عناصر الخطبة
1/ حث الإسلام على التمسك بمكارم الأخلاق 2/ اختلاف أحوال بعض المسلمين بين العبادات والمعاملات 3/ وجوب اجتماع العبادة مع الأخلاق 4/ فضائل حسن الخلق 5/ أهمية وجود القدوة الحسنة في حياة المسلم 6/ الحث على التأسي بمكارم الأخلاق النبوية 7/ علامات حسن الخلق.اقتباس
وإذا نظرت إلى أخلاقهم وتعاملاتهم وجدت بوناً شاسعاً بين العبادة وبين التعامل مع الخلق، فترى بعضهم سريعَ الغضب، غليظَ الطبع، عبوسَ الوجه، كلماته جارحة؛ متكبراً على الخلق، ليس عنده رفق ولا لينُ, ولا تواضع ولا رحمة, ولا يبشُ ولا يبتسم، بل إذا حدث أدنى خطأ حتى ولو كان من أقرب الناس إليه تجده ينتفض ويغضب وكأنه ثور هائج. فأين إيمانُ هذا الشخص وخشيتُه لربه؟ وأين تواضُعه ولينُه ورحمته وشفقته بالخلق؟ وما قيمةُ هذه العبادات التي يؤديها إذا كان تعاملُه مع من حوله أداة تنفير من الدين والخير؟
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أرسل رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالَمين، ومثلاً كاملاً وأسوة حسنة للمؤمنين، وحُجَّة على خَلقِه أجمعين.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، الرءوف بالمؤمنين، المبعوث بمكارم الأخلاق للناس أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن النجاة يوم العرض على الله لمن أتى بحقها ولزم طريقها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
عباد الله: لقد حثَّ ربنا -جل وعلا- عباده المؤمنين على التمسك بمكارم الأخلاق، وجعل تقواه هي ميزان السرِّ، وحُسن الخلق ميزان العلانية، فهما متلازمان لا ينفكُّ أحدُهما عن الآخَر، فتقوى الله شجرةٌ وحُسن الخلق ثمرةٌ، وإذا انتَفَى حُسنُ الخُلق انتَفَت التقوى، وضعفه دليلٌ على ضَعفِها.
وإذا نظرنا إلى واقعنا المعاصر وجدنا في حياتنا نماذج مؤلمةٌ ومحزنة بل ومتناقضة مع الأخلاق الإسلامية التي حضَّ عليها ديننا الحنيف، فأغلب من ترى من المسلمين يحرصون على الإتيان بالفروض والواجبات، والبعدِ عن المحرمات.
وإذا نظرت إلى أخلاقهم وتعاملاتهم وجدت بوناً شاسعاً بين العبادة وبين التعامل مع الخلق، فترى بعضهم سريعَ الغضب، غليظَ الطبع، عبوسَ الوجه، كلماته جارحة؛ متكبراً على الخلق، ليس عنده رفق ولا لينُ, ولا تواضع ولا رحمة, ولا يبشُ ولا يبتسم، بل إذا حدث أدنى خطأ حتى ولو كان من أقرب الناس إليه تجده ينتفض ويغضب وكأنه ثور هائج.
فأين إيمانُ هذا الشخص وخشيتُه لربه؟ وأين تواضُعه ولينُه ورحمته وشفقته بالخلق؟ وما قيمةُ هذه العبادات التي يؤديها إذا كان تعاملُه مع من حوله أداة تنفير من الدين والخير؟
ألم يسمع قول الله -جل وعلا- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)[آل عمران: 159].
لقد توهم بعضُ الناس -أيها المؤمنون- أنه إذا أصلح ما بينه وبين ربه كفاهُ ذلك عن سائر الأعمال، وهذا نظر قاصر لأن التقوى لا تتمُ ولا تكتمل حتى يعطى الشخص كل ذي حقٍ حقَّه، ويخالق الناس بخلقٍ حسن. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "اتَّقِ الله حيثما كنت، وأَتْبِع السيِّئة الحسنة تَمحُها، وخالِقِ الناسَ بخلقٍ حسن" (رواه الترمذي بسند حسن).
ومن الأمثلة على وجوب اجتماع العبادة مع الأخلاق ما ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله "إنَّ فلانة تقوم الليل وتصوم النَّهار، وتفعل وتصَّدَّق، وتؤذي جيرانها بلسانها؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا خير فيها، هي من أهل النار" قالوا: وفلانة تصلي المكتوبة وتَصَّدَّق بأثوار - قطع من الأقط، وهو لبن جامد - ولا تؤذي أحدًا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هي من أهل الجنة" (رواه أحمد وابن حبان والحاكم وصححه).
وعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ من أحبِّكم إليَّ وأقربكم منِّي مجلسًا يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقًا، وإنَّ من أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون" قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارين والمتشدقين، فما المتفيهقون؟ قال: "المتكبرون" (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
إن حسن الخلق -أيها المؤمنون والمؤمنات- لا يباع ولا يشترى، فهو إما أن يكون فطرة جبلية في الإنسان تزداد بالعلم والعمل، وإما أن تكون عن طريق مجاهدة النفس وحثها عليه ابتغاء وجه الله تعالى.
عباد الله: إن وجود القدوة الحسنة في حياة المسلم ضرورةٌ عظمى ليحتذي بها ويكتسب عن طريقها الصفات والأخلاق الإيجابية، سواءٌ في علاقته مع ربه، أو مع نفسه بتزكيتها وتربيتها على الأخلاق الفاضلة، أو مع أهله وأولاده من أجل بناء أسرة مترابطة، أو مع المجتمع من حوله في أمور الدين والدنيا.
لذلك جعل ربنا -جل وعلا- لنا أسوةً حسنة وقدوة وأنموذجًا حيًّا في رسولنا -صلى الله عليه وسلم-، ليعيش الناسُ مع هذا الدين واقعًا حقيقيًّا بعيدًا عن الكلام النظري.
كان -صلى الله عليه وسلم- خير قدوة للأمة في تطبيق هذا الدين بجميل صفاته وأخلاقه، ليكون منارًا لها إلى يوم القيامة، يقول عنه ربه -جل وعلا-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ)[الأحزاب: 21].
وخصّه ربه -جل وعلا- بآية جمعت له محامد الأخلاق ومحاسن الآداب، فقال عنه خالقه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4].
وبيَّنَتْ أُمنا أمُّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- ذلك بقولها: "كان خُلُقه القرآن"؛ أي: يتأدَّب بآدابه، ويأتمر بأوامره، وينتَهِي عن نَواهِيه، ثم قرَأَتْ: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)[الأعراف: 199](رواه مسلم وأحمد).
قال الطبري -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ): أي "الأدب العظيم وذلك أدب القرآن الذي أدَّبه الله به وهو الإسلام وشرائعه". انتهى كلامه.
وقال -جل وعلا- مزكياً له: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159]. فوصفه بخلق الرحمة ولين الجانب، ونفى عنه ما يقابلهما من سوء الخلق.
وأمره -جل وعلا- بمحاسن الأخلاق فقال له: (ادفَع بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ فَإذَا الّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)[فصلت: ].
وبعثه ربُّه -جل وعلا- بإتمامها فقال عليه الصلاة والسلام: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" (رواه أهل السنن).
فكان عليه الصلاة والسلام مع أصحابه, ومع أهله، ومع القريب والبعيد, رفيقاً، حليماً، متواضعاً، واسع الصدر، دائم البشر، حسن الخلق, ليّن الجانب، يُسلِّم على من لقِيَهُ، ويقفُ مع من اسْتَوْقفَهُ، يمْزحُ بالحقّ، مع الصغير والكبير، يُجيبُ دعْوَة الداعي، من رآه بديهةً هابهُ, ومن عاملهُ أحبَّه، حتى يظنّ كلّ واحدٍ من أصحابه أنّه أحبّهم إليه.
لقد كان حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- واقعاً حيًّا أمام أعين المسلمين وغير المسلمين، وفتح بأخلاقه وحسن تعامله قلوب العالمين، فدخل الناس في دين الله أفواجاً محبة وانقياداً، فكان لهم النُصرة والغلبة والتمكين.
عن أنسٍ -رضي الله عنه-: أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهرًا يُهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- الهدية من البادية، فيجهِّزه النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يخرج، فقال رسول الله: "إنَّ زاهرًا باديتُنا ونحن حاضرته"، وكان رسول الله عليه الصلاة والسلام يحبه وكان رجلاً دميمًا، فأتاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يبيعُ متاعه، فاحتضنه من خلفه ولا يبصره الرجل، فقال: أرسلني، مَن هذا؟ فالتفت، فعرف النبي -صلى الله عليه وسلم- فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي -صلى الله عليه وسلم- حين عرَفه، وجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من يشتري العبدَ؟"، فقال: يا رسول الله، إذن والله تجدُني كاسدًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لكن عند الله لستَ بكاسدٍ" - أو قال: - لكن عند الله أنت غالٍ" (رواه ابن كثير في البداية والنهاية).
عباد الله: لقد حثّ نبينا -صلى الله عليه وسلم- على التحلي بحسن الخلق، والتمسك به، وبين أن حسن الخلق يوصل إلى الجنة؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أكثرُ ما يدخل الناس الجنة، تقوى اللّه وحُسن الخلق" (رواه الترمذي والحاكم).
وعدَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- حسن الخلق من كمال الإيمان، فقال عليه الصلاة والسلام: "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً" (رواه أحمد وأبو داود).
وبين أيضاً الأثر العظيم والثواب الجزيل لتلك المنقبة المحمودة والخصلة الطيبة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما من شيءٍ في الميزان أثقل من حسن الخلق" (رواه البخاري).
وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم" (رواه أحمد).
وأوصى -صلى الله عليه وسلم- أبا هريرة -رضي الله عنه- بوصية عظيمة فقال له:(عليك بحسن الخلق). قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: وما حسن الخلق يا رسول اللّه؟ قال: "تصل مَنْ قطعك، وتعفو عمن ظلمك، وتُعطي من حرمك" (رواه البيهقي).
عباد الله: لقد اهتم السلف -رضوان الله عليهم- ببيان حسن الخلق وتعاملوا به، ومن أقوالهم في ذلك:
عن الحسن -رحمه الله- في بيان حسن الخلق قال: "بسط الوجه، وبذل الندى، وكف الأذى".
وعن عبد الله بن المبارك -رحمه الله- قال: "حسن الخلق في ثلاث: اجتناب المحارم, وطلب الحلال, والتوسعة على العيال".
وقال بعضهم في علامة ذي الخلق الحسن: "أن يكون كثير الحياء, قليل الأذى, كثير الصلاح, صدوق اللسان, قليل الكلام, كثير العمل, قليل الزلل, قليل الفضول, برًّا وصولاً وقوراً صبوراً رضياً حليماً, وفياً عفيفاً, لا لعاناً ولا سباباً ولا نماماً ولا مغتاباً ولا عجولاً ولا حقوداً ولا بخيلاً ولا حسوداً, بشاشاً هشاشاً, يحب في الله ويبغض في الله ويرضى في الله ويسخط لله".
وصدق الله العظيم: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) [النساء: 69 - 70].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم، فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى الله عليه وآله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فيا أيها المسلمون والمسلمات اتقوا الله –تعالى- واعلموا أن حسن الخلق يُمنٌ، وسُوء الخلق شؤمٌ، والخُلقُ الحسن ينحَصِر في فعْل المرء ما يجمِّله ويزينه، واجتِناب ما يُدنِّسه ويشينه، ومن حَسُنَ خلقه فقد أمتن الله تعالى عليه بخير عظيم، وإذا اهتم العبد به وانقاد لأوامر ربه وتوجيهات رسوله فاز بخيري الدارين.
قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الله سبحانه قسم بينكم أخلاقَكُم كما قسم بينكم أرزاقَكُم، وإنَّ الله يُعطِي الدنيا مَن يحبُّ ومَن لا يحبُّ، ولا يُعطِي الدين إلا مَن يحبُّ، فمَن أعطاه الله الدين فقد أحبَّه" (رواه أحمد).
فأخبر -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الناس مُتفاوِتون في الأخلاق كما أنهم مُتفاوِتون في الأرزاق، وتضمَّن ذلك حثَّ كلِّ مؤمن أنْ يجتهد في التخلُّق بالخلق الحسن، كما يجتهد في طلب الرزق بالمباح من المِهَن، وما أُعطِي أحدٌ عطاء خيرًا وأفضل من خلق حسن يدلُّه على الصَّلاح والتُّقَى، ويردعه عن مساوئ الأخلاق والرَّدى.
وأكمَلُ المؤمنين إيمانًا بالنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وأعظمهم اتِّباعًا له، وأسعدهم بالاجتماع معه المتخلِّقُون بأخلاقه المتمسِّكون بسنَّته وهديِه؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "أنا زعيمُ بيتٍ في أَعلَى الجنَّة لِمَن حَسُنَ خلقه" (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
وسوف نبين في خطبة قادمة بحول الله وقوته بعض التوجيهات المفيدة حول كيفية تعامل المسلم مع الناس، بداية من الوالدين، وانتهاءً بتعامله مع غير المسلمين.
أسأل الله -جل وعلا- أن يفقهنا في ديننا، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جلَّ من قائل عليماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم