عناصر الخطبة
1/غزة أحد .. تاريخها وأهميتها 2/أثر المعاصي في النصر والهزيمة 3/خطورة إيثار الدنيا على الآخرة 4/ويتخذ منكم شهداء 5/قصص بعض شهداء أحداقتباس
إنها الغزوة التي وقعت في الخامس عشر من شهر شوال، من السنة الثالثة من الهجرة، قال ابن إسحاق: "كان أحد يوم السبت للنصف من شوال". إنها الغزوة التي أنزل الله على إثرها آيات تتلى إلى يوم الدين، فنزلت ثمان وخمسون آية من سورة آل عمران، تتحدث عن هذه الغزوة. غزوة أحد؛ التي فيها...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي اصطفى لمحبته الأخيار، فصرف قلوبهم في طاعته ومرضاته آناء الليل وأطراف النهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مقلب القلوب والأبصار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأطهار، وعلى جميع أصحابه الأخيار، ومن سار على نهجهم ما أظلم الليل وأضاء النهار.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أما بعد:
عباد الله: سنقف وإياكم في هذه الدقائق الغالية مع غزوة من غزوات المصطفى –صلى الله عليه وسلم-.
إنها الغزوة التي وقعت في الخامس عشر من شهر شوال، من السنة الثالثة من الهجرة، قال ابن إسحاق: "كان أحد يوم السبت للنصف من شوال".
إنها الغزوة التي أنزل الله على إثرها آيات تتلى إلى يوم الدين، فنزلت ثمان وخمسون آية من سورة آل عمران، تتحدث عن هذه الغزوة.
إنها غزوة أحد؛ التي تعلّم منها المسلمون أنه ينبغي أن تكون الشدائد والمحن في كل زمان فيصلا لتمييز المؤمنين، وفضح المنافقين.
غزوة أحد؛ التي فيها دروس للأمة جمعاء، في حياتها ومعاملاتها، ولعل دروس النكبات والهزائم أعظم أثرا من غيرها في كل وقت وحين.
غزوة أحد؛ مع ما وقع فيها من الكوارث والنكبات، وما حوته من النوازل والأزمات، إلا أنه يصدق فيها قوله تعالى: (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) [النــور: 11].
سنقف وإياكم مع دروس وعبر من هذه الغزوة المباركة التي كان لها الأثر البالغ في حياة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وحياة الصحابة، وسيكون لها مثل ذلك التأثير لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
فهيا لنعيش مع هذه الدروس العبر.
1- أثر المعاصي في النصر والهزيمة: في غزوة أحد ظهر أثر المعصية والفشل والتنازع في تخلف النصر عن الأمة، فبسبب معصية واحدة خالف فيها الرماة أمر النبي –صلى الله عليه وسلم-، وبسب التنازع والاختلاف حول الغنائم، ذهب النصر عن المسلمين بعد أن انعقدت أسبابه، ولاحت بوادره، فقال سبحانه: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 152].
فكيف ترجو أمة عصت ربها، وخالفت أمر نبيها، وتفرقت كلمتها أن يتنزل عليها نصر الله وتمكينه؟.
وبالمعاصي تدور الدوائر، ففاضت أرواح في تلك الغزوة بسبب خطيئة، وخرج آدم من الجنة بمعصيته، و"دخلت امرأة النار في هرة" فما الذي أهلك الأمم السابقة، وطمس الحضارات البائدة، سوى الذنوب والمعاصي: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت: 40].
يقول بعض أهل العلم: يا سبحان الله! رماة خالفوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والموت على رءوسهم، وأنت تخالف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في اليوم والليلة عشرات المرات ولا تخشى.
فالمعاصي سبب كل عناء، وطريق كل شقاء، ما حلت في ديار إلا أهلكتها، ولا فشت في مجتمعات إلا دمرتها وأزالتها، وما أهلك الله -تعالى- أمه إلا بذنب، وما نجى وما فاز من فاز إلا بتوبة وطاعة.
قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41].
وقال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى: 30].
المعصية عذاب، المعصية وحشة، المعصية حتى ولو كانت صغيرة مع الإصرار عليها تعمي البصيرة، وتسقط الكرامة، وتوجب القطيعة، وتمحق البركة، ما لم يتب العبد ويرجع خائفاً وجلاً.
رأيت الذنوب تُميت القلوب *** وقد يُورث الذُل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب *** وخيرٌ لنفسك عصيانها
قال مجاهد رحمة الله: "إن البهائم لتلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة، وأمسك المطر، وتقول: هذا شؤمه معصية بني آدم" ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تأمل -يا رعاك الله- قول الحق سبحانه: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 165].
فالزم -يا عبد الله- الطاعة والعبودية، يؤخذ بيدك في المضايق، وتُفْرَج لك الشدائد، ولا تجعل أعمالك جُنداً عليك، يزداد بها عدوك قوة عليك.
الدرس الثاني من هذه الغزوة: خطورة إيثار الدنيا على الآخرة: وهذه الغزوة تعلمنا كذلك خطورة إيثار الدنيا على الآخرة، وأن ذلك مما يفقد الأمة عون الله ونصره وتأييده، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "ما كنت أرى أحداً من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد: (مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ)[آل عمران: 152].
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء"[مسلم، رقم 2742].
قال ابن عباس –رضي الله عنهما-: "لما هزم الله المشركين يوم أحد، قال الرماة: "أدركوا الناس ونبي الله، لا يسبقوكم إلى الغنائم، فتكون لهم دونكم" وقال بعضهم: "لا نبرح حتى يأذن لنا النبي -صلى الله عليه وسلم-، فنزلت: (مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ)[آل عمران: 152].
وفي ذلك درس عظيم للناس كافة، وللدعاة خاصة، يبين أن حب الدنيا، والتعلق بها قد يتسلل إلى قلوب أهل الإيمان والصلاح، وربما خفي عليهم ذلك، فآثروها على ما عند الله، مما يوجب على المرء أن يتفقد نفسه، وأن يفتش في خباياها، وأن يزيل كل ما من شأنه أن يحول بينها وبين الاستجابة لأوامر الله ونواهيه.
وقد وردت نصوص عديدة من آيات وأحاديث؛ تبين منزلة الدنيا عند الله، وتصف زخارفها، وأثرها على فتنة الإنسان، وتحذر من الحرص عليها، قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) [آل عمران: 14].
وقد حذر الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- أمته من الاغترار بالدنيا، والحرص الشديد عليها في أكثر من موضع، وذلك لما لهذا الحرص من أثره السيئ على الأمة عامة، وعلى من يحملون لواء الدعوة خاصة.
الدرس الثالث: ويتخذ منكم شهداء: من الحكم: إكرام الله بعض عباده بنيل الشهادة، التي هي من أعلى المراتب والدرجات، فأراد عز وجل أن يتخذ من عباده شهداء تراق دماؤهم في سبيله، ويؤثرون محبته ورضاه على نفوسهم، ومن هؤلاء الشهداء:
1- مصعب بن عمير –رضي الله عنه-: قال خباب –رضي الله عنه-: "هاجرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نبتغي وجه الله، فوقع أجرنا على الله فمنا من مضى في سبيله ولم يأكل من أجره شيئًا، منهم مصعب بن عمير قُتل يوم أحد، ولم يترك إلا نمرة، كنا إذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "غطوا رأسه، واجعلوا على رجليه الإذخر" ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها، ومن حديث عبد الرحمن بن عوف أنه أتى بطعام وكان صائمًا، فقال: قتل مصعب بن عمير، وكان خيرًا مني، فلم يوجد له ما يُكفن فيه إلا بردة، وقتل حمزة أو رجل آخر خير مني، فلم يوجد له ما يكفن فيه، إلا بردة، لقد خشيت أن يكون قد عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا، ثم جعل يبكي.
ومن حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين انصرف من أُحد مر على مصعب بن عمير، وهو مقتول على طريقه، فوقف عليه ودعا له، ثم قرأ هذه الآية: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب: 23] ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه"[المستدرك 3/200، صحيح الإسناد ووافقه الذهبي].
2- سعد بن الربيع -رضي الله عنه-: هذا الذي استكتمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خبر مسير قريش، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحبه، فلما انتهت معركة أحد، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من رجل ينظر ما فعل سعد بن الربيع أفي الأحياء هو أم في الأموات"؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد رأى الأسنة شرعت إليه، فقال أبي بن كعب –رضي الله عنه-.
وفي رواية زيد بن ثابت –رضي الله عنه-: أنا أنظره لك يا رسول الله، فقال له: "إن رأيت سعد بن الربيع فأقرأه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-كيف يجدك؟" فنظر أبي فوجده جريحًا به رمق، فقال له: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات، فقال: قد طُعنت اثنتي عشرة طعنة، وقد أنفذت إلى مقاتلي.
وفي رواية صحيحة قال: "على رسول الله، وعليك السلام، قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفيكم شفر يطرف، قال: وفاضت نفسه". وهذا النصح لله ولرسوله في سكرات الموت يدل على قوة الإيمان، والحرص على الوفاء بالبيعة لم يتأثر بالموت ولا آلام القروح.
3- عبد الله بن جحش –رضي الله عنه-: قال سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: إن عبد الله بن جحش، قال له يوم أحد: ألا تدعو الله، فخلوا في ناحية، فدعا سعد، فقال: يا رب إذا لقيت العدو، فلقِّني رجلاً شديدًا بأسه، شديدًا حرده، أقاتله ويقاتلني، ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتله، وآخذ سلبه، فأمن عبد الله بن جحش، ثم قال: "اللهم ارزقني رجلاً شديدًا حرده، شديدًا بأسه، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدًا، قلت: من جدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول صدقت" قال سعد: يا بني كانت دعوة عبد الله بن جحش خيرًا من دعوتي، لقد رأيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه لمعلقان في خيط وفي هذا الخبر جواز دعاء الرجل أن يقتل في سبيل الله، وتمنيه ذلك وليس هذا من تمني الموت المنهي عنه [زاد المعاد: 3/212].
4- أَنَسِ بْنِ النّضْرِ -رضي الله عنه-: ولما انهزم الناس وأشيع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قُتل لم ينهزم أنس بن النضر، وقال: "اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني المسلمين وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين" ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أين يا أبا عمر؟ فقال أنس: واهاً لريح الجنة يا سعد إني أجده دون أحد، ثم مضى، فقاتل القوم حتى قتل فما عرف حتى عرفته أخته ببنانه وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم [أخرجه البخاري 7/ 274 في المغازي: باب غزوة أحد].
5- حنظلة بن أبي عامر -رضي الله عنه- "غسيل الملائكة": لما انكشف المشركون ضرب حنظلة فرس أبي سفيان بن حرب فوقع على الأرض، فصاح حنظلة يريد ذبحه، فأدركه الأسود بن شداد، ويقال له ابن شعوب، فحمل على حنظلة بالرمح فأنفذه ومشى إليه حنظله بالرمح وقد أثبته، ثم ضرب الثانية فقتله، فذكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إني رأيت الملائكة تغسله بين السماء والأرض بماء المزن، في صحاف الفضة" فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فاسألوا أهله ما شأنه؟" فسألوا صاحبته عنه، فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فلذلك غسلته الملائكة".
وفي رواية الواقدي: وكان حنظلة بن أبي عامر تزوج جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول، فأدخلت عليه في الليلة التي في صبحها قتال أحد، وكان قد استأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبيت عندها فأذن له، فلما صلى بالصبح غدا يريد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولزمته جميلة فعاد فكان معها، فأجنب منها ثم أراد الخروج، وقد أرسلت قبل ذلك إلى أربعة من قومها فأشهدتهم أنه قد دخل بها، فقيل لها بعدُ: لم أشهدت عليه؟ قالت: رأيت كأن السماء فرجت فدخل فيها حنظلة ثم أطبقت، فقلت: هذه الشهادة، فأشهدت عليه أنه قد دخل بها، وفي تعلق جميلة بنت عبد الله بن أبي حنظلة بن أبي عامر حين رأت له تلك الرؤيا التي فسرتها بالشهادة، فالمظنون في مثل هذه الحال أن تحاول الابتعاد عنه حتى لا تحمل منه فتكون بعد ذلك غير حظية لدى الخطاب، لكنها تعلقت به رجاء أن تحمل منه فتلد ولدًا ينسب لذلك الشهيد الذي بلغ درجات عليا في الصلاح أولاً، ثم بما ترجوه من نيله الشهادة، ولقد حصل لها ما أملت به فحملت منه وولدت ولدًا ذكرا سمي عبد الله، وكان له ذكر بعد ذلك، وكان من أعلى ما يفتخر به أن يقول: أنا ابن غسيل الملائكة.
عباد الله: بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المؤمنين فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
عباد الله: ومن شهداء أحد: 6- عبد الله بن عمرو بن حرام -رضي الله عنه-: رأى عبد الله بن عمرو رؤية في منامه قبل أحد، قال: رأيت في النوم قبل أحد، مبشر بن عبد المنذر يقول لي: أنت قادم علينا في أيام، فقلت: وأين أنت؟ فقال: في الجنة نسرح فيها كيف نشاء، قلت له: ألم تقتل يوم بدر؟ قال: بلى ثم أحييت، فذكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: هذه الشهادة يا أبا جابر، وقد تحققت تلك الرؤيا بفضل الله ومنه.
أصر عبد الله بن عمرو بن حرام على الخروج في غزوة أحد، فخاطب ابنه جابر بقوله: يا جابر، لا عليك أن تكون في نظاري المدينة حتى تعلم إلى ما يصير أمرنا، فإني والله لولا أني أترك بنات لي بعدي لأحببت أن تقتل بين يدي.
وقال لابنه أيضا: "ما أراني إلا مقتولاً في أول من يقتل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإني لا أترك بعدي أعز علي منك غير نفس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإن على دينًا فاقض