فضل العلماء ومصيبة فقدهم

عمر القزابري

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/منزلة العلماء والمقصود بهم 2/بعض فضائل العلماء 3/عقوبات انتقاص العلماء والوقوع في أعراضهم 4/بعض صور ومظاهر انتقاص العلماء 5/خطر علماء السوء 6/مصيبة موت العلماء

اقتباس

أيها الأحباب: العلماء يدعون الناس إلى الهدى، ويتحملون الظلم والأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، فكم من قتيل لإبليس أحيوه، وكم من تائه بفضل الله هدوه، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. ملأ الله قلوبهم رحمة، فهم أرحم الناس بأمة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فإذا كان الآباء الأمهات يحفظون أبناءهم من نار الدنيا، وأوصاب الحياة، فإن العلماء يحفظون الناس من...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى، ولا وراءه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وزكاه روحًا وجسمًا، وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.

 

معاشر الصالحين: نتحدث اليوم -إن شاء الله- عن فئة من الناس؛ رفع الله ذكرهم، ونشر في العالمين فضلهم، ذكرهم الله في مقام الإشادة، ونظمهم في أعظم شهادة، فقال: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[آل عمران: 18].

 

إنهم العلماء، ورثة الأنبياء، وحلية الأولياء؛ بهم تستنير الديار، ويدعى إلى عبادة العزيز الغفار.

 

أعظم الناس خشية للرحمن، وأكثرهم بركة على أهل الإيمان، خصهم الله باستنباط الأحكام، وميزهم بضبط الحلال والحرام: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ)[النساء: 83].

 

هم دواء لكل داء، نور في الظلماء، سلطانهم قاهر، ودليليهم باهر، نتكلم عن هذه الفئة في زمن انشغل فيه أهله بكل تافه من الأشخاص ومن الأحوال، فالتعريف بأهل الباطل يتصدر كل تعريف، أما العلماء لا يعرفون ولا يعرف بهم، ولا يكرمون.

 

وإذا صادف وفاة أحد من أهل التعريف عند أهل التزييف؛ مر حدث موت العالم غريبا بين أهله، وهذا لا يضر العالم أبدا، ولكن يضر الذين أضاعوا حقه، ولا عرفوا قدره.

 

أما العالم؛ فيكفيه أن الله -جل وعلا- يعقد له حفلة ثناء ودعاء، يشترك فيها الملأ الأعلى، بل وتشترك فيها كل المخلوقات، ألم يقل سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وإن العالم ليستغفرُ له مَنْ في السموات ومن في الأرض حتى الحيتانُ في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما وَرَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر" [رواه الترمذي].

 

نعم؛ لا يضر العالم أبدا إهمال الناس له، أو تغافلهم عنه، أو جهلهم لقدره ومكانه؛ لأن الله رفع قدره ومكانه، قال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[المجادلة: 11].

 

ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل.

 

نعم -أيها الأحباب-: العلماء يدعون الناس إلى الهدى، ويتحملون الظلم والأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، فكم من قتيل لإبليس أحيوه، وكم من تائه بفضل الله هدوه، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.

 

ملأ الله قلوبهم رحمة، فهم أرحم الناس بأمة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فإذا كان الآباء الأمهات يحفظون أبناءهم من نار الدنيا، وأوصاب الحياة، فإن العلماء يحفظون الناس من نار السعير، وتعاسة المصير.

 

يكفيه شرفا أنهم: "ورثة الأنبياء، فإن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينار ولكن ورثوا العلم".

 

فيا الله ما أعظم المورث! وما أسعد الوارث! وما ظنك بقوم استشهد به المعبود على أعظم مشهود، فقال جل من قائل: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[آل عمران: 18].

 

قال الإمام القرطبي -رحمه الله- عند تفسيره لهذه الآية، قال: "في هذه الآية دليل على فضل العلم، وشرف العلماء وفضلهم، فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته، كما قرن اسم العلماء".

 

وقال في شرف العلم لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا)[طه: 114].

 

فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله -تعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يسأله المزيد منه، كما أمره أن يستزيده من العلم.

 

وهذا شرف للعلماء عظيم، ومحل لهم في الدين خطير. ا. هـ -رحمه الله-.

 

(شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ) [آل عمران: 18].

 

فلم يستشهد ربنا بذوي الجاه، ولا بذوي النسب العريق، ولا بأصحاب المال، ولا بذوي السلطان، إنما استشهد بذوي العلم، وحملة المعرفة.

 

أمر الله بطاعتهم، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) [النساء: 59].

 

أحد صنفين؛ ولاة الأمر؛ لأن ولاة الأمر هم الأمراء والعلماء، فولاية أهل العلم في بيان شريعة الله، ودعوة الناس إليها، وولاية الأمراء في تنفيذ شريعة الله، وإلزام الناس بها.

 

والأمراء؛ إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، ولذلك كان صلاح الناس بصلاح هذين الصنفين، وفسادهم بفسادهم، أي العلماء والأمراء.

 

فالعلماء؛ كنز الملة، وحفاظ السنة، وحملة الشريعة، أهل الجاه؛ يذهب قدرهم بذهاب جاههم، وأهل المال تموت قيمتهم بموتهم.

 

أما العلم؛ فلا ينته سببه، ولا ينقطع نسبه، ولا ينقضي خيره، ولا يخفت صيته، ولا ينقطع أجره.

 

إذا فرح الناس بدنياهم سجدوا لله على ما أتاهم، ولو شغل الملأ بالملذات؛ شغلوا بتأمل الآيات البينات، وإن مال الناس إلى العرض الزائل، وجدوا أنفسهم وسعادتهم في تنقيح العلم، وتأمل المسائل.

 

يقتضي بأفعالهم وأقوالهم، يقتص أثرهم، ترمق أعمالهم، وترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تحفهم، وكل رطب ويابس يستغفر لهم، حتى الحيتان في الماء؛ كما أخبر بذلك سيد الأنبياء -صلى الله عليه وسلم-.

 

يكفيهم فضلا أن الله -تعالى- كسر خشيته حق الخشية، ومعرفته حق المعرفة عليهم، فقال: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء)[فاطر: 28].

 

قال الإمام النسفي في "مدارك التنزيل وحقائق التأويل" عند تفسيره لهذه الآية: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء)[فاطر: 28].

 

قال: "أي العلماء به الذين علموه بصفاته؛ فعظموه، ومن ازداد علما به؛ ازداد منه خوفا" ا. هـ - رحمه الله -.

 

وقال الإمام الطاهر بن عاشور -رحمه الله- في تفسيره الماتع المسمى: "التحرير والتنوير" قال عند هذه الآية : "والمراد بالعلماء: العلماء بالله وبالشريعة، وعلى حسب مقدار العلم في ذلك تقوى الخشية، فأمّا العلماء بعلوم لا تتعلق بمعرفة الله، وثوابه وعقابه، معرفة على وجهها فليست علومهم بمقرّبة لهم من خشية الله، ذلك لأنّ العالم بالشريعة لا تلتبس عليه حقائق الأسماء الشرعيّة، فهو يفهم مواقعها حقّ الفهم، ويرعاها في مواقعها، ويعلم عواقبها من خير أو شرّ، فهو يأتي ويدع من الأعمال ما فيه مراد الله ومقصد شرعه، فإن هو خالف ما دعت إليه الشريعة في بعض الأحوال، أو في بعض الأوقات لداعي شهوة، أو هوى، أو تعجل نفع دنيوي، كان في حال المخالفة موقناً أنّه مُورّط فيما لا تحمد عقباه، فذلك الإيقان لا يلبث أن ينصرف به عن الاسترسال في المخالفة بالإقلاع أو الإقلال" ا. هـ كلامه -رحمه الله-.

 

وأقول: وليس في هذا تنقيص من العلوم الأخرى، أبدا، ولكن تلك العلوم إذا لم توصل صاحبها إلى خشية الله ومعرفة عظيم قدره كانت علوم غير نافعة لصاحبها وإن نفع غيره بها.

 

ولذلكم كان سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثيرا ما يدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع".

 

فالعلماء هم دعاة الهدى والرضا.

 

يقول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيء"[رواه مسلم].

 

وفضل العالم على العابد كفضل النبي -صلى الله عليه وسلم- على أدنى أصحابه، وذلك؛ لأن العابد تابع للعالم متقيد به متقلد له في عبادته، والعابد نافع لنفسه فقط، أما العالم فنفعه للبشرية جمعاء.

 

عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- أنه قال: قال - صلى الله عليه وسلم-: "إن فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع"[رواه الحاكم].

 

والعالم لا يقفل باب الحسنات بموته، بل يستمر ويبقى مفتوحا ينتفع به وهو في قبره، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" [رواه مسلم].

 

ولو علم الناس ما في طلب العلم من الفضل والأجر ما أخطئوا طريقه، وما انهمكوا في الدنيا، وما تاهوا في سراديب الهوى.

 

ومن تأمل في هذا الحديث حق التأمل وأرعاه سمعه بان له الأمر واتضح، عن أبي ذر -رضي الله عنه- أنه قال -وهو حديث عظيم أرجو الانتباه إليه-: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا ذر؛ لأن تغدو فتعلم آية من كتاب الله، خير لك من أن تصلي مئة ركعة، ولأن تغدو فتعلم بابا من العلم، عمل به أو لم يعمل، خير من أن تصلي ألف ركعة"[رواه ابن ماجة].

 

ولله در القائل:

 

تعلم فليسَ المرءُ يولدُ عالماً *** وَلَيْسَ أخو عِلْمٍ كَمَنْ هُوَ جَاهِلُ

وإنَّ كَبِير الْقَوْمِ لاَ علْمَ عِنْدَهُ *** صَغيرٌ إذا الْتَفَّتْ عَلَيهِ الْجَحَافِلُ

 

جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكر، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، أمين، أمين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ذي العرض، رفيع الدرجات، رفع قدر العلماء، فقال: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)[المجادلة: 11].

أحمده على ما وهب، وهو صاحب المواهب السنيات، وأصلي وأسلم على سيد البريات، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما بينت السنة، وتليت الآيات.

 

معاشر الصالحين: إن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالسلب؛ ابتلاه الله قبل موته؛ بموت القلب.

 

فوا عجبا ممن يزدريهم ويحتقرهم، ويؤذيهم ويعاديهم!.

 

لقد حمل نفسه ما لا تطيق، وعرضها لعقوبة الله في العاجل والآجل، يقول الله -تعالى- في الحديث القدسي: "من عاد لي وليا فقد آذنته بالحرب".

 

ولله در أحد السلف يوم يقول: "إذا لم يكن العلماء والفقهاء أولياء الله فليس لله ولي".

 

وما أكثر صور انتقاص العلماء في زماننا هذا: في الإعلام والصحافة، حتى في بعض الأفلام التي تحارب الدين تجعل من الفقيه وسيلة سخرية وضحك، بل حتى في كثير من النكات التي يتناقلها الناس فيما بينهم تجد السخرية من الفقهاء والعلماء بارزة!.

 

وهذا حرام -ورب الكعبة-، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يرى بها بأسا، فيهوي بها في نار جهنم سبعين خريفا".

 

قال الله -تعالى-: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ)[التوبة: 65-66].

 

حتى بعض الصغار تجدهم يتطاولون على العلماء، يبدعون ويفسقون، ويطعنون ويحتقرون، وهذا –والله- من شؤم الأيام، ونحس الأزمان، وإلا فإن العلماء حقيقون بكل ثناء، جديرون بكل دعاء، فإنهم أهل الفكر والتقى، صيتهم ذائع، وتاريخهم رائع، وقربهم ماتع، ونهجهم ناصع، أرض لم تشرق فيها أنوارهم أرض مظلمة، وبلاد لم تكتحل برؤيتهم بلاد قاتمة، وأوطان لم تعرف قدرهم أوطان خاسرة، وأمة لم تقدم رأيهم أمة تائهة.

 

وإن من أشراط الساعة: أن يرفع العلم، ويثبت الجهل، ويشرب الخمر، ويظهر الزنا، فهم المبلغين عن الله وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حفاظ الشرع، حراس النهج، خدام السنة، ينام الناس ملئ أعينهم وهم يوقدون الشموع، وينثرون الدموع، وينطرحون بين يدي ربهم والناس هجوع، يسألونه غفران الذنوب، وصلاح الشعوب، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أسوأ أثر الناس عليهم!.

 

تعلموا القرآن فعظمت قيمتهم، ونظروا في الفقه فنبل قدرهم، وكتبوا الحديث فقويت حجتهم، ومثلهم مع الهدى والعلم؛ كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا نقية طيبة، فقبلت الماء، وأنبتت الكلأ، والعشب الكثير.

 

هذا غيض من فيض قدرهم، وقطرة من بحار مكارمهم، ونقطة من مداد نبلهم: (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ)[الرعد: 19].

 

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)[الزمر: 9].

 

ولكن تلك المنزلة السامقة، والرتبة العالية، والميزة الغالية التي اختص بها العلماء، وظفر بها الفقهاء، منزلة لها تبعة ورتبة يترتب عليها ضريبة وميزة لها ثمن تلك المنزلة، وهاتيك الرفعة؛ إنما هي للعلماء الأتقياء، والفقهاء الأوفياء الذين عرفوا ربهم، وأخلصوا قصدهم، وصانوا علمهم، واتبعوا نبيهم وقدوتهم، فما أعظم أجرهم! وأسعد حظهم؟!.

 

أما من خان الأمانة، وغش الديانة، فوزره أعظم، وجرمه أشنع، ومصيره أفظع: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ)[الأعراف: 175].

 

فالويل الويل! لمن أردوا بعلمهم الدنيا وحظوظها، والحياة ومتاعها.

 

والويل الويل! لمن طلبوا العلم ليماروا به السفهاء، أو يكاثروا به العلماء، أو يصرفوا به وجوه الناس إليهم، يقول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من تعلم علما ممن يبتغى به وجه الله -عز وجل- لا يتعلمه إلا ليصيب به عرض من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" يعني ريحها[أخرجه ابن ماجة].

 

وعن الحسن قال: "العلم علمان: فعلم في القلب، فذلك العلم النافع، وعلم على اللسان؛ فذلك حجة الله على بن آدم".

 

ما أعظم العقوبة؟! وما أشد النكال ؟! وما أتعس المصير ؟! لمن فاته الإخلاص في علمه، والصدق في قصده، والتقوى في فقهه، والخشية في نهجه.

 

وكفى زاجرا وتخويفا ما أخبر به المعلم المشفق، والناصح الصادق؛ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث المرعب، وأخبر المفزع، حيث يقول: "إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ"[رواه مسلم].

 

نسأل الله الذي أقامنا أن يمدنا ويسترنا.

 

ومن الكلام البديع ليحي بن معاذ قوله: "إنما يذهب بهاء العلم والحكمة؛ إذا طلب بهما الدنيا".

 

أيها الأحباب الكرام: من المصائب العظام، والنوازل الجسام: موت العلماء؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا"[رواه البخاري ومسلم].

 

فقدنا -أيها الأحباب الكرام- في الأسبوع الماضي عالما من العلماء، وجهبذا من الجهابذة، وأديبا من الأدباء؛ شيخنا وحبيبنا عبد السلام الخرشي -رحمه الله-، هذا الرجل الذي جمع الله له بين العلم والفهم، والذوق والأدب، نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله.

 

فقد عرفناه منذ وعينا على الدنيا عالما ناصحا ثابتا لا تزعزعه الرياح، وقد كنا نقصده إذا أحاطت بنا الهموم، فنخرج من عنده بغير الوجه الذي دخلنا، طالما نصح وبين ووضح، وأعان وأكرم، إذا ألقى درس من الدروس تفاعل معه، وكأنه في عالم آخر، لا يشاركه فيه آخر.

 

وإننا إذ نذكره اليوم إنما نطبق قول رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه".

 

ومما يؤسف له أن تمر موت أمثال هؤلاء الأعلام غريبة يتيمة، لا يكاد يلتفت إليها، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن قيمة العلم والعلماء قد نزلت عند كثير من الناس إلا من رحم الله، حتى الإعلام يتحمل مسئولية عدم الالتفات إلى العلماء، سواء في حياتهم أو موتهم.

 

ولله در القائل:

 

الناس في مشرق قد ترجموا نُكُرا *** ونحن في أعرف الجُلّى عياياه

الموت أن تعفو الأطلال دارسةً *** ومن يؤرخ لذي الإيمان أحياه

 

وهذان البيتان من قصيدة ألقيت في رثائه رحمه الله رحمة واسعة، وجعل الفردوس مستقره ومنزله.

 

ونحن إذ نذكره اليوم إنما ندعو الأجيال من خلال ذكره إلى طلب العلم، وإلى الإقبال على العلماء الربانيين الصادقين، وندعو إعلام المسلمين إلى الاهتمام بالعلماء، بدل الاهتمام بأئمة الضلال، وأصحاب الهوى، مما لا يستفاد بذكرهم، ولا يفرح برؤيتهم.

 

اللهم أصلح أحوالنا...

 

 

 

المرفقات

العلماء ومصيبة فقدهم

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات