فزادوهم رهقا

الشيخ عبدالعزيز بن محمد النغيمشي

2021-09-03 - 1443/01/26 2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/مشهد من مشاهد الجاهلية 2/حقيقة العقيدة الصحيحة وكثرة الانحرافات عنها 3/حقيقة التوكل على الله تعالى وفضائله 5/من أبرز مظاهر ضعف التوكل على الله 6/التحذير من التمائم والدجالين.

اقتباس

إنَّ التوَكُّلَ على الله عبوديةٌ وعقيدةٌ وتوحيد.. لها في القلبِ مقامٌ يقود.. تنقادُ لَهُ الجوارحُ، وتَسِيرُ على الإيمان به الحياة. فمن حَيا حياة المتوكلين.. طابَتْ حياتُه واطمأنت نَفسُهُ، واستقامَت جوارِحُه، وَهَدأ قلبُه؛ فلا تستفزُّه المواقف، ولا ترهبُه الأزمات، ولا تتلاعب به الهموم، ولا تستخِفُّ بِه المُغريات، متوكلٌ على الله قَدْ رَضِيَ بالله وكيلاً.. يُدبرُ له أمرَه، ويقضي لَه مَطْلَبَهُ، ويدفعُ عنه كُلَّ سوءٍ وبلاءٍ ومكروه...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله رب العالمين، على الله توكلنا، وعلى الله فليتوكل المتوكلون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وعلى مَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.. فإن (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)[آل عمران:15].

 

أيها المسلمون: في مشهدٍ من مشاهدِ الجاهلية.. قوافلُ تقطعُ فجاجَ الأرض وتمشي في مناكبها.. ترتحِلُ من مكانٍ وتنزلُ في آخر، تَحِلُّ بفلواتٍ من الأرضِ مُقْفِرَةٍ، وتُمسي في أوديةٍ وشعابٍ مُوْحِشَة.

 

فإذا ما أناخوا في مكانٍ مخوفٍ رحالَهُم، صاح منادِيهم، ينادي في الجِنِّ مُسْتَعِيْذاً قائلاً: "أعوذُ بسيدٍ هذا الوادي من سُفهاءِ قَوْمِه"؛ يستَعيذُ بكبيرِ الجنِ ويلوذ بِجَنَابِهِ. في انصرافٍ عن الاستعاذةِ بالله، وفي إعراضٍ عن التوكلِ عليه، فما يزدادُ أولئكَ المشركون بهذه الاستعاذةِ إلا خوفاً وهلعاً ورُعْباً، (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا)[الجن:6].

 

وفي خِضَمِّ الحياة وصخبها، وفي ظل الترف وافتتان الناس في النعيم.. شاعت الغفلة وعمَّ الهوى، وقَلَّ العِلمُ، وعَظُمَ الجهل، وأصبح الناس بحاجة مُلحَّةٍ إلى التذكير بقضايا العقيدة الكبرى، التي يجب أن يكونَ عليها المُرْتَكَزُ في الحياةِ ويكونُ عليها المنتهى والممات. إذ ليس للعبادِ خيارٌ في صرف شيءٍ من أنواع العبادة لغير الله.

 

وعبادةُ القلوب أصلٌ في صحةِ الإيمان وسلامة الإسلام، فالخوفُ والرجاءُ والتوكلُ والاستعانةُ والاستعاذةُ والاستغاثةُ مِنْ العباداتِ القلبيةِ المقترنةِ بصحةِ التوحيدِ واستقامةِ الإيمان.

 

فاللهُ خالِقُ العبادِ.. هو مُدبِّرُ الكونِ، وهو مالكُ الملكِ، وهو مُصرِّفُ الأمور، وهو على كل شيءٍ قدير، وهو العليّ العظيم، وهو العزيز لحكيم، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا رادّ لما قضى ولا مُعقِّبَ لما حَكَم. لا يُسألُ عما يفعل وهم يُسألون. هو رب العالمين.. عليه يتوكَلُّ المتوكلون (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)[الطلاق:3]. (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[آل عمران:122].

 

توكلٌ به يعتدُ العبدُ على الله في شتى أمورِه، فلا يفزعُ إلا إليه، ولا يستعينُ ولا يستعيذ إلا به، ولا يرغبُ إلا إليه، لهُ الرجاءُ التامُ، ومنهُ الخوفُ الأعظم. (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[آل عمران:175].

 

توكلٌ.. هو صِدْقُ اعتمادُ القلبِ على الله -عز وجل- في استجلاب المصالح ودفع المضارِّ مِنْ أُمُوْرِ الدُّنْيا والآخرةِ، مَعَ الأخذِ بالأسبابِ الموصلةِ إلى تحقيق ذلك. (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[التغابن:13].

 

والتوكلُ على اللهِ مِنْ آكَدِ صِفَاتِ المؤمنين حقاً (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[الأنفال:2]. ورُسُل الله -عليهم السلامُ- هم أئمةُ المتوكلين، أُوُذُوا وحُوْرِبُوا، وقُوتِلُوا وَطُورِدُوا، ونالَهم مِنَ قَوْمِهِم ما نالَهم، فما أقامَهُم على الثباتِ إلا تَوكُلٌ على الله لَزِمُوه، (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)[إبراهيم:12].

 

وما انصرفَ عبدٌ عن التوكلِ على الله إلى ما سواه من ذواتٍ أو أشخاصٍ أو أعمالٍ أو أسباب، إلا وَكَلَهُ الله إلى ما ركنَ إليه.

 

إنَّ التوَكُّلَ على الله عبوديةٌ وعقيدةٌ وتوحيد.. لها في القلبِ مقامٌ يقود.. تنقادُ لَهُ الجوارحُ، وتَسِيرُ على الإيمان به الحياة. فمن حَيا حياة المتوكلين.. طابَتْ حياتُه واطمأنت نَفسُهُ، واستقامَت جوارِحُه، وَهَدأ قلبُه..

 

فلا تستفزُّه المواقف، ولا ترهبُه الأزمات، ولا تتلاعب به الهموم، ولا تستخِفُّ بِه المُغريات. متوكلٌ على الله قَدْ رَضِيَ بالله وكيلاً.. يُدبرُ له أمرَه، ويقضي لَه مَطْلَبَهُ، ويدفعُ عنه كُلَّ سوءٍ وبلاءٍ ومكروه.

 

وما ضَعُفَ توكُلُ عبدٍ على رَبِهِ إلا بضعفِ إيمانِه ويقينه، وأكملُ الناسِ توحيداً للهِ أعظمُهمُ توكلاً عليه.

 

ومظاهرُ ضَعْفِ التوكلِ على الله لدى كثيرٍ مِنَ الناسِ أمرٌ ظاهر. فما الذي زرع بذور الخوف في القلوبِ، وجعلها دائمةَ القلقِ، مُتواصِلةَ الضجر. جزوعةً عند المصيبةِ، مَنوعَةً عند النِّعْمَة؟!

 

ما الذي أرسى قواعدَ الحرصِ والطمعِ في النفوس حتى صيَّرها إلى البخلِ والشُّح؟! ما الذي أمال القلوبَ من التعلق بالله إلى التعلقِ بالأسبابِ، رُكُونٌ إلى الأسبابِ دونِ الركونِ إلى مُسبِّبِها، مُبالغةٌ في الأخذِ بأسبابِ الوقاياتِ وأسباب تحصيل المنافِعِ وَدَفْعِ المضار.. مع غفلةٍ تامَّةٍ عن تحقيقِ التوكُّلِ على الله واللجوءِ إليه والرجوعِ إليه وطلب المددِ والعونِ منه.

 

فَكَمْ مِنْ سببٍ عظيمٍ أقامَ القلبُ عليه اعتمادَهُ، ولَمْ يَقُمَ مَعَهُ صِدْقُ التوكلِ على الله، نَزَعَ اللهُ مِنْهُ النفعَ فما تحققَ لصاحِبِه منه المُراد.

 

وَكَمُ مِنْ سَبَبٍ يَسيرٍ اقترنَ بِه صِدقُ التوكلِ الله.. فاقَ بِنَفْعِهِ كُلَّ الأسباب (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا)[المزمل:9].

 

بارك الله لي ولكم...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.

 

أيها المسلمون: إنَّ التوكلَ على اللهِ فَرَجٌ في الشدائدِ، وَعَوْنٌ في النوائبِ، وتسهيلٌ للصعاب، وأَمنٌ في المخاوفِ، وطمأنينةٌ في الكروب، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قَالَ: "حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ؛ قَالَهَا إِبرَاهيمُ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ أُلقِيَ في النَّارِ، وَقَالَها مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ قَالُوا: إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيْمانًا وَقَالُوا: حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوَكيلُ"(رواه البخاري).

 

المتوكلون على رَبِهِم هم أطيب الناس عيشاً، وأشرحُ الناس صدراً، وأَهْنَؤُهُم حياةً، فلا المصائبُ تَحْطِمُهُم وتُرديهم، ولا النِّعَمُ تُبْطِرُهُم وتُطْغِيْهِم، (لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ)[الحديد:23].

 

وإذا ما ابتعد العبدُ عن موردِ الشريعةِ، وَنَأَى عَنْ مَنْهَلِ التوحيدِ وجَهِلَ أَحْكَامَ الدين.. لَم يجعلِ رَبَّهُ له وكيلاً، ولم يتخذهُ مُعتَمَداً وناصراً ومُعيناً. فَيُقَلِّبُ طرفَه حائراً في الحائرين، تُحِيْطُ به الأوهام وتغشاهُ الهموم، وتزدحم فيه النوائبُ وتَسُوءُ منهُ الظنون.

 

فيسيرُ خلفَ سَرَابِ الجهل، وَيَتِيْهُ في سراديبِ الضلالة. يتقلب بين طرائق المفتونين، وتستهويه ضلالات الجاهلين، كلما سَمِعَ نَعْقَةَ نَاعِقٍ طارَ إليه يبتغي الخلاصَ عندَه والمَغْنَمَ لديه، ينشدُ النورَ في غيرِ مَظَانِّه. وأَنَّى لِمَن انطفأ نورُه أن يَسْتَنِيْرَ بغير نورِ الله (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)[النور:40].

 

إذا ما ابتعد العبدُ عن موردِ الشريعةِ، وَنَأَى عَنْ مَنْهَلِ التوحيدِ وجَهِلَ أَحْكَامَ الدين.. أضاعَ نفسَهُ وتَاهَ عَنِ الله، وتخبَّط في ضلالات الشكّ والريب والاضطراب، يبحث عن ذاته في دهاليزِ الشك، ويتساءلُ عنها في عالم الظنون. أضاعَ نفسَه فما عَرَفَ كُنْهها، وأضَلَّ طريقَه فما عرفَ خالِقَه، وَمَنْ تاهَ عن معرفةِ ذاتِه، وجهلَ عَظَمَةَ رَبِّهِ.. أنَّى له أن يَسْلُكَ دَربَ الهدايةِ والرَّشَد (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)[الأنفال:24].

 

يبتعد الإنسانُ عن خالقه.. فلا يفزعُ إليه ولا يثقِ به ولا يتوكلُ عليه، فيستوحش من قابل حياته، فيستطلعُها عندَ كُلِّ كاهنٍ وعرافٍ ودجال، ويتَحَسَّسُها في برامج الوهم، وينشدُ تقويمها في قوانين الجذبِ والطاقةِ التي يُسَوَّقُ لها في وسائل التواصل والإعلامِ مَن نأى بمنهجِه عن الدين.

 

يبتعد عن خالقه.. فَيُعَلِّقُ تَمِيْمَةً أو خيطاً أو أدعيةً أو تحصيناتٍ أو غيرها، يُعلِقُها في ساعِدِه أو رقبَتِهِ أو على سيارتِه أو في منزلِه، أو على واجهةِ دُكَّانِهِ ومتجرِه، يستدفٍع بها البلاءَ، أو يتقي بها العينَ، أو ويستكفي بها الشرور، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الرقى والتمائم والتِّوَلَة شرك"(رواه أبو داودَ وغيره).

 

ومَن اتخذَ لَهُ مِنْ دُونِ الله ولياً ووكيلاً رَكَنَ إلى ضعفٍ، واستندَ إلى هباءٍ، وتوكل على وَهَن (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[العنكبوت:41].

 

عباد الله: إنها عقيدةُ الإيمانِ بالله، والتوكلِ عليه، والاستعانةِ والاستعاذةِ والاستغاثةِ به. والفَزَعِ إليه وإفرادِه في المسألةِ في كُل نائبة، ومعرفةِ الحكمةِ التي خَلَقَ الله لأجلها الإنسان، عقيدةٌ أقامَها القرآنُ وَبَيَّنَتْها السُّنةُ، فلا يَزِيْغُ عنها إلا هالِكٌ ولا ينحرفُ بها إلا مُلْحِد. وإنَّ تَرْبِيَةِ النَّفْسِ والجيلِ على هدي الشريعةِ وحمايةِ الأمةِ من دروبِ الضلالاتِ من أعظم الواجبات.

 

اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين..

 

المرفقات

فزادوهم رهقا.doc

فزادوهم رهقا.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات