عناصر الخطبة
1/ الإنسان في صغره يتنامى فيه شيئان 2/ عقل الإنسان يزداد نضجًا ورُشدًا بكثرة التجربة والممارسة 3/ في أرذل العمر يجتمع على الإنسان ضعفان 4/ ضرورة إفادة الصغير من الكبير 5/ كيف نوقر الكبير؟ 6/ هناك عواطف منفرطة من عقال التعقل والحكمة 7/ متى يمدح الحماس في الشباب ؟ 8/ كيف نرحم الصغار؟ 9/ ضوابط مهمة في تربية الأولاد.اقتباس
يتنامى في الإنسان شيئان: جسده وعقله، ويكون الجسد أسرع نموًا من العقل، إذ يكتمل للإنسان نضجُه الجسماني في سن العشرين غالبًا، أما عقلُه فلا يتتامّ نموه إلا في الأربعين، بل لا يزال عقل الإنسان يزداد نضجًا ورُشدًا بكثرة التجربة والممارسة حتى وهو في ذلك العمر الذي بدأت قوته الجسمانية تنقلب إلى ضعف.
أيها المسلمون: يتنامى في الإنسان شيئان: جسده وعقله، ويكون الجسد أسرع نموًا من العقل، إذ يكتمل للإنسان نضجُه الجسماني في سن العشرين غالبًا، أما عقلُه فلا يتتامّ نموه إلا في الأربعين، بل لا يزال عقل الإنسان يزداد نضجًا ورُشدًا بكثرة التجربة والممارسة حتى وهو في ذلك العمر الذي بدأت قوته الجسمانية تنقلب إلى ضعف.
وفي أرذل العمر يجتمع عليه الضعفان: ضعفُ العقل والبدن، (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) [الروم: 54].
ولهذا بعث النبي صلى الله عليه وسلم في سن الأربعين، وإلى هذه الحقيقة يشير قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الأحقاف: 15].
وكلما تقدم بالإنسان العمر كان أحرى أن يكون أنضج عقلاً، وأسدَّ رأيًا، وأحكم تصرفًا، وأسلم من الطيش وجنوح العاطفة، وأبعدَ عن عجلةِ الرأي الفطير، والنظرِ الحسير.
لو لم يكن لترجيح رأي الكهل والشيخ الكبير إلا كثرةُ الممارسة وطولُ الخبرة لكان كافيًا؛ فهو قد تمرس الحياة على تقلّب أحوالها واختلاف ظروفها، وحنّكته التجاربُ والصروف حتى عرف ما يأتي وما يذر، وخَبَر مداخلَ الخديعة والمكر، فكان أكثر تأنيًا، وأبعدَ نظرًا، وأحكمَ تصرفًا.
وقد يوهب المرء ذكاءً في عقله ورجاحةً في فكره وهو لا يزال بعدُ في مقتبل شبابه، فلا يغنيه ذلك عن رأي أهل الخبرة والتجربة من الكهول والشيوخ، فنجابة العقل لا تغني عن خبرة السنين، والبراعةُ في العلوم والفنون لا تمنح الصغارَ حكمةَ الكبار. وقد يبزّ الصغيرُ الكبيرَ في حفظ مسائل العلم، واستحضارِها؛ ولكنه لا يدرك خبرةَ الكبير وحكمتَه.
وإذا كانت هذه الحقيقة تستوجب احترامَ الكبير وتوقيرَه، فإنها تستوجب على الكبير من أهل الحكمة والتجربة أن يكون قريبًا من الصغير، يوجّهه ويسدده، ويعلمه ويبصِّرُه، ويفيدُه من تجربته حتى لا تتكرر الأخطاء؛ فيصبح الصغير نسخة مكررة للكبير.
إن إفادة الصغير من الكبير تعني أن يبدأ من حيث انتهى الكبير وصحّ مسارُه، لا أن يبدأ من حيث بدأ.
أيها الشباب: لقد قال صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يوقّر كبيرنا، ويرحمْ صغيرنا".
وإن توقير الكبير لا ينحصر في تصديره في المجالس وتقديمه في الدخول والخروج وما شابه ذلك مما يتأدب به الناس معهم؛ ولكنه توقير عامّ، يشمل توقير الكبير في عقله ونظره ورأيه، والحديث بإطلاقه يوجب على الشباب الصغار أن يوقروا من الكبار عقولهم وطول تجربتهم وممارستهم للحياة، وأن يصدِّروهم في الرأي والمشورة كما يصدرونهم في المجالس، وأن يصدروا عن حكمتهم ورأيهم المحنك بطول التجربة والمراس. إذا كان الأمر كذلك، فكيف إذا جمع الكبير مع طول التجربة وعمق الخبرة فقهًا في الدين وعلمًا؟
ومن هنا تلحظ أن أكثر الذين تهوكوا في مزالق الغلو من الولع بالتكفير والاستخفافِ بحرمة الدماء والأموال هم من الشباب وقلّ أن تجد فيهم أو معهم شيخًا كبيرًا. إنها وبحق عاطفة منفرطة من عقال التعقل والحكمة، والحماس لا يمدح إلا إذا كان منضبطًا بضوابط الشرع.
أيها الآباء: لقد قال صلى الله عليه وسلم : "ليس منا من لم يوقّر كبيرنا، ويرحمْ صغيرنا"، وإن من هذه الرحمة المأمور بها للصغير أن يرحم الكبيرُ فيه قلةَ خبرته في الحياة، ويرحمَ ما يراه فيه من سذاجة التفكير أحيانًا، وعفويةِ نظره لما حوله، فيمدُّه من خبرته، ويمنحه من حكمته.
وهذا يقتضي أن يكون الوالد قريبًا من ولده، فإن العمر الذي يفرق بينهما هو العمر الذي يفرق بين مرحلة الشباب ومرحلة النضج والكهولة.
إنه قرب رحمة، لا يعني فرضَ الوصايةِ الجبريةِ في كل تصرفات الولد، فإن في هذا قتلاً لمواهبه وإبداعاته، وإهانةً لمشاعره، وتقييدًا لطموحاته وتصرفاتِه؛ ولكنه قُرب إشراف ومشورة، وتوجيه بأسلوب النصيحة والاقتراح، لا بأسلوب الأمر والقسر.
أيها الآباء: لقد أمر الله ببر الوالدين والإحسان إليهما أمرًا مطلقًا، فيلزم الولد أن يجتهد غاية وسعه في برهما والإحسان إليهما؛ إلا إذا ترتب على ذلك تضييع مصالحه الضرورية.
ولكن لما جاء الأمر بطاعة الوالدين قيد الشرعُ ذلك بأن تكون طاعة في المعروف، وفي غير معصية الخالق.
وفرع الفقهاء على ذلك أن الوالد لو أمر ولده بتطليق زوجته فلا يلزمه تطليقُها؛ ما لم تقع الزوجة في محظور شرعي، فيجب التطليق لا لأن الوالد أمر، وإنما لوقوعها في الحظر.
جاء رجل إلى الإمام أحمد فقال: إن أبي يأمرني بتطليق زوجتي، فقال: لا تطعه، فقال أحد تلاميذه: يا إمام، قد جاء عبد الله بن عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخبره أن أباه عمرَ يأمره بتطليق زوجته، فهل يطلقها؟ فقالصلى الله عليه وسلم : أطع أباك، فقال: وهل أبوه مثلُ عمر؟ إن عمر رضي الله عنه كان ملهمًا صادق الفراسة حسن السريرة.
والإمام أحمد رحمه الله لم ينس عِظم حق الوالد على الولد، ولا وجوبَ بره وطاعتِه في المعروف؛ ولكنه كان يدرك الفرقَ بين برِ الوالد وبين طاعته في أوامره، وطاعته لا تلزم إلا في أمر خدمته والقيام بشؤونه ورعاية حقوقه ومصالحه في غير معصية الخالق.
