فضيلة الاعتدال

ماهر بن حمد المعيقلي

2024-10-25 - 1446/04/22 2024-10-26 - 1446/04/23
عناصر الخطبة
1/التوازن والاعتدال سمة من سمات خلق الله تعالى 2/وسطية الأمة الإسلامية دليل خيريتها 3/على المسلم أن يوازن ويوفق بين الحقوق والواجبات 4/توضيح بعض المعينات على تحمل المسؤولية والقيام بها

اقتباس

إنَّ التوازنَ في الحياة، والتوفيقَ بين الحقوق والواجبات، مِنْ أهمِّ المهماتِ، فيكونُ المرءُ مُتَّزِنًا فِي عباداته ومعامَلاتِه، لا يطغى أمرٌ على حساب غيره، ولا يُقدِّم المهمَّ على الأهم، ولا المفضولَ على الفاضل، وهو المنهج الذي كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأصحابه الكرام...

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ عظيمِ الشأنِ، واسعِ الفضلِ والإحسانِ، جعَلَنا خيرَ أمَّةٍ، وهدانا لطريق الجماعة والسُّنَّة، وأشهد أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الحمد كله، وبيدِه الخيرُ كلُّه، وإليه يُرجَع الأمرُ كلُّه، وأشهد أنَّ سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، العارفُ باللهِ حقًّا، والمتوكلُ عليه صِدْقًا، والمتذللُ له تعبُّدًا وَرِقًّا، صلى الله عليه، وعلى آله وأزواجه الأطهار، وصحابته الأخيار، ومَنْ تَبِعَهم بإحسان ما تعاقَب الليلُ والنهارُ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعدُ، فيا معاشر المؤمنين: اتقوا اللهَ تسعدوا، وتوسَّطُوا في الأمور تُفلِحُوا، واعتصِموا بوصية الله في كتابه، الهادية إلى جِنانه ورضوانه؛ (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النِّسَاءِ: 131].

 

أُمَّةَ الإسلامِ: إن الاعتدال والتوازن، سمة ظاهرة في الكون، قال سبحانه: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)[الْفُرْقَانِ: 2]، (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ)[الْحِجْرِ: 19]؛ فالتوازن في خلق الله سنة كونية؛ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[الْقَصَصِ: 71-73].

 

وإن من رحمة الله علينا وكرمه، وفضله وجوده ومِنَّته، أن جعل أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، الأُمَّةَ الوسطَ بين الأمم، عقيدةً وعملًا، وشريعةً ومنهجًا، أثنى الله -تعالى- عليها في كتابه فقال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)[الْبَقَرَةِ: 143]؛ فهي وسطٌ في كلِّ الأمورِ، الدينيةِ والدنيويةِ، فلا غلوَّ ولا تقصيرَ، ولا إفراطَ ولا تفريطَ، وما من شعيرة من شعائر الدين، إلا وهي موصوفةٌ بالاعتدال والوسطية، وفي صحيح الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: آخَى النَّبِيُّ -صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً -وكان ذلك قبل أن يفرض الحجاب، والتبذل: ترك التزين والتجمُّل-، فقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فقَالَ: كُلْ، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ سَلْمَانُ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، فَنَهَاهُ سَلْمَانُ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ -رضي الله عنه وأرضاه-: "إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ"، فَأَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "صَدَقَ سَلْمَانُ".

 

إخوةَ الإيمانِ: إنَّ التوازنَ في الحياة، والتوفيقَ بين الحقوق والواجبات، مِنْ أهمِّ المهماتِ، فيكونُ المرءُ مُتَّزِنًا فِي عباداته ومعامَلاتِه، لا يطغى أمرٌ على حساب غيره، ولا يُقدِّم المهمَّ على الأهم، ولا المفضولَ على الفاضل، وهو المنهج الذي كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأصحابه الكرام، فالاعتدال هو الاعتصام بحبل الله المتين، والسير على صراطه المستقيم، (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)[الْأَنْعَامِ: 153]، وفي سنن الترمذي: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ"، فأولُ الحقوقِ عندَ أهل التوسط والاعتدال، هو حَقُّ الرب الكريم المتعال، فالله -سبحانه- لم يخلقنا عبثًا، ولم يتركنا هملا، (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)[الْمُؤْمِنَونَ: 115-116]، فخلَقَنا -سبحانه- لعبادته، وحدَه لا شريكَ له، قال صلى الله عليه وسلم: "يا مُعاذُ، أتدري ما حَقُّ اللهِ على العِبادِ، وما حَقُّ العِبادِ على اللهِ؟"، قُال معاذٌ: اللهُ ورَسولُه أعلَمُ، قال: "حَقُّ اللهِ على العِبادِ أن يَعبُدوه ولا يُشرِكوا به شَيئًا، وحَقُّ العِبادِ على اللهِ -عز وجل- ألَّا يُعَذِّبَ مَن لا يُشرِكُ به شيئًا".

 

وإذا أدَّى العبدُ حقَّ ربه، انتظمَتْ حياتُه، وأعانَه اللهُ على أداء باقي حقوقه، ومن ذلك حق نفسه عليه، من متطلَّباتها الروحيَّة، وحاجاتها الجسدية، فالشريعة إنما جاءت باليُسْر والسَّماحة، والمسايَرة للفطرة، فقال سبحانه: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)[الْقَصَصِ: 77]؛ أي: استعمِلْ ما وهبَكَ اللهُ من النعمة في طاعة ربكَ، وما يحصُل به من الثواب لآخرتكَ، وَلا تنسَ ما أباح اللهُ لكَ، ولئن كانت الآخرة هي المطلب الأعلى، والمقصد الأسمى، فإن الاشتغال بها، لا يكون على حساب السعي في الحياة الدنيا، والله -جلَّ جلالُه- أنكَر على الذين يحرمون على أنفسهم الطيبات، معتقدينَ بأن ذلك يزيدهم في الدرجات؛ (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[الْأَعْرَافِ: 32].

 

أيها المؤمنون: جعل الله -تعالى- النبي -صلى الله عليه وسلم- القدوة في تطبيق المنهج القويم؛ ففي الصحيحين: "‌جَاءَ ‌ثَلَاثَةُ ‌رَهْطٍ ‌إِلَى ‌بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: فَقَالَ "أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا -وَاللَّهِ- إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"؛ فلذا كان -صلى الله عليه وسلم- يحرص على التيسير، ويحث أصحابه عليه، فما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وخير الأعمال أدومها وإن قل، والمنبتَّ لا أرضًا قطَع، ولا ظهرًا أبقى، وكان صلى الله عليه وسلم يتخوَّل أصحابَه بالموعظة في الأيام؛ كراهةَ السآمة عليهم؛ لأنَّ السآمة والملل يُفْضِيَانِ إلى النفور والضجر، والقلوبُ تملُّ كما تملُّ الأبدانُ؛ لذلك قال -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: "أَلَمْ ‌أُخْبَرْ ‌أَنَّكَ ‌تَقُومُ ‌اللَّيْلَ ‌وَتَصُومُ ‌النَّهَارَ"، قُلْتُ: إِنِّي لَأَفْعَلُ ذَلِكَ، قَالَ: فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ عَيْنُكَ، وَنَفِهَتَ نَفْسُكَ -أي: غارت وضعفت عيناك وأعيت وكلَّتْ نفسُكَ-، إِنَّ لِعَيْنَيْكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًا، فَقُمْ، وَنَمْ، وَصُمْ، وَأَفْطِرْ".

 

وفي الأثر عن علي -رضي الله عنه- قال: "رَوِّحُوا القلوبَ ساعةً بعدَ ساعةٍ؛ فإنَّ القلبَ إذا أُكْرِهَ عَمِيَ"، فبعدَ التعب والعناء والجهد، تميل النفوس إلى الترويح والتجديد؛ دفعًا للكآبة، ورفعًا للسآمة، وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يُقِرَّ أبا الدرداء -رضي الله عنه وأرضاه- في مواصلة صيامه وقيامه للتقصير في حق أهله؛ فكيف بمن يهمل أهله؟! ولا يؤدي حقوقهم، من أجل شهواته وملذاته، أو يكون جماعا مناعا، يقضي جل وقته في جل ماله، وهو بخيل على أهله وعياله، قاطع لرحمه، تارك لواجباته، قال عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذكر أهل النار: "كل جعظري جواظ مستكبر، جماع مناع"(أخرجه أحمد في مسنده)؛ فالمؤمن وسط في طلبه للدنيا، لا يغالي في طلبها وتحصيلها، ولا ينقطع عن بذل أسباب الرزق الحلال، والعيش الهني فيها، والتمتع بما أباح الله له، من غير إسراف ولا مخيلة، والأهل يا عباد الله هم أولى الناس بالعطف والرحمة، والأنس والشفقة، والبذل والعطاء، والنصح والإرشاد، ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة، في العلاقات الزوجية القائمة على الود والتآلف، والمعاشرة بالمعروف، ففي سنن الترمذي قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خيرُكم خيرُكم لأهلِه، وأنَا خيرُكم لأهلي"، فكان -صلى الله عليه وسلم- أوسع الناس صدرا، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، يقوم على شؤون بيته، ويراعي مشاعر زوجاته، ويصرح بحبه ومشاعره، ففي صحيح البخاري قال عمرو بن العاص -رضي الله عنه وأرضاه- للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة".

 

وعن عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- قالت: "قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: ‌إِنِّي ‌لَأَعْلَمُ ‌إِذَا ‌كُنْتِ ‌عَنِّي رَاضِيَةً، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى"، قَالَتْ: فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى، قُلْتِ: لَا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ"، قَالَتْ -رضي الله عنها وأرضاها-: أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ"، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[الْبَقَرَةِ: 143].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه كان غفَّارًا.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي جعَل التوسطَ في الأمور منهجًا للفَلَاح والنجاح، والوسطية سبيلًا للرشاد والصلاح، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، أكثرُ الناسِ حكمةً وعلمًا، وأشدهم للخير حبًّا وسعيًا، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وأزواجه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وسلَّم تسليمًا مزيدًا.

 

أما بعدُ، فيا معاشرَ المؤمنينَ: إن منهج الشريعة قائم على أصول كلية، وقواعد عامة، توجه الناس إلى الاعتدال والتوسط، والرحمة واليسر، والقصد والرفق، والرعاية للمصالح الدينية والدنيوية، والروحية والبدنية؛ مما يدعو الناسَ إلى تجنُّب الزيغ والضلال، والتهاون والانحلال، والإفراط والتفريط في جميع أمور الحياة؛ فقاعدة: "إعطاءُ كلِّ ذِي حقٍّ حقَّه" سببٌ للحياة الطيبة، والنجاة في الآخرة، وهي مبدأ المفلحينَ، ومنهج السالمينَ، وما أخفَق أكثرُ الناسِ في حياتهم، إلا لمخالفتهم توجيهات نبيهم؛ فسدِّدُوا وقارِبُوا، والقصدَ القصدَ تَبْلُغُوا.

 

إخوةَ الإيمانِ: إن تنظيم الوقت، وترتيب الأولويات والمهمَّات، هو المُعِينُ -بعد توفيق الله -تعالى- على تحمُّل المسؤولية؛ ففي الصحيحين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّكُمْ راعٍ، وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، -وذكَر منهم-: والرَّجُلُ راعٍ في أهْلِهِ، وهو مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ"، ورعايةُ الرجلِ لأهله، يكون بكل ما يُصلِح دينَهم ودنياهم، وما يُحقِّق لهُمُ النجاحَ في الدنيا، والفَلَاح في الآخرة، وأعظمُ الرعايةِ، أمرُهم بالصلاة؛ حيث وجَّه بها -سبحانه- بقوله: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)[طه: 132].

 

وأمرُ الأهلِ بالصلاة -يا عبادَ اللهِ- ما هو إلا باعثٌ على القيام بجميع الأوامر والنواهي؛ لأنَّ الصلاة أولُ ما يُحاسَب عنه العبدُ يومَ القيامةِ، فَإِنْ صلحَتْ فقد أفلَح وأنجَح، وإن فسدَتْ فقد خاب وخسر؛ فـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التَّحْرِيمِ: 6].

 

ثم اعلموا معاشرَ المؤمنينَ: أنَّ اللهَ أمرَكم بأمر كريم، ابتدأ فيه بنفسه فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللهم صلِّ على محمد، وعلى أزواجه وذريته، كما صليتَ على آل إبراهيم، وبارِكْ على محمدٍ، وعلى أزواجِه وذريتِه، كما باركتَ على آلِ إبراهيمَ، إنكَ حميدٌ مجيدٌ.

 

وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدينَ، أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعن سائر الصحابة والتابعينَ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معَهم بعفوكَ وكرمكَ وجودكَ يا أرحمَ الراحمينَ.

 

اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، واحمِ حوزةَ الدينِ، واجعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مطمئنًّا، رخاءً سخاءً وسائر بلاد المسلمين.

 

اللهم يا حيُّ يا قيومُ برحمتكَ نستغيثُ، أَصْلِحْ لنا شأنَنا كلَّه، ولا تَكِلْنَا إلى أنفسنا طرفةَ عين، اللهم فرِّجْ همَّ المهمومين من المسلمين، ونَفِّسْ كربَ المكروبين، واقضِ الدينَ عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم أصلح أحوالَ المسلمين في كل مكان برحمتك وفضلك، وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم مَنْ أرادنا وأراد بلادنا وأمننا وبلاد المسلمين بسوء، فاشغله بنفسه، ورُدَّ كيده في نحره، واجعل دائرة السوء عليه يا قوي يا عزيز، يا ذا الجلال والإكرام.

 

اللهم وَفِّقْ وليَّ أمرنا، خادمَ الحرمينِ الشريفينِ، لِمَا تحبُّ وترضى، وخُذْ بناصيتِه للبر والتقوى، اللهم وفِّقْه ووليَّ عهده الأمين وأعوانَهم، لِمَا فيه صلاحُ العباد والبلاد، اللهم جازِهِم بالخيرات، على خدمة الحرمين الشريفين وقاصديهما، اللهمَّ وفق جميع ولاة أمور المسلمين لما تحبه وترضاه.

 

اللهمَّ كن لأهلنا وإخواننا المستضعفين في فلسطين، اللهمَّ اجبر كسرهم، وارحم ضعفهم، وأحسنهم عاقبتهم، اللهمَّ احفظ المسجد الأقصى، واجعله شامخا عزيزا إلى يوم الدين، اللهمَّ احفظ شباب وفتيات المسلمين، وانفع بهم أمتهم وأوطانهم، اللهمَّ حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، واجعلهم من الراشدين، اللهمَّ اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ويسر أمورنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.

 

اللهمَّ اغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا، برحمتك وفضلك وجودك وكرمك، ومنتك يا أرحم الراحمين؛ (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[الْبَقَرَةِ: 127]، (وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[الْبَقَرَةِ: 128]، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].

 

المرفقات

فضيلة الاعتدال.doc

فضيلة الاعتدال.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات