عناصر الخطبة
1/النفس عالم من العجائب والغرائب 2/أقسام النفس البشرية 3/أحوال النفوس متفاوتة متعددة 4/أقسام النفوس تبعًا لما تحب 5/طبيعة النفس وبعض صفاتها 6/ميزان كمال النفوس وخسارتها 7/بلاء النفوس من جهتين 8/كيفية معالجة شرور النفس.اقتباس
والنفس في الأصل خُلقت جاهلة ظالمة. فهي لجهلها تظن أن شفاءها في اتباع هواها، ولظلمها لا تقبل من الطبيب الناصح، يوضع لها الداء موضع الدواء فتقبله، ويوضع لها الدواء موضع الداء فترده، فيتولد لها من إيثارها للداء، واجتنابها للدواء، أنواع من الأسقام والعلل التي تعيي الأطباء، ويتعذر معها الشفاء...
الخطبة الأولى:
الحمد لله خالق كل شيء، ورازق كل حي، أحاط بكل شيء علماً، وكل شيء عنده بأجل مسمى، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره وهو بكل لسان محمود، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو الإله المعبود. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الركع السجود، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى اليوم الموعود، وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله: النفس هي عالم العجائب والغرائب، النفس البشرية من معجزات الخالق -سبحانه وتعالى-، فلا أحد يعرف كنهها غير الذي خلقها -سبحانه-، وقد نَهَجَ الإسلام في التعامل مع النفس البشرية منهجاً عظيماً، ينطلق من علم الله -عز وجل- فهو الذي خلق النفس وسواها، وألهمها فجورها وتقواها، فهو يعلم ضعفها وحقارتها وتسلط الشهوات والشبهات عليها. قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) [الشمس: 7، 8]، وقد سميت النفس نفساً إما من الشيء النفيس لنفاستها وشرفها، وإما من تنفس الشيء إذا خرج، فلكثرة خروجها ودخولها في البدن سميت نفساً.
أيها الإخوة: النفس البشرية فيها إقبال وإدبار، وفيها شرّة وفترة، ومن ثم كان المنهج التربوي الإسلامي يتعامل مع هذه النفس بكل هذه الاعتبارات، ومن ذلك الجمع بين الترغيب والترهيب، والرجاء والخوف.
إن النفس البشرية فيها خير أصيل، والشر والسوء دخيل، فإذا صادفت هذه النفس من يذكِّرها، فإن فيها استعداداً للاستقامة على طريق الهدى، وإن لم تجد من يذكرها مالت إلى طريق الفجور. وكل إنسان له نفس واحدة، ولكن لهذه النفس صفات وأحوال تختلف من شخص لآخر، ومن وقت لآخر.
أيها الإخوة: وصفات النفس ثلاث:
إحداها: النفس الأمارة بالسوء التي يغلب عليها اتباع هواها بفعل الذنوب والمعاصي, كما قال -سبحانه-: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) [يوسف: 53].
الثانية: النفس اللوامة، وهي التي تذنب وتتوب، تفعل الخير والشر، لكنها إذا فعلت الشر تابت وأنابت، سميت لوامة لأنها تلوم صاحبها على فعل الذنوب كما قال -سبحانه-: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) [القيامة: 1، 2].
الثالثة: النفس المطمئنة، وهي التي تحب الخير والحسنات، وتريدها وتفعلها وتبغض الشر والسيئات وتكرهها، قد اطمأنت إلى مولاها، وإلى قضائه وقدره، وإلى دينه وشرعه، وإلى جزائه وثوابه، وصار لها ذلك خلقاً وعادة وملكة، فصارت بذلك راضية مرضية، كما قال -سبحانه-: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الفجر: 27-30].
أيها الأحبة: وينبغي للعبد أن لا يطمئن إلى نفسه فإن الشر لا يجيء إلا منها، ولا يشتغل بلوم الناس، ولكن يرجع إلى الذنوب فيتوب منها، ويستعيذ بالله من شر نفسه، وسيئات عمله، ويسأل الله أن يعينه على طاعته، ويحول بينه وبين معصيته، وبذلك يحصل له الخير، ويندفع عنه الشر.
والذنوب من لوازم النفس، وأعظمها جحود الخالق والشرك به، وطلب النفس أن تكون شريكة لله -سبحانه-، أو إلهاً من دونه، وكل هذين وقع: فإن فرعون وإبليس كل واحد منهما يطلب أن يُعبَد ويُطَاع من دون الله، وهذا الذي في فرعون وإبليس غاية الظلم والجهل، وفي نفوس سائر الإنس والجن شعبة من هذا.. وهذا.
والله -عزَّ وجلَّ- إن لم يعن العبد ويهده وقع في بعض ما وقع فيه فرعون وإبليس بحسب الإمكان. وإذا هداه الله أعانه على طاعته وترك معصيته، فلم يصبه شر في الدنيا ولا في الآخرة، والعبد محتاج إلى الهدى كل لحظة، وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الأكل والشرب.
أيها الإخوة: أحوال النفوس متفاوتة متعددة، والنفوس مشحونة بأمراض كثيرة، منها حب العلو والرياسة، وكل نفس تريد أن تُطاع وتعلو بحسب الإمكان، فتجد الإنسان يوالي من يوافقه على هواه، ويعادي من يخالفه في هواه، وإنما معبوده ما يهواه ويريده، فمن وافق هواه كان ولياً وإن كان كافراً، وإن لم يوافقه كان عدواً وإن كان من المتقين.
عباد الله: والناس ثلاثة أقسام: عبد محض, وحر محض, ومكاتَب قد أدى بعض كتابته.
فالعبد المحض: هو عبد المال والطين، الذي قد استعبدته نفسه وشهوته، وملكته وقهرته، فانقاد لها انقياد العبد لسيده الحاكم عليه.
والحر المحض: هو الذي قهر شهوته، وملك نفسه، فانقادت معه، وذلت له، ودخلت تحت رقه وحكمه، فهي مملوكة عنده، يأمرها بما شاء مما يرضي ربه، ويمنعها مما يسخط ربه.
والمكاتب: من قد عقد له سبب الحرية، وهو يسعى في كمالها، فهو عبد من وجه، حر من وجه آخر، فهو عبد ما بقي عليه درهم، فكذا المسلم عبد لنفسه ما بقي عليه حظ من حظوظ نفسه. فالحر مَنْ تَخلَّص من رق المال والطين، وفاز بعبودية رب العالمين، فاجتمعت له العبودية والحرية.
أيها الإخوة: ويتم إصلاح النفوس بأمرين: تكوين القلب, وتكوين الجسم.
وتكوين القلب: هو بذل الجهد لترسيخ الإيمان واليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله فيه.
أما تكوين الجسم: فهو استغلاله في السبل التي جاء بها النبي -صلى الله عليه وسلم- من السنن والأحكام والآداب، ويتم ذلك بالتعلم والتذكير, وتزكية النفس بالأخلاق الحميدة، وإخلاص العمل لله, وإبلاغ الناس دين الله ليكون الدين كله لله.
عباد الله: والنفوس وما تحب تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأولى: نفس سماوية علوية، ومحبتها منصرفة إلى معرفة الله، ومعرفة أسمائه وصفاته، وفعل الفضائل والطاعات، واجتناب الرذائل والمعاصي، وهذه النفس مشغوفة بما يقرّبها من الرفيق الأعلى، وذلك قُوتُها وغذاؤها وشفاؤها ودواؤها.
الثانية: نفس سبعية غضبية، ومحبتها منصرفة إلى القهر والبغي، والعلو في الأرض، والكبر والرئاسة على الناس بالباطل، فلذاتها في ذلك وشغفها به.
الثالثة: نفس حيوانية شهوانية، فهذه النفس محبتها منصرفة إلى المأكل والمشرب، والمنكح والملبس، ونحو ذلك من الشهوات والملاذ.
وربما جمعت بين الأمرين العلو والفساد كما قال -سبحانه- عن فرعون: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [القصص: 4]، والحب في هذا العالم دائر بين هذه النفوس الثلاث. وكل واحدة من هذه النفوس ترى أن ما هي فيه أولى بالإيثار، وأن ما سواه غبن وفوات حظ.
فالنفس السماوية العلوية بينها وبين الملائكة والرفيق الأعلى مناسبة طبيعية، بها مالت إلى أوصافهم وأخلاقهم وأعمالهم، فالملائكة أولياء هذا النوع في الدنيا والآخرة.
فالمَلَك يتولى من يناسبه بالنصح والإرشاد، والتثبيت والتعليم، وإلقاء الصواب على لسانه، ودفع عدوه عنه، والاستغفار له إذا زل، وتذكيره إذا نسي، وتسليته إذا حزن، وإيقاظه للصلاة إذا نام عنها، وتحذيره من الدنيا إذا ركن إليها.. وهكذا.
والشياطين أولياء النوع الثاني، يخرجونهم من النور إلى الظلمات كما قال -سبحانه-: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 257]. فهؤلاء بينهم وبين الشياطين مناسبة طبيعية، بها مالت إلى أوصافهم وأخلاقهم وأعمالهم.
فالشياطين تتولاهم فتؤزهم إلى المعاصي أزاً، وتزين لهم القبائح والمعاصي، وتسهلها عليهم، وتثقل عليهم الطاعات، وتثبطهم عنها، وتلقي على ألسنتهم ألوان القبيح من الكلام، ويبيتون معهم حيث باتوا. ويشاركونهم في أموالهم وأولادهم ونسائهم، ويأكلون ويشربون معهم، ويجلسون معهم، وينامون معهم، فهؤلاء حياتهم مطابقة لحياة الشياطين: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف: 36، 37].
وأما النوع الثالث فهم أشباه الحيوان، ونفوسهم أرضية سفلية، لا تبالي بغير شهواتها، ولا تريد سواها، فهي مشغوفة بها، مشغولة بها عن مراد ربها، ملازمة لها إلى حين أجلها: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) [محمد: 12]، وعلامات المحبة قائمة بكل نوع بحسب محبوبه ومراده.
أيها الأحبة: وكمال الإنسان إنما هو بالعلم النافع، والعمل الصالح، وهما الهدى ودين الحق، وبتكميله لغيره في هذين الأمرين كما قال سبحانه: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر: 1-3]، فكل أحد خاسر إلا من كمل قوته العلمية بالإيمان، وقوته العملية بالعمل الصالح، وكمل غيره بالتوصية بالحق، والصبر عليه.
وهاتان القوتان لا تتعطلان في القلب، فإن استعمل قوته العلمية في معرفة الحق، والعملية في العمل به، وإلا استعملها في معرفة ما يليق به ويناسبه ويشتهيه من الباطل.
والإنسان من حيث هو إنسان خاسر إلا من رحمه الله فهداه ووفقه للإيمان والعمل الصالح في نفسه وأمر غيره به. فالإنسان من حيث هو إنسان ظلوم جهول، كفور كنود، عجول قتور، عارٍ عن كل خير من العلم النافع والعمل الصالح، وإنما الله -سبحانه- هو الذي يكمله بذلك ويعطيه إياه، فكل علم وعدل وخير فيه فمن ربه لا من نفسه، ولا فلاح له إلا بتزكية الله له بالإيمان والعمل الصالح.
فالكمال التام أن يكون الشخص كاملاً في نفسه، مكملاً لغيره، وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية. فصلاح القوة العلمية بالإيمان، وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات، وتكميله غيره بتعليمه وصبره عليه، وتوصيته بالصبر على العلم والعمل، وهذا نهاية الكمال، وهو ما توج الله به هذه الأمة، ودرجة أهله أعلى الدرجات في الدنيا والآخرة كما قال -سبحانه-: (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) [طه: 75-76].
والإنسان قد يقوم بما يجب عليه في نفسه، ولا يأمر غيره به، فهذا قد ربح الإيمان والعمل الصالح في حق نفسه، وخسر ربح التواصي بالحق والتواصي بالصبر في حق غيره، فصار في خسر. ولكنه لا يكون من الذين خسروا أنفسهم وأهليهم، فمطلق الخسار شيء، والخسار المطلق شيء آخر، ومن ربح في سلعة وخسر في أخرى فهو ذو ربح، وذو خسر، فهذا نوع خسر بالنسبة لمن حصل ربح ذلك، فهو ناج كما قال سبحانه: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [التين: 4-6]، وقد استثنى الله -عزَّ وجلَّ- من الإنسان الذي هو في خسر كل من كمل مراتب الكمال الإنساني بإصلاح نفسه، وإصلاح غيره، والإحسان إلى نفسه، والإحسان إلى غيره: بالإيمان, والعمل الصالح, والتواصي بالحق, والتواصي بالصبر. فهؤلاء الكُمَّل في درجة السابقين, ومن دونهم في درجة أصحاب اليمين. ولكل درجات مما عملوا, (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال: 4].
عباد الله: والنفس في الأصل خُلقت جاهلة ظالمة. فهي لجهلها تظن أن شفاءها في اتباع هواها، ولظلمها لا تقبل من الطبيب الناصح، يوضع لها الداء موضع الدواء فتقبله، ويوضع لها الدواء موضع الداء فترده، فيتولد لها من إيثارها للداء، واجتنابها للدواء، أنواع من الأسقام والعلل التي تعيي الأطباء، ويتعذر معها الشفاء.
أيها الإخوة: وفي النفس ثلاثة دواع متجاذبة:
أحدها: داع يدعوها إلى الاتصاف بأخلاق الشياطين من الكبر والحسد والعلو والبغي والغش والكذب.
والثاني: داع يدعوها إلى الاتصاف بأخلاق الحيوان من الحرص والبخل والشهوة.
والثالث: داع يدعوها إلى الاتصاف بأخلاق الملائكة من الطاعة والعبادة، والإحسان والنصح، والعلم والبر، والتسبيح والاستغفار.
والنفس فيها استعداد للخير والشر، وهي بحسب من سبق وغلب منقادة مطاوعة: فترى من الناس من هو شيطان يركض بكل شر وفساد. ومنهم كالحيوان ليس له هم إلا قضاء شهواته. ومنهم كالملائكة عبادة لله، وطاعة له، وتسبيح واستغفار، في ليله ونهاره.
اللهم وفقنا للهدى واعصمنا من أسباب الجهل والردى وسلمنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، واختم بالصالحات أعمالنا واغفر لنا ولجميع المسلمين.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية:
الحمد لله خالق الخلق أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقضي بالحق ويحكم بالعدل، ولا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب، وأشهد أن محمداً عبده كان له قرين من الجن فأسلم, اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين.
أيها الأحبة: والنفس الإنسانية لها قوتان:
إحداهما: القوة النظرية، وكمالها في معرفة الأشياء، وأعلى المعارف معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله.
الثانية: القوة العملية، وكمالها في معرفة الخيرات والطاعات، وأعلاها عبادة الله بالأعمال الصالحة على طريقة رسوله -صلى الله عليه وسلم-, كما قال -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا) [الكهف: 107]، فقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا) إشارة إلى كمال القوة النظرية بمعرفة الله. وقوله: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) إشارة إلى كمال القوة العملية بعبادة الله وإنما تكمل الثانية بكمال الأولى.
أيها الإخوة: والنفس في علاجها كالبدن في علاجه، فكما أن البدن لا يُخلق كاملاً، وإنما يكمل بالتربية بالغذاء، فكذلك النفس تُخلق ناقصة قابلة للكمال. وإنما تكمل النفس بالتزكية، وتهذيب الأخلاق، والتغذية بالعلم.
وكما أن العلة الموجبة لمرض البدن لا تعالج إلا بضدها، إن كانت من حرارة فبالبرودة، وإن كانت من برودة فبالحرارة. فكذلك الأخلاق الرذيلة التي هي مرض القلب علاجها بضدها، فيعالج مرض الجهل بالعلم، ومرض البخل بالسخاء، ومرض الكبر بالتواضع... وهكذا.
وكما أنه لا بدَّ من احتمال مرارة الدواء، والصبر عن المشتهيات لصلاح البدن، فكذلك لا بد من احتمال مرارة المجاهدة، والصبر على مداواة مرضى القلب حتى يزكو.
والقلوب جوالة، منها ما يطوف مع البهائم حول الحش، ومنها ما يطوف مع الملائكة حول العرش: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [فاطر: 19-22]، والله -عزَّ وجلَّ- جعل في النفس حباً لما ينفعها، وبغضاً لما يضرها، فلا تفعل النفس مع حضور عقلها ما تجزم بأنه يضرها ضرراً راجحاً.
عباد الله: والبلاء مركب من شيئين: من تزيين الشيطان, ومن جهل النفس. فإن الشيطان يزين لها السيئات، ويريها إياها في صور المنافع واللذات والطيبات، ويُغفلها عن مطالعتها لمضرتها. فيتولد من هذا التزيين، وهذا الإغفال، وهذا الإنساء، إرادة وشهوة، ثم يمدها بأنواع التزيين، فلا يزال يقوى حتى يصير عزماً جازماً يقترن به الفعل.
ما زين للأبوين الأكل من الشجرة كما قال -سبحانه- في تزيين الشيطان للشر: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 43]. وقال -سبحانه- في تزيين الخير: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [الحجرات: 7، 8]. وقال سبحانه في تزيين النوعين: (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 108]، وتزيين الخير والهدى بواسطة الملائكة والرسل والمؤمنين، وتزيين الشر والضلال بواسطة شياطين الإنس والجن. وتزيين الشر والضلال إنما يغتر به الجاهل؛ لأنه يُلَبَّسُ له الباطل والضار والمؤذي بصورة الحق النافع. وكما أن للأبدان آفات، فكذلك للنفوس آفات، وترك مداواة ذلك مؤذن بالهلاك.
عباد الله: النفس البشرية كالطفل تماماً؛ إن أدبتها وهذَّبتها صلحت واستقامت، وإن أهملتها وتركتها خابت وخسرت، بل هي كالبعير إن علفتها وغذيتها بالمفيد سكنت وثبتت واطمأنت وخدمت، وإن تركتها صدَّت وندَّت وشردَت.
أيها الأحبة: النَّفس بطبيعتها تميل إلى الشهوات واللذات والهوى، وتأمر بالسوء والفحشاء، إذا لم يقيدها وازع ديني عظيم؛ تنقاد إلى السقوط والهلاك:
والنَّفْسُ كالطفل إن تُهمله شبَّ *** على حبِ الرَّضَاعِ وإن تفطمه ينفطمِ
فخالف النفسَ والشيطانَ واعصهما *** وإن هما محضاكَ النصحَ فاتهمِ
وإصلاح نفسك بمَّ يكون يا أيها الحبيب؟ بالمجاهدة: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)[العنكبوت:69] يقول ثابت البناني -عليه رحمة الله-: "تعذبت بالصلاة عشرين سنة -يجاهد نفسه عشرين سنة ليصلي لله في بيوت الله- قال: ثم تنعمت بها عشرين سنة أخرى، والله إني أدخل في الصلاة فأحمل هَمَّ خروجي منها".
وأعظم المجاهدة مجاهدة النيات: "فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" [رواه البخاري (1)] وقال تعالى: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا) [الكهف:110]، يقول أحد السلف: "ما من فعلة صغرت أو كبرت إلا ويُنشَر لها ديوانان: لِم؟ وكيف؟". لم فعلت؟ ما علة الفعل؟ وما باعث هذا الفعل؟ هل لحظ دنيوي؟ لجلب نفع؟ لدفع ضر؟ أم لتحقيق العبودية لله وابتغاء الوسيلة إليه -سبحانه- وبحمده؟ هل فعلت هذا الفعل لمولاك أم لحظِّك وهواك؟ وكيف فعلت هذا الفعل؟ هل العمل مما شرعه الله ورسوله؟ أم ليس عليه أمر الرسول -صلى الله عليه-.
فأعظم ما يربي النفس مجاهدة النية. يقول سفيان: "ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي". يا نفس! أخلصي تتخلصي، إخلاص ساعةٍ نجاة الأبد، ولكن الإخلاص عزيز. طوبى لمن صحت له خطوة يُراد بها وجه الله تعالى.
اللهم أصلح لنا نفوسنا، وجنبنا آفاتها، اللهم اجعلنا أفقر خلقك إليك، واجعلنا اللهم أغنى خلقك بك، اللهم اجعلنا أذل خلقك لك، واجعلنا اللهم أعز خلقك بك.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم