فتاوى لا خِطام لها ولا سنام

زيد بن مسفر البحري

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/خطر الفتوى بغير علم 2/ الرد على دعوى وفتوى اليهود والنصارى إخوان المسلمين 3/ الرد على فتوى إباحة حل السحر بسحر مثله 4/الرد على فتوى إباحة شرب الدخان 5/فتوى إباحة الغناء وبعض الأدلة الشرعية وإجماع الأئمة على تحريمه 6/تفنيد أدلة وشبهات من أباحوا الغناء 7/حكم الشعر وضوابطه 8/حكم الأناشيد الإسلامية وبعض المخالفات الشرعية المصاحبة لها

اقتباس

إن الصحابة لما قالوا: إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء العشب؛ لأنهم كانوا أفقه الناس بالقلوب؛ لأن آلات الطرب اللهو لا تجتمع مع القرآن أبداً، فإن القرآن يأمر بالعفة وينهى عن الفواحش بينما الغناء بضد ذلك. والغناء أخ وصنو للخمر، كما يفعل الخمر بصاحبها، كذلك يفعل الغناء. وإنك لترى الرجل وعليه الوقار والهيبة، وحلاوة الإيمان والإسلام فما أن...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

 

أما بعد:

 

فيا عباد الله: في هذا العصر زُج ببعض الفتاوى، هذه الفتاوى التي ظهرت في الآونة الأخيرة هذه الفتاوى فتاوى عمياء، فتاوى مرتجلة لا خطام لها ولا سنام.

 

هذه الفتاوى -وللأسف- أصبحت تتحدث عن المُسلَّمات التي وقرت في قلوب كثير من الناس، ومعلومة لدى الناس بأنها إما أن تكون محرمة، وإما أن تكون واجبة، قال تعالى: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النحل:-116- 117].

 

يستمتع في هذه الدنيا: (مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النحل: 117].

 

(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً)[الأعراف: 33].

 

ما ختام الآية؟

 

(وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [الأعراف: 33]..

 

جمع بين الشرك وبين القول على الله -عز وجل- بلا علم.

 

(وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)[الإسراء: 36].

 

في سنن الترمذي قوله عليه الصلاة والسلام: "مَنْ أُفتي بغير علم فإثمه على مَنْ أفتاه".

 

والنصوص كثيرة في هذا المعنى ولا تحصى.

 

حتى إن بعض الفتاوى لتنخر في العقيدة، لتأتي إلى العقيدة فتنخرها من أصلها.

 

بعض الفتاوى تقول -وللأسف- بعض الفتاوى تقول من باب التلطف مع اليهود والنصارى البعض، يقول: "إنهم إخوان لنا".

 

سبحان الله! إخوان لنا! أين قراءتك لكتاب الله؟! أين اطلاعك على سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ)[الممتحنة:1].

 

نحن لا نقول: إن الإسلام قام على الدم، وعلى قتل الأنفس.

 

كلا.

 

الإسلام ما قام إلا بالعلم، وتوضيح الدين للمخالفين: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)[البقرة: 256].

 

لكن كون هذه الفتوى تصدر ممن ينتسب إلى العلم وأهله، هذا شيء عجيب وغريب.

 

فتوى أخرى، ولو جئت إلى أحد كبار السن ممن لا يقرأ ولا يكتب، بل ربما ما قرأ القرآن، وسألته عن هذا الحكم؟ لقال: "إن هذا لا يجوز، هذا كفر بالله: "فك السحر بسحر مثله".

 

سبحان الله! أين هذه الفتوى من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أتى ساحراً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد"؟!

 

أين هذه الفتوى من صلاحية القرآن لشفاء الأبدان والقلوب؟

 

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ)[الإسراء: 82].

 

إذاً تعطل القرآن في شفاء الأبدان والقلوب، حتى نلجأ إلى هؤلاء السحرة؟

 

أين هذه الفتوى من حكم عمر وحفصة وجندب -رضي الله عنهم- بـ "أن الساحر والساحرة يقتلان"؟!

 

إذاً على هذه الفتوى يجب، بل من باب اللزوم أن ندع بعض هؤلاء السحرة، حتى يستفاد منهم.

 

فتوى أخرى، تقول: "إن شرب الدخان حلال إذا كان لا يضر باقتصاد الأسرة"!.

 

أصبحنا نبني هذه الفتاوى على عقليات وآراء، ما ندري هل هي فتوى أو شهوة، أو هوى أو ظن أو رأي؟!.

 

وآخر يقول: "لا بأس" انظروا: "لا بأس أن تصافح المرأة الأجنبية، وأن تقبل خدها إذا كانت هناك نية طيبة، ولم تكن هناك إثارة للشهوة".

 

وآخر يقول، وهي موضوع حديثنا؛ لأنها فتوى حديثة الخروج في المجتمع، وطازجة الظهور، يقولون: "إن الغناء حلال بشرط ألا يثير الغرائز، وألا يشغل عن ذكر الله -عز وجل- ".

 

بل إن البعض: "يصرح أنه يستمع إلى المغني فلان، وإلى المغنية فلانة، ولما سئل؟ قال: "إنما الأعمال بالنيات".

 

ما هذا الجهل؟!

 

إنما الأعمال بالنيات، اقرأ ما بعدها حتى تعرف أن الأعمال بالنيات، إنما المراد منها الأعمال الطيبة: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله".

 

إذاً إذا شرب الخمر، إذا زنا، يقول: "إنما الأعمال بالنيات" يصرح بأنه يستمع إلى فلان وإلى فلانة.

 

سبحان الله! بل إن البعض منهم يقول: "إن الغناء والاستماع إلى الموسيقى وآلات اللهو والطرب، يقول إنها قضية ذوقية مثل المباحات كالأكل والشرب، إن شئت أن تفعل فافعل، وإن شئت أن تدع فدع".

 

حتى نسب القول بجواز الغناء وآلات اللهو إلى الحسن البصري -رحمه الله-، وقد صح عن الحسن البصري -رحمه الله- أنه ذم الغناء، وقال: "إن الدفوف".

 

وهي الدفوف، وهي من آلات الطرب، فما ظنك بما هو أعلى منها؟

 

"إن الدفوف ليست من شريعة الله، وإني رأيت أصحاب عبد الله بن مسعود يأخذونها من الأطفال فيشققونها".

 

هذا ما أُثر عن الحسن البصري -رحمه الله-، حتى إن البعض منهم يقول مسمياً لها: "الموسيقى الإسلامية!".

 

سبحان الله! "الموسيقى الإسلامية!".

 

ولقد صدق ابن مسعود -رضي الله عنه-، كما صح عنه عند الدارمي والحاكم، قال رضي الله عنه: "كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير، ويربو فيها الصغير، فيتخذها الناس سنة فإذا غيرت قالوا غيرت السنة؟".

 

إذا غيرت هذه الفتوى الخاطئة، أو هذه السنة المبتدعة، قالوا: "غيرت السنة، قيل متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: إذا كثرت قراؤكم، وقلت فقهاؤكم، وكثرت أمراؤكم، وقلت أمناؤكم والتمست الدنيا بعمل الآخرة، وتفقه لغير الدين" انتهى كلامه رضي الله عنه.

 

ولذلك صح عن إبراهيم بن أدهم كما صححه الألباني -رحمه الله- قال مبيناً أن هناك شواذاً في الفتاوى، ولذا لما سئل أحدهم في بعض القنوات الفضائية عن الغناء والموسيقى؟ قال: إن المسألة خلاف، سبحان الله! أكل مسألة فيها خلاف نقول المسألة فيها خلاف؟

 

المعتد به والمعتبر به، هو ما قاله الله -عز وجل-، وقاله النبي -صلى الله عليه وسلم-.

 

ولذلك مَنْ حمل من طلاب العلم شواذ العلم حمل شراً كبيراً، يقول إبراهيم بن أدهم: "من حمل شاذ العلم حمل شراً كبيراً".

 

هذا ما يتعلق بالمفتي.

 

أما ما يتعلق بك أنت يا مستفتي، فعليك أن تتقي الله -عز وجل-، وألا تسأل إلا مَنْ تعرف أنه على علم وعلى دين وعلى تقى، ولذلك صح عن سليمان التيمي أنه قال: "إنك" يا أيها المستفتي "إنك إذا أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله".

 

عشوائية عمياء في فتاوى مخالفة للسنة.

 

حتى إن الأئمة الكبار ممن سبقنا لما نشأ فيهم هذا الرأي؛ لأنه رأي تبناه ابن حزم، وقد أخطأ وخالف في ذلك، ولذلك ابن حزم -رحمه الله- إذا لم يعلم بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- أصبح عنده غلو فيه ونسفه نسفاً، ولذلك يقال: "إن سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقان".

 

شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله عليه- تلميذه ابن القيم، النووي، ابن الصلاح، ابن حجر، أئمة كبار كلهم صرحوا بتحريم الغناء وآلات اللهو والطرب، ولا تختلف في ذلك لا "الطبول ولا الدفوف، ولا العود ولا الربابة، ولا المزامير بكافة أنواعها".

 

حتى عد ابن القيم -رحمه الله- تلك الأحاديث التي وردت في تحريم الغناء، فجاوزت عشرة أحاديث، كما في "إغاثة اللهفان"، مما يدل على أن لهذا الأمر أصلاً كبيراً في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

 

من بين هذه الأحاديث: حديث أبي مالك الأشعري، كما في صحيح البخاري معلقاً بصيغة الجزم، قال عليه الصلاة والسلام: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ" يعني الزنا "يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف".

 

وضع تحت كلمة: "المعازف" خطوطاً.

 

يقول علي القاري -رحمه الله-: "إنهم استحلوها بالشُّبَه" يشبهون على أنفسهم وعلى الناس: "استحلوها بالشبه وبالأدلة الواهية".

 

وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- في "إبطال التحليل" قال رحمه الله: "لعلهم يستحلونها بالأدلة الواهية إذا إنهم لو استحلوها فجعلوها حلالاً، مع اعتقادهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حرمها، فإنهم يصبحون بذلك كفاراً".

 

ومن بين الأحاديث: حديث أنس -رضي الله عنه- عند البزار، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة، ورنة عند مصيبة".

 

وله شواهد، كما قال الألباني -رحمه الله-.

 

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في المسند، وسنن أبي داود من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله حرم الخمر والميسر، والكُوبة".

 

قال سفيان لعلي بن بذيمة وهو أحد الرواة، قال: "ما الكوبة؟" قال: "الطبل".

 

إذاً لا "عَرْضَةَ" ولا غيرها يجوز للإنسان فعلها، فـ "الطبول والدفوف وما شابه ذلك من آلات الطرب واللهو".

 

فإنها محرمة في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا نعرف ولا ندري أهناك أحد أعلم بالحديث من الإمام أحمد -رحمه الله-؟

 

أهناك أحد أعلم بالحديث في عصره من ابن حجر -رحمه الله- الذي يلقب بأمير المؤمنين في الحديث؟

 

مع ذلك ثبت وصح عن الإمام أحمد -رحمه الله- كما ذكر الخلال في كتابه: "الأمر بالمعروف والنهي": "أنه صحح أحاديث تحريم الطبل".

 

وابن حجر -رحمه الله- كما في "تلخيص الحبير" صحح أحاديث تحريم الطبل، فكيف يقال بعد ذلك إن هذا الأمر جائز؟

 

أفعل الحبشة لما كانوا يلعبون بالحراب، كما جاء في الصحيحين أفعل الحبشة دليل على هذا الفعل؟ على أن يضرب بالطبول وأن يرقص؟

 

كلا.

 

وذلك قال الشيخ ابن جبرين -حفظه الله-: "قال إن لعبهم من باب التدرب على السلاح، وهو من المقصود الشرعي مما يعين على الجهاد، وهو في مسجد رسول الله صلى الله"؛ لأن هذا الفعل من الطاعة، فلا يقاس عليه أن يضرب طبل، أو أن يتراقص لهواً.

 

ومن الأحاديث التي تحرم الغناء وآلات الطرب: حديث عمران، كما عند الترمذي قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يكون في أمتي قذف وخسف ومسخ" قيل: متى يا رسول الله؟ قال: "إذا ظهرت المعازف، واتخذت القينات، وشربت الخمر".

 

لكلام ابن تيمية -رحمه الله- قبول، فماذا قال رحمه الله في الفتاوى؟

 

يقول: "كما أن من لا يعرف أدلة الأحكام لا يعتد بقوله، فكذلك من لا يعرف طرق صحة الحديث لا يعتد بقوله، فمن ليس بعالم يجب عليه أن يأخذ برأي إجماع أهل العلم".

 

لابن القيم -رحمه الله- تأثير عجيب في كلامه، ماذا قال رحمه الله عن المعازف؟ حتى لم يخصص، أالدف حلال؟ أالطبل حلال؟ أالربابة حلال؟ ماذا قال ابن القيم -رحمه الله-؟

 

قال رحمه الله كما في "إغاثة اللهفان" قال: "المعازف هي آلات اللهو كلها لا يستثنى منها شيء، ولا خلاف بين أهل اللغة في ذلك".

 

ومعلوم قدر ابن القيم -رحمه الله- في اللغة.

 

ماذا قال الذهبي الحافظ الجليل في السير؟

 

قال: إن المعازف هي اسم لكل آلات اللهو التي يعزف بها كالمزمار ونحوه.

 

فالأحاديث صريحة في تحريم آلات الطرب بجميع أنواعها، إما لأن الأحاديث صرحت بذلك كالطبل والمعازف والمزامير، وإما لأنها داخلة ضمن المعازف التي يعزف بها.

 

ثم لو رأينا لرأينا أن هذه الآلات الموجودة تلهي عن ذكر الله -عز وجل-، وتغطي القلب ظلمة.

 

وكما أن الطبل محرم بنص الأحاديث الواردة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- من حديث ابن عباس، ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، ومن حديث قيس بن سعد بن عبادة، ثلاثة أحاديث عن صحابة قد اختلفت أسماؤهم نصت ونقلت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه حرم الطبل، ولذلك يقول ابن المبارك:

 

وهل أفسد الدين إلا الملوك *** وأحبار سوء ورهبانها

 

مصيبتنا في علماء السوء، ولذلك لو سأل سائل: إذا سمعت قولاً اجتمعت عليه الأئمة الأربعة أيختلج في فؤادك تردد في هذا القول؟

 

الجواب: لا، نقل شيخ الإسلام -رحمه الله-، كما في "منهاج السنة" قال: "اتفق الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك، والشافعي وأحمد اتفقوا على تحريم الغناء وآلات اللهو بجميع أنواعها".

 

الإمام مالك -رحمه الله-: "لما سئل عن الغناء وآلات الطرب؟ ماذا قال رحمه الله؟

 

قال: إنما يفعله الفساق عندنا".

 

ابن عباس -رضي الله عنهما- ماذا قال؟

 

قال كما عند البيهقي مبيناً أنه لا هوادة، وأن النص واضح صريح قال رضي الله عنهما: "الدف حرام" أول ما صدر به كلامه -رضي الله عنهما- قال: "الدف حرام، والمعازف حرام والكوبة" يعني الطبل "والكوبة حرام، والمزمار حرام".

 

فهل بعد هذا القول من قول؟ فهل بعد هذا الرأي من رأي؟

 

وأما ما يستدل به ببعض الأحاديث، فإنها حجة عليهم لا لهم؛ منها ما جاء في الصحيحين: "أن أبا بكر -رضي الله عنه- دخل على الرسول -صلى الله عليه وسلم- في بيت عائشة في أيام منى" وهي أيام عيد: "تقول عائشة -رضي الله عنها- فكان عندي جاريتان".

 

يقول ابن الجوزي -رحمه الله-: "مما يدل على أنها جارية ليست بالغة".

 

كما أن عائشة -رضي الله عنها- في ذلك الوقت كانت غير بالغة، تقول: "وعندي جاريتان تدففان" يعني بالدف "تغنيان ببعض ما قالته الأنصار يوم بعاث، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد حول ظهره، وتغطى بثوب، فدخل أبو بكر -رضي الله عنه- " وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: "ليستا بمغنيتين" فقال: "أمزامير الشيطان في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟" قالها مرتين.

 

فماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ وهي الشبهة التي أوقعت هؤلاء هنا؟

 

قال: "دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا أهل الإسلام".

 

هذا الحديث ليس حجة لهم بل حجة عليهم، لم؟

 

أولاً: لأن عائشة -رضي الله عنها- وهاتين الجاريتين كن صغاراً، وقد قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "يرخص للصغار ما لا يرخص للكبار ولاسيما في يوم العيد"؛ لأنه يوم فرح بالنسبة لهؤلاء الصغار.

 

ثانياً: أن عائشة -رضي الله عنها- بعد بلوغها تحرم الغناء وآلات الطرب كلها، كما أن تلميذها القاسم بن محمد كان يشدد أشد النكير على هذا الغناء.

 

 

ثالثاً: أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ليستا بمغنيتين" مما يدل على أن هذا الأمر ليس فاشياً ومنتشراً في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم-.

 

رابعاً: أن أبا بكر -رضي الله عنه- كيف له أن يتقدم على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن ينكر إلا ولأنه يعلم بأن هذا الفعل محرم مما علمه من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإلا فكيف يسوغ لأبي بكر -رضي الله عنه- مع جلالة قدره أن يتقدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقول هذا القول؟

 

وذلك لأنه يعلم حرمة هذا الأمر، وإلا فكيف له أن يقول مع أنه ثبت في الصحيحين: "لما أتى النبي -عليه الصلاة والسلام- وأبو بكر -رضي الله عنه- يصلي بالناس، فرجع فلما انصرف عليه الصلاة والسلام قال: "ما منعك يا أبا بكر لما أشرت إليه؟" قال: "ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ".

 

هذا في الصلاة، فكيف يتقدم عليه في هذا الأمر؟

 

خامساً: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- علل الإنكار على أبي بكر بأن هذا اليوم يوم عيد، فلا يقاس غيره عليه، لو قال عليه الصلاة والسلام: "دعهما يا أبا بكر" لكان كما قالوا، لكن قال: "دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا أهل الإسلام".

 

ولذا، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يستمع ولم يرد في الحديث أنه استمع، وإنما غطى نفسه بثوب وغشى نفسه بثوب، فلا يدل على أنه استمع".

 

ففرق بين السماع والاستماع.

 

إذاً لا حجة في هذا الحديث؛ لأن العلة كما هي في الأصول: "تدور مع الحكم وجوداً وعدماً".

 

علل بحكم وهو "أن اليوم عيد" أيعمم في كل الأحوال؟

 

كلا.

 

ثم إن الناظر في الضرب في الدف في الأعياد وفي الأعراس، وإنما يجوز الدف فقط في الأعراس وفي الأعياد وذلك للنساء.

 

بل إن كلام ابن الجوزي يدل على أنه في العيد إنما يكون لغير البالغات، فلم يستثن الشرع إلا الأعراس والأعياد، وإلا فالأصل التحريم والدف هو المغلق من جهة مفتوح من جهة أخرى، أما المغلق من الجهتين، فهو المسمى بالطبل، والطبل لا يجوز في جميع الأحوال، إنما جاء استثناء الشرع بالدف في الأعراس، وفي الأعياد وللنساء؛ لأن الأصل في ضرب الدفوف إنما هو في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم-.

 

وحتى عند العرب في الجاهلية، كان الأصل عندهم أن الذي يضرب بالدف هو النساء، فكيف للرجال أن يصنعوا ذلك وأن يفعلوا ذلك؟ "لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء" كما صح عن النبي -عليه الصلاة والسلام-.

 

ولذلك يقول شيخ الإسلام -رحمه الله- كما في رسالته رسالة "السماع والرقص" قال: "لم يكن من عادة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الغناء ولا آلات اللهو والطرب".

 

لم يكن من عادتهم، ولهذا يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: "ولهذا سماه أبو بكر مع أنه ما رأى إلا الدف سماه مزمور الشيطان، وإنما أقرهما النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه عيد ويرخص في الأعياد في اللعب للصغار ما لا يرخص لغيرهم" انتهى كلامه -رحمه الله-.

 

هذا قول شيخ الإسلام -رحمه الله-، وهو قول ابن القيم في "إغاثة اللهفان"، وهو قول ابن حجر -رحمه الله- في "الفتح".

 

وأما ما استدلوا به من حديث آخر، وهو عند أحمد وأبي داود: "أن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان مع نافع في الطريق وكان على راحلته فسمع زمارة راعي" زمارة، وأين زمارة الراعي البدائية الساذجة القليلة في اللهو؟ أين هي من المعازف في هذا العصر من آلات الموسيقى؟.

 

فيقول نافع: "لما سمع الزمارة وضع ابن عمر -رضي الله عنهما- أصبعيه في أذنيه وعدل براحلته عن الطريق، فكان كلما مشى هنيهة، قال ابن عمر لنافع: أذهب الصوت؟ فيقول: لا، فلما ذهب، قال نافع: ذهب، فيقول ابن عمر: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سمع زمارة راعي صنع مثل هذا".

 

فاستدلوا به على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سمع زمارة راعي لم ينكر عليه.

 

نقول: يا عجب! النبي -عليه الصلاة والسلام- وضع أصبعيه في أذنيه مما يدل على أنه طلب الأكمل والأفضل، لو مر إنسان في طريق وسمع آلات لهو، فإنه إذا لم يلتفت بقلبه إليه ولم يستمع إليه، فلا جناح عليه، لكن الأكمل في حقه أن يضع أصبعيه في أذنيه، حتى لا يسمع شيئاً.

 

ثم أين الدليل على أن هذا الراعي كان قريباً من النبي -عليه الصلاة والسلام-، حتى ينكر عليه؟

 

لربما كان على شظية جبل، أو كان في مكان لا يراه النبي -عليه الصلاة والسلام-، فليست ثمة دليل على ما ذكروا.

 

ومما يُسعد به في هذا المقام ويلذذ به الأسماع في هذا المكان ما جاء في سنن النسائي مما صح عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- أنه قال لعمر بن الوليد لما أظهر بعض المعازف، قال: "وإظهارك المزمار والمعازف بدعة في الإسلام".

 

هذا عمر بن عبد العزيز، هذا سلفنا، قال: "وإظهارك المزمار والمعازف بدعة في الإسلام، ولقد هممت أن أبعث رجلاً يجز جمتك".

 

وهو شعره "لأنها جمة سوء" هذا كلام عمر بن عبد العزيز -رحمة الله عليه-.

 

ثم إني لا أعجب من قضية أهل الحبشة لما لعبوا بالحراب، أهناك دفوف صحبت لعبهم؟ أهناك طبول صحبت لعبهم؟

 

لكن نسأل الله -عز وجل- أن يبصرنا وأن يفقهننا في ديننا.

 

ومما يستدلون به في هذا المقام في إباحة الغناء وآلات اللهو من الطبل وما شابه ذلك؛ ما جاء في مسند الإمام أحمد والترمذي: "أن أمة سوداء لما قدم النبي -عليه الصلاة والسلام- سالماً، قالت: إني نذرت إن ردك الله سالماً أن أضرب على رأسك بالدف، وأن أتغنى، فقال عليه الصلاة والسلام، وهي أمة ليست رجلاً وليست حرة، قال: "إن كنت لم تفعلي" أي لم تنذري "فلا تفعلي، وإن كنت نذرت فافعلي" تطييباً لخاطرها "فضربت بالدف على رأس النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم دخل أبو بكر فضربت بالدف، ثم لما دخل عمر ألقت بالدف وجلست عليه بأستها" أي بمقعدتها "فقال عليه الصلاة والسلام: "إن الشيطان ليفرق منك يا عمر، ضربت هذه بالدف ثم دخل أبو بكر ولم تزل تضرب بالدف، فلما دخلت فَعَلتْ ما فعلت".

 

ليس هناك دليل، لم؟

 

مجيء النبي -صلى الله عليه وسلم- منتصراً سالماً أعظم ما يفرح به، ولا يقاس غيره عليه، لا يفرح بمجيء النبي -صلى الله عليه وسلم- وسلامته بغيره، حتى لا نعمم هذا الحكم في جميع الأفراح.

 

ثم ماذا قال عليه الصلاة والسلام؟

 

قال: "إن الشيطان ليفرق منك يا عمر".

 

مما يدل على أن هذا من الشيطان، ثم في هذا الفعل منها إغاظة للأعداء، ألم يجز النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يختال الإنسان في مشيته في الحرب؟

 

ألم يجز بعض العلماء لبس الذهب، بل لبسه بعض الصحابة في أسلحتهم في الحرب؟

 

ألم يجز النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يوقف على رأسه في صلح الحديبية مع أنه كان ينهى أن يقف أحد، وأن يقوم أحد على رأسه؟

 

كل ذلك في الحرب من أجل ماذا؟

 

من أجل إغاظة الأعداء، فقد يُجَوِز النبي -عليه الصلاة والسلام- بعض المحرمات، وهي مفسدة من أجل أن تحصل مصالح أكبر وأعظم منها.

 

ومن أعظم المصالح: أن يغاظ أعداء الله -عز وجل-.

 

هذا إظهار لفرح الصحابة بمجيء النبي -صلى الله عليه وسلم- وسلامته، قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ)[لقمان: 6].

 

(لَهْوَ الْحَدِيثِ) يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-، الذي قال: "والله لو كنت أعلم أن أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه المطايا لذهبت إليه".

 

كان يحلف بالله أنه ما من أحد أعلم منه بكتاب الله -عز وجل-، ومع ذلك يقول: "إن لَهْوَ الْحَدِيثِ هو الغناء".

 

وقال عكرمة: "إن لَهْوَ الْحَدِيثِ هو الطبل".

 

وكثير من العلماء يقولون: "إنه الغناء بجميع أنواعه".

 

وكذلك صحت العبارة عن ابن مسعود -رضي الله عنه- وعن غيره من السلف: "أن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء العشب".

 

ولذلك عمر بن عبد العزيز لما أتى بأولاده إلى مؤدبهم، قال: "لتكن أول ما تعلمهم أن تنفرهم من الغناء، فإنه بوابة الشيطان، وفي آخره غضب الرحمن".

 

هذا قول عمر بن عبد العزيز -رحمة الله عليه-.

 

يقول ابن القيم -رحمه الله- في كلام طويل أختصره بما يتيسر، يقول رحمه الله: "إن الصحابة لما قالوا: إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء العشب؛ لأنهم كانوا أفقه الناس بالقلوب؛ لأن آلات الطرب اللهو لا تجتمع مع القرآن أبداً، فإن القرآن يأمر بالعفة وينهى عن الفواحش، بينما الغناء بضد ذلك".

 

ولذلك يقول رحمه الله: "إن الغناء أخ وصنو للخمر كما يفعل الخمر بصاحبها كذلك يفعل الغناء".

 

ثم قال رحمه الله: "وإنك لترى الرجل وعليه الوقار والهيبة، وحلاوة الإيمان والإسلام فما أن تراه راقصاً يضرب بمنكبيه، ويخبط بقدميه، ويهز رأسه إلا وترى أن الوقار قد ذهب عنه، وحلاوة الإيمان قد فرت منه" انتهى كلامه -رحمه الله- باختصار وتصرف كثير.

 

نسأل الله -عز وجل- أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد:

 

فيا عباد الله: كنت في خطبة سابقة تحدثت عن الشعر وعن أنواعه، فالشعر كما أسلفت في خطب سابقة بأنه إذا خلا من المحرمات وكان حسن الألفاظ، ولم يغلب على وقت الإنسان فإنه جائز، ومن بينه ما يسمى بـ "النَّصْب" الذي فعله بعض الصحابة -رضي الله عنهم- بإقرار من عمر وعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهما-، وهو أرق من "الحُداء" هي كلمات وألحان تقولها الأعراب أرق من الحداء.

 

هذا الشعر إن خلا مما ذكرت وتوفرت فيه الشروط فإنه جائز.

 

أما إذا غلبت على وقت الإنسان كما يصنع الآن، وتغيرت الأوضاع، والأحوال فيما يسمى بالأناشيد الإسلامية، هذه الأناشيد قبل عشرين سنة، أو ما يشابهها كانت كلمات جميلة، وتدعو إلى الأخلاق، مع خلوها من المعازف، ومن الآهات، ومن الحركات.

 

لكن ما إن تطور الحال بهؤلاء، حتى أصبح البعض منهم ينشد على طريقة المغنين.

 

بل إنه ربما يحرك يديه ويتأوه، ويتأهه ويحرك يديه ورجليه.

 

بل إن البعض قد يصحب أناشيده بمعازف، بدفوف وعمموها في جميع الأحوال، فأصبحت ديدن كثير من الشباب، حتى ألهت كثيراً من الناس عن طاعة الله -عز وجل-.

 

وأخشى أن يصدق على هذه الأناشيد التي ظهرت في هذه الآونة ما كان سلفنا يحذرون منه عند الزنادقة، مما يسمى بـ "التغبير".

 

والتغبير أنكره شيخ الإسلام -رحمه الله-، وأنكره الإمام الشافعي، وذلك؛ لأن هناك أناساً فيما مضى يأتون ببعض القصائد التي تزهد في الدنيا، ثم يضربون بأيديهم، ويصفقون ويضربون على المخاد، وعلى بعض الأماكن، فيصدر منها صوت، ويتغنون بها، فكان السلف -رحمهم الله- يشددون على هذا الأمر أشد النكير، ولذا قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "لم يكن هذا من أصل دين الله -عز وجل- ".

 

فيخشى أن يتطور الأمر بهؤلاء إلى أن يصلوا إلى ما ذمه هؤلاء العلماء المحققون؛ كالشافعي وشيخ الإسلام -رحمه الله-.

 

فليتنبه إلى مثل هذا الأمر.

 

بل إني لأعجب لما سمعت أن بعض هذه الأناشيد أول ما تفعل تصحب ببعض الآلات الموسيقية، ثم إذا ظهرت للناس أخرجوا هذه الآلات فأصبحت تشابه الغناء من سمعها لا يفرق بينها وبين الغناء.

 

بل إن البعض -وللأسف- أصبح يضع صورته على غلاف الشريط مشابهة للمغنين، لا يجوز أن تحاكي الفساق، جاء في معجم الطبراني بإسناد صحيح: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر".

 

لم يشرب شيئا، فكيف به أن يشابه هؤلاء؟

 

ومن يسمع هذه الأناشيد التي صُحِبت بالآهات والحركات والآلات، وهذه التحسينات وغفلة كثير من الشاب بها ليجزم جزما يقينياً بأنها محرمة.

 

وقد أفتى بهذا جماعة من العلماء في هذا العصر.

 

ومما يؤثر ويذكر "أن الصحابة -رضي الله عنهم- لما قدم النبي -عليه الصلاة والسلام- من مكة إلى المدينة في الهجرة أنهم قالوا:

 

طلع البدر علينا *** من ثنيات الوداع

 

إلى آخره..

 

وصحبوا هذا النشيد بالدفوف والألحان" فإنه لم يثبت من حيث السند كما ذكر ذلك الألباني -رحمه الله-.

 

وإني أوصي كل من أراد أن يتوسع في هذا الموضوع أن يرجع إلى كلام الألباني -رحمه الله- في كتابه: "تحريم آلات الطرب"، فقد أفاد وأجاد رحمه الله رحمة الواسعة.

 

الخاتمة...

 

 

 

 

المرفقات

لا خِطام لها ولا سنام

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات