمر الله العباد بالنظر في ملكوته، وفي تصريف الأيام، وفي هذا التعاقب بين الفصول من حر إلى قر إلى خريف إلى ربيع، وهكذا. وهذا النظر بعين الاستبصار له نتائج وثمار.

وكما أمر العباد بالنظر في هذه الأمور أبيح لهم التمتع بمواقع الجمال التي يتضمنها هذا التصريف بين الفصول، وذلك أمر محمود لا عيب فيه؛ بل هو من حاجات الإنسان الفطرية التي تمده بطاقة مواصلة العطاء والإنتاج.

يقول ربنا -سبحانه وتعالى- في آية يخاطب موقع التأمل والتذوق فينا من خلال الدعوة إلى النظر في مواطن الجمال في الكون، واتخاذ هذا الجمال قنطرة عبور إلى حب الله ومعرفته وطاعته، قال -تعالى-: (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) [ق:6-11].

تأملوا -يا رعاكم الله- في جماليات الآيات تعرض مظاهر الجمال، وتربطك بالكبير المتعال: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ)، السَّوق بمظاهر الجمال إلى رياض الجلال، والعبور من صور الجمال من جبال ونبات وأنهار إلى ميادين الاعتبار والاستبصار! (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِزْقًا لِّلْعِبَادِ)، تذكير المستمتع بالنخل بالمنعم الرزاق، (وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ)، تذكير بيوم الخروج من القبور من خلال صورة خروج النبات من الأرض.

وهكذا يريد العلي الكبير من عباده أن يكونوا دائمي التفكر في ملكوته من خلال جمال خلقه وآثار عظمته: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل:14]، الغاية: (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

ولكنه الإنسان! الإنسان الجحود الكنود: (قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) [عبس:17]، يقف عند الصنعة وينسى الصانع، يقف عند الجمال في الكون وينسى أن خلف هذا الجمال ربا عظيما يرينا قطرة من الجمال ليعلق قلوبنا به -سبحانه-، وهو الكريم الجميل.

أحبابي الكرام: هذا الصيف قد حل بِحَرّه، فلجأ الناس إلى البحار والأنهار، ولا عيب في ذلك، إنما العيب كل العيب في التفسخ والتحلل من القيم والمبادئ والمجاهرة بالمعاصي والتعري الفاضح أمام أعين الرجال. وإن تعجب فعجب أن يذهب الزوج بزوجته وبناته ثم يتمددن عاريات أمام الرجال! وهذا أمر -أقسم برب العزة- لم أستطع فهمه! حاولت من كل طريق أن أجد شيئا من التبرير فتردني النخوة تارة وتردّني الغيرة أخرى، وأسمع صيحات الرجولة، وبعد ذلك أستمع لصوت الشرع الحنيف الذي جاء بالهدى وهو يحرم هذه المظاهر.

ما الذي حصل؟ أهي الحداثة التي ينادون بها؟! إن كانت هذه حداثة فقبحت وقبح المنادي! نساء بالملابس الداخلية ورجال كذلك دون حياء من القائل: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ)! عجبا ورب الكعبة!.

والله إن هذا الأمر لا يفعله العربي في الجاهلية ولو أزهقت روحه، ما الذي جثم على عقول الآباء والأزواج؟ وما الذي أخرس ألسنتهم أمام هذا المنكر العظيم؟ إنها ذلة، والذلة من نتائج المعاصي، فقد قضى الله أن يذل من عصاه.

إنه الربا الذي هو حرب على الله ورسوله، إنها قنوات الفساد والإفساد التي تقلب الحقائق، إنه المكر الإعلامي، إنه الإعلام المأجور، إنه الإفلاس، إنه قتل ما تبقى من معالم الرجولة من خلال الإغراق في بحار الشهوات، ومعلوم أن الشهوات إذا استحكمت من العبد قادته كما تقاد الدابة.

وانظروا كذلك -يا رعاكم الله- إلى شوارعنا، والله إن القلب يتقطع من الحالة التي وصلنا إليها، عري بصيغة الطغيان، عري فاحش، جرأة غريبة على الله، تحد سافل لمشاعر الناس، نساء صغيرات وكبيرات قد تعرين وأمسكن بالسجائر! أين أولياء أمورهن؟! ما هذا الخبال؟ وما هذا الوبال؟ فتيات عاريات وشباب تائه قد وقع تحت تأثير الإغراء، والكل ضحايا مكر بُيت لهذه الأمة أراد مخرجوه ومهندسوه أن يقضوا على الحياء، وعلى القيم وعلى المبادئ. وإلى الله المشتكى!.

وإذا ما تكلم أحد قيل له: أنت رجعي قديم لا تساير العصر! متخلف تعود بنا إلى القرون الوسطى! وكل هذه تهم جاهزة، الشيطان سولها لهم وأملى لهم؛ وإلا فنحن مسلمون يحكمنا: قال الله، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

دعونا من أقوال المخنتين الذين (أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ) [القلم:17-18]. نحن نتعلق بأقوال سيدنا أبي القاسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيد ولد آدم، الناصح الأمين، الآخذ بحجزنا عن النار، هل هذه حال يرضاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ لا وألف لا!.

عن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنه قال: جاءت أميمة بنت رقيقة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تبايعه على الإسلام فقال: "أُبَايِعُكِ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكِي بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقِي، وَلَا تَزْنِي، وَلَا تَقْتُلِي وَلَدَكِ، وَلَا تَأْتِي بِبُهْتَانٍ تَفْتَرِينَهُ بَيْنَ يَدَيْكِ وَرِجْلَيْكِ، وَلَا تَنُوحِي، وَلَا تَبَرَّجِي تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى". فيا من رَضِيَتْ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- نبيا وبايعَتْه، قومي إلى حجابك ولا تلتفتي إلى قطاع الطرق الذين ضلوا وأضلوا.

عن أبي موسى -رضي الله عنه- أنه قال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا استعطرت المرأة فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي كذا وكذا" وقال قولا شديدا. رواه أبو داود والنسائي وغيرهما، وفي رواية: "فهي زانية".

يا من رضوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- نبيا من الآباء والأزواج والزوجات استمعوا إلى سيدكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: "سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي رِجَالٌ يَرْكَبُونَ عَلَى سُرُوجٍ كَأَشْبَاهِ الرِّجَالِ، يَنْزِلُونَ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ، نِسَاؤُهُمْ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، عَلَى رُؤوسِهِنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ... الْعَنُوهُنَّ؛ فَإِنَّهُنَّ مَلْعُونَاتٌ" رواه الطبراني وصححه الألباني.

أفترضين -يا ابنة الإسلام- أن تكوني ملعونة على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ أفترضى -يا عبد الله- أن تكون زوجتك أو ابنتك أو أختك ملعونات على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟  إنها أمور تستدعي التدارك ولا ينظر فيها إلى قول قائل، فما من كلام بعد كلام الله وكلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، من كانت ترجو لقاء ربها وتخشى عذابه وتخاف عقابه فلتبادر إلى التوبة؛ فإن الأمر خطير، وان العمر قصير.

جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، آمين! آمين! والحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي جعل شرائعه رحمة للعباد، ودعاهم إلى الهدى والرشاد، وحذرهم يوم التناد. والصلاة والسلام الأتمان على إمام الورى وسيد العُبّاد، سيدنا محمد إمام الأتقياء وسيد العباد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المعاد.

معاشر الأحباب: هل نحن حقا نعظم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ هل نطيعه؟ هل نقف عند أوامره ونواهيه؟ هل نتخذه قدوة وأسوة؟ إذا كان الجواب نعم؛ فكيف نتعامل مع قوله -صلى الله عليه وسلم-: "صنفان من أهل النار"، تأملوا: من أهل النار! "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا" رواه مسلم.

هل بعد هذا البيان من بيان؟ هل بعد هذا الوعيد من وعيد؟ فما الذي أصاب القلوب والعقول؟ إنها فوضى ورب الكعبة!.

ومن نتائج هذه الفوضى كثرة الزنا -عياذا بالله العظيم-! والزنا من أسباب الدمار والهلاك، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا ظهر الربا والزنا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم سخط الله".

واستمعوا -معاشر المسلمين- إلى هذا النداء المحمدي والتحذير المصطفوي والتوجيه النبوي الذي يتجاوز حدود الزمان والمكان، استمعوا إليه بقلوبكم؛ فإنه نداء عظيم لو وعيناه لاستحيينا من الله ولما تجرأنا عليه -سبحانه جل في علاه-. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "خسفت الشمس في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، الحديث، وفيه، قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته؛ فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله، وكبروا، وصلوا، وتصدقوا"، ثم قال: "يا أمة محمد!"، تأملوا: لم يقل: يا أيها المسلمون أو ما شابه ذلك ولكنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا أمة محمد"، يذكرنا نحن بأننا ننتسب إليه، وأن هذه النسبة أمانة عظيمة، ومسؤولية جسيمة، ثم قال: "يا أمة محمد، والله! ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا" رواه البخاري ومسلم.

ما أحلم الله عنا! فهل تستيقظ القلوب وتعود إلى علام الغيوب؟ وهل يكف دعاة الظلام والفساد وقنوات الخنا والعناد عن نفث سمومهم؟ هل يتوقفون عن فتنة عباد الله؟ (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) [البروج:10].

يقول سيدنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم-:  "لا تزال أمتي بخير ما لم يفش"، أي: ينتشر، "لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا فأوشك أن يعمهم الله بعذاب".

وعن بريدة -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما نقض قوم العهد قط إلا كان القتل بينهم، ولا ظهرت فاحشة في قوم قط -يعني الزنا- إلا سلط الله -عز وجل- عليهم الموت، ولا منع قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر" رواه الحاكم والبيهقي وغيرهما.

قال الإمام الذهبي -رحمه الله-: "ورد في الزبور"، والزبور هو الكتاب الذي أنزل على سيدنا داود، "ورد في الزبور مكتوبا أن الزناة معلقون بفروجهم في النار يضربون عليها بسياط من حديد، فإذا استغاث من الضرب نادته الزبانية: أين كان هذا الصوت وأنت تضحك وتفرح وتمرح ولا تراقب الله -تعالى- ولا تستحي منه؟".

أيها الأحباب الكرام: علم الله أن الداعي إلى تسطير هذه الحروف القليلة داعي الإخلاص والإشفاق على ظروف المجتمع الحاضر؛ لما يحف به من أضرار وأخطار تجعله يتقلب في وجه حياته، ويتخبط في وضع اجتماعه، ويقصد المضايق في طريقه، فيتهاوى في الظلام، ويتهافت على أسواق الربا وأبواب الملام، ويتزاحم على البارات والحانات والخمارات التي مدت أطنابها ورفعت طوارفها لتروج أنواع الفساد والخمور ترويجا ظاهرا لا تستّر فيه ولا استخفاء، ولتتاجر بذوات التفرنج وربات التبرج الكاسيات العاريات من دون احتشام ولا استحياء.

 كأننا نعيش في جو لا يطبع بطابع الإسلام، أو كأننا نهزأ ولا نعبأ بالحدود التي أنزلها الله بالحق لإصلاح عباده، ويوشك -إن لم يتداركنا الله برحمته ولطفه- أن يتحول الأمر إلى مجامع الشر في اختلاس وسرعة، وقد كنا بمنجاة من ذلك كله لو استخلصنا لنفوسنا سنن الهداية التي جربها من قبلنا وكانوا بها أسودا ورؤوسا، وحكمنا في مشاكلنا كتاب الله الذي أسعدنا بالأمس، ولكننا تنكرنا لمثله، وانحرفنا عن تعاليمه، وكل مجتمع تعدى حدود الله فقد ظلم نفسه وعرضها لصفعات القدر.

وكل مجتمع تغذى شِيبه بسلاف الخمر، وتربى صغاره بشراب السكر، فقد ضاعت أخلاقه، وفسدت أعراقه، وتالله! إن المؤمن ليكاد تزهق نفسه وتنقطع أعصابه حينما يرى هذا التبرج الفاضح وما يتبعه من زنا وخمور.

ومتى كان الإسلام -أيها الإخوة المؤمنون- أقوالا مجردة، وأحوالا متناقضة، وعقائد منحرفة، وأخلاقا متفسخة؟! فرحماك اللهم رحماك بهذه الأمة التي أصيبت بحربة في دينها، وخيبة في أدبها! والتي غرها زيف الحضارة، وشيطان الضلالة.

أيها الأحباب: من جوهر الإسلام وحقيقته أن كل امة لا تتوفر فيها استقامة الأخلاق وتربية الأجيال، ولا تترسم طريقة أصيلة وثقافة كريمة؛ فإنها تتناقص في كفاءتها وتتناقض في بناء حياتها، وتعيش في حومات من المشاكل الكبرى، مشاكل مادية وأدبية واقتصادية واجتماعية.

ولا تتخلص من أزمة إلا وتعقبها أخرى من جنس ما قبلها أو من جنس آخر، وهكذا إلى أن يشملها الانهيار، ويفجؤها الانتحار، ما لم تعد لرشدها وصوابها، فإن من تاب تاب الله عليه، وإنما الأعمال بالنيات، وإن الحسنات يذهبن السيئات.

وما لم تخطط الأمة إلى المدرسة الصالحة، والإدارة الواعية، والمحكمة المثالية، والتنمية الطاهرة، والإعلام البناء الهادف لا إعلام الإفساد والرقص والخنا والمسلسلات المدبلجة التي تمكن للجهل والعبث وتؤصل له، وما لم تنشر بواسطة وسائلها الطبيعية الإرشاد العام الصحيح القائم على اللغة الموروثة والعقيدة المضبوطة، اذ هما قوام كل وجود، وقاعدة كل نهوض، وعليهما وبهما يترتب ضبط السلوك، وتوحيد الاتجاه، وتحديد المذهب، والسير بنشاط وإخلاص.

وعند ذلك -إن شاء الله- تخرج الأمة من فشل المعركة وخيبة المسعى، ولا تبقى عرضة للتيارات المختلفة والأعاصير الشديدة، فالفضيلة التي مصدرها القلب ومركزها الوحي هي التي يمكن أن تحقق للبشرية ما تنشده من خير وسعادة وهناء، وأن تنقذها مما تتخبط فيه من ويل وأنانية وشقاء، وأما العقل الذي أمد الله في سلطانه وأفسح له المجال في الاكتشاف والبحث والاختراع فغير قادر بمفرده أن يوطد حياة العمل والسلام، ولا أن يطهر النفوس من الأرجاس والآثام، فهو في أمس الحاجة -أي العقل- إلى مساندة الشريعة ومساعدتها.

ولقد كان الآباء الأقدمون والأسلاف السابقون يؤمنون بهذه المبادئ إيمانا صادقا، ولا يدعونها تغتالها الغوائل وتطيحها الطوائح، ولا يترددون في الدفاع عنها كلما أريد نسفها أو اختراقها.

فلنعد إلى الله، فلنعد إلى الله، فثم الفوز، والنجاة، والسعادة، والأمن، والسلامة. (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ) [الشورى:47].

اللهم أصلح أحوالنا...