أما ما كان من خاصة أمر الولد في مصالحه وشؤونه، فلا يلزمه طاعةَ والده فيها؛ لأنها خارجة عن حدود خدمة الوالد ورعاية شؤونه والقيام بمصالحه.
وليس المقصود من هذا التزهيدَ في بر الوالدين أو التقليل من شأن رضاهما والإحسان إليهما، فإن وجوب برهما والإحسان إليهما معلوم من الدين بالضرورة، والنصوص في ذلك كثيرة مشهورة؛ ولكن المقصود من إيراد هذا أن يأخذ الوالد مع ولده فيما يتعلق بمصالح ولده وشؤونه بأسلوب النصح والمشورة، لا بأسلوب فرض الوصاية الجبرية؛ إلا فيما له مساس بالدين من تجاوز أو تقصير.
إن أسلوب الوصاية الجبريةِ يقتل حماسَ الولدِ ويئدُ طموحاتِه، أما متابعتُه وملاحظتُه بالمشورة والنصح فهي ترشيدٌ لحماسه، وضبطٌ لانفعالاته العاطفية، وتوجيه لطيف لسلوكه وآماله.
وليتذكر الآباء أن كلاً ميسرٌ لما خلق له، ولذا لا يسوغ قسر الولد على أمر لا يناسب ميوله ومواهبه، فمن الأولاد من يجد نفسه في طلب العلم، فلا يسوغ أن يصرف عنه أيًا كانت الذريعة، ومنهم من يجد نفسه في أعمال التجارة ولا يطيق سواها، فلا ينبغي أن يُقسر على خلافِ ما يريد.
إن الإجازة فترةٌ يكون فيها الولد أميرَ نفسه، خاليَ الوفاض من النظام المفروض، فقد ذهبت أيام الدراسة التي فرضت عليه نظامًا معينًا، وجاءت فترة الإجازة التي تكمن خطورتها في فراغ الولد، فهو فيها مناخُ من سبق، فمن سبق إليه واحتواه كان طوعَ أهدافه وإرادته.
إن الولد في الإجازة صيدٌ مستهدف لأهل الشبهات والشهوات، وغرضٌ قريبٌ سهلُ الاستحواذ للغلاة والجُفاة...وما لم يكن الوالد قريبًا من ولده يحوطه بالنصح والتوجيه ويرقب سلوكه ونمطَ تفكيره فإن الولد سيكون قريبًا من أولئك في فكره وسلوكه.
وفي هذا العصر أصبح كلُّ شيء يُخشى منه على الولد، فالمؤثرات كثيرة، ووسائل الاتصال ميسّرة متعددة، وما تذلل وتيسر من أسباب المعيشة زاد من أعباء المسؤولية على الوالد، واستوجبت عليه أن يستغرق في تربية ولده وقتًا أطول.
في السابق كان الناس في قرى صغيرة متقاربةِ الأطراف، المؤثرات فيها قليلة، والتغير فيها بطئ بطءَ الحياة نفسها، والناس فيها محصورون معروفون، فمهما ابتعد الوالد من ولده أو غفل عن ملاحظته فالولد سيظل قريبًا لن يذهب بعيدًا عن النمط السائد في قريته الصغيرة سلوكًا وفكرًا.
أما اليوم فالخطر في المجتمعات داهم، ودعاة الضلالة من الغالين والجفاة متكاثرون لا كثّرهم الله، والفتنة فيها قائمة تدب في أوصالها الحياة، والشباب هم وقودها وحطبها وهم أول ضحاياها، فلا يجوز أن يكون الوالد عونًا لشياطين الإنس والجن على ولده بسبب تفريطه لأمانته وغفلته عن ولده.
بارك الله...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم