غزوة حنين دروس وعبر

خالد ضحوي الظفيري

2022-10-06 - 1444/03/10
عناصر الخطبة
1/ غزوة حنين وبعض الدروس والعبر المستفادة منها 2/ توزيع النبي -صلى الله عليه وسلم- لغنائم حنين

اقتباس

عباد الله: عاد رسول الله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- من الطائف إلى الجعرانة في مكة، فمكث بها بضعة عشر يوماً لا يقسم الغنائم، يبتغي أن يقدم هوازن تائبين، فيحرزوا أموالهم وسباياهم، وهذا من رحمته صلى الله عليه وسلم فما جاء...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 - 71].

 

أما بعد:

 

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

عباد الله: إن من غزوات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي فيه الكثير من العبر والعظات والدروس المستفادة منها: غزوة حنين؛ فإنه لما تم فتح مكة اجتمعت أشراف قبائل قيس عيلان للشورى في مقدمة هوازن وثقيف، فقالوا: "قد فرغ محمد من قتال قومه، ولا ناهية له عنا، فلنغزوه قبل أن يغزونا".

 

فأجمعوا أمرهم للحرب، واختاروا لقيادتهم مالك بن عوف النصري، فتحشد جمع كبير، ونزلوا بأوطاس، ومعهم نساءهم وذراريهم وأموالهم وأولادهم، وانتقل بالمقاتلين إلى وادي حنين بجانب وادي أوطاس، وأنصب فيه كمائن، وعلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتجمعهم، فخرج من مكة يوم السبت السادس من شهر شوال لسنة ثمان من الهجرة، ومعه اثنا عشر مقاتل، واستعار من صفوان بن أمية مائة درع بأداتها، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد.

 

وفي الطريق رأى المسلمون سدرة عظيمة كانت تعلق عليها العرب أسلحتهم، ويذبحون ويعكفون عندها، يقال لها: ذات أنواط، فقال بعضهم حديث عهد بالإسلام لرسول الله - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط؟ فقال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: "الله أكبر، إنها السنن قلتم كما قالت بنو إسرائيل لموسى:  (اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الأعراف: 138] قال: "لتركبن سنن من كان قبلكم".

 

وهذا فيه تحريم التبرك بالأشجار والأحجار، وأن على الجيش الإسلامي ألا يتساهل في إقامة التوحيد والنهي عن الشرك بالله، وأن إقامة التوحيد من أعظم أسباب النصر على الأعداء.

 

وقال بعضهم نظرا لكثرة الجيش: "لن نغلب اليوم عن قلة".

 

وقال بعضهم نظراً لكثرة الجيش: "لن نغلب اليوم".

 

فشق ذلك على رسول الله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-.

 

فلا يجوز الاعتماد على الكثرة، والاغترار بها، بل العدة والعتاد من الأسباب والأمر بيد الله -عز وجل-.

 

ولما كان في العشية جاءه فارس وأخبره بخروج هوزان بظعنهم ونعمهم وشائهم، فتبسم وقال: "تلك غنيمة المسلمون غداً إن شاء الله".

 

وفي الليلة العاشرة من شهر شوال سنة 8هـ وصل رسول الله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- إلى وادي حنين، فعبأ جيشه سحراً قبل أن يدخل، فأعطى لواء المهاجرين لعلي بن أبي طالب، ولواء الأوس لأسيد بن حضير، ولواء الخزرج للحباب بن المنذر، وأعطي ألوية لقبائل أخرى، ولبس درعين والبيضة والمغفر، ثم بدأت مقدمة الجيش تنحدر بالوادي، وهي لا تعلم بوجود كمائن العدو فيه، بينما هي تنحط فيه إذ العدو يمطر عليهم النبال كأنها جراد منتشر، وشد عليها شدة رجل واحد، فاضطربت مقدمة الجيش بهذه المفاجأة، وانكشف عامة من كان فيها من المسلمين، وتبعهم من كان خلفهم، فصارت هزيمة عامة.

 

حتى قال أبو سفيان بن حرب، وهو حديث عهد بالإسلام: "لا تنتهي هزيمتهم دون البحر".

 

وقال آخر: "ألا بطل السحر اليوم".

 

وانظر إلى أن من وسائل الأعداء: استغلال الإشاعات لنشر الهزيمة في قلوب المسلمين.

 

أما رسول الله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- فثبت في قليل من المهاجرين والأنصار، وطفق يركض بغلته ليتقدم نحو العدو، وهو يقول: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب".

 

وأخذ أبو سفيان بن الحارث بلجام بغلته، والعباس بركابه لئلا يسرع نحو العدو، وانظر إلى شجاعته عليه الصلاة والسلام التي لا نظير لها؛ فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن البغلة، ودعا ربه واستنصره، وهذا فيه أثر الدعاء، وأنه من أعظم أسباب النصر، وأمر العباس، وكان جهوري الصوت: أن ينادي أصحابه، فنادى -وملأ الوادي بصوته-: ألا أين أصحاب السمرة؟ فعطفوا نحو الصوت عطفة البقر على أولادها، يقولون: لبيك، لبيك، حتى إذا اجتمع منهم مائة استقبلوا العدو، واقتتلوا.

 

وصرفت الدعوة إلى الأنصار، ثم إلى بني الحارث بن الخزرج، وتلاحقت كتائب المسلمين، واحدة تلو الأخرى، حتى اجتمع حوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم جمع عظيم، وأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنوداً لم تروها، فكر المسلمون واحتدم القتال، فقال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: "الآن حمي الوطيس"، وأخذ قبضة من تراب فرمي بها وجوه القوم، وقال: "شاهت الوجوه"، فملأ أعينهم تراباً، فلم يزل حدهم كليلاً، وأمرهم مدبراً، حتى تفرقوا وهربوا، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، حتى أخذوا النساء والذراري، وأسروا كثيراً من المحاربين، وجرح يومئذ خالد بن الوليد جراحات بالغة، وأسلم كثير من مشركي مكة لما رأوا من عناية الله برسوله.

 

ولما هرب المشركون تفرقوا ثلاث فرق: فرقة لحقت بالطائف، وهم الأكثر، فرقة لحقت بنخلة، وفرقة عسكرت بأوطاس، فأرسل سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- إلى أوطاس أبا عامر الأشعري، عم أبي موسى الأشعري -رضي الله عنهما- في جماعة من المسلمين، فبددهم، وظفر بما كان معهم من الغنائم، وقد استشهد أبو عامر الأشعري في هذه المعركة، وخلفه أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- فرجع مظفراً منصوراً.

 

وطاردت طائفة من فرسان المسلمين فلول المشركين المنهزمين إلى نخلة، فأدركت دريد بن الصمة، وقتلته.

 

وأمر رسول الله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- بجمع الغنائم والسبي، وكانت نحو أربعة وعشرين ألف بعير، وأكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقيه من الفضة، وستة آلاف سبي؛ فجمع ذلك كله بالجعرانة، وجعل عليها مسعود بن عمرو الغفاري.

 

ثم تقدم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم إلى الطائف، ومر في الطريق بحصن لمالك بن عوف النصري فأمر بهدمه، ولما وصل إلى الطائف وجد العدو قد تحصن به، ومعه قوت سنة، ففرض عليه الحصار، وكان المسلمون نازلين قريباً من العدو، فرشقهم بالنبال حتى أصيب عدد من المسلمون بجراحات، فارتفعوا إلى محل مسجد الطائف اليوم.

 

واختار المسلمون عدة تدابير لإرغام العدو على النزول، ولكنها لم تنجح، وطال الحصار دون جدوى، فقد دام حوالي عشرين يوماً، وقيل شهراً كاملاً.

 

ثم أمر صلى الله عليه وسلم بالرحيل، وطلب بعض المسلمين أن يدعو عليهم فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم اهد ثقيفاً وأت بهم مسلمين"، وتحقق دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك.

 

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.

 

أما بعد:

 

عباد الله: عاد رسول الله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- من الطائف إلى الجعرانة في مكة، فمكث بها بضعة عشر يوماً لا يقسم الغنائم، يبتغي أن يقدم هوازن تائبين، فيحرزوا أموالهم وسباياهم، وهذا من رحمته صلى الله عليه وسلم فما جاء أحد منهم، فأخرج الخمس من الغنيمة، وأعطاها لأناس ضعفاء الإسلام يتـألفهم، ولأناس لم يسلموا بعد، ليحبب إليهم الإسلام؛ حتى شاع بين الناس أن محمداً يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، فازدحم الأعراب يطلبون منه، حتى ألجأوه إلى شجرة، فتعلق بها رداؤه، فقال: "ردوا علي ردائي، فو الذي نفسي بيده لو كان لي عدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخبلاً ولا جباناً ولا كذاباً".

 

ثم أخذ وبرة من سنام بعير، وقال: "والله ما لي من فيئكم، ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخياط والمخيط، فإن الغلول يكون على أهله عاراً وشناراً وناراً يوم القيامة"، فرد الناس ما كانوا أخذوه من الغنيمة، ولو كان شيئاً زهيداً.

 

ثم أمر زيد بن ثابت بتقسيم الغنيمة، ثم رجع بعد ذلك وفقد من هوازن فرد إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نساءهم وأبناءهم، واستغرب الأنصار لما رأوا ما أعطاه الرسول -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- حيث أعطى المؤلفة قلوبهم عطايا جزيلة لا تقاس، ولم يعط الأنصار شيئاً، فقال بعضهم: إن هذا لهو العجب، يعطى قريشاً ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم، فأبلغه ذلك سعد بن عبادة سيد الأنصار، فجمعهم وحدهم، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم ذكر ما تفضل الله به عليهم، ثم ذكرهم ما تفضلوا به عليه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، ثم قال: "يا معشر الأنصار مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ، وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا عَلَيَّ فِي أَنْفُسِكُمْ، ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله؟ وعالة -فقراء- فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بل الله ورسوله أمنّ وأفضل، قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله، ولله ولرسوله المن والفضل، قال: أما والله لو شئتم لقلتم فَلَصَدَقْتُمْ، وَصُدِّقْتُمْ، أتيتنا مُكَذَّبًا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شِعبا، وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا، ثم انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتفرقوا".

 

هكذا كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يقدمون على محبة الله ومحبة رسوله -صلى الله عليه وسلم- شيئا من حطام الدنيا.

 

اللهم ارض عن أصحاب رسولك...

 

اللهم انصر دينك، وأعل كلمتك...

 

 

المرفقات

حنين دروس وعبر

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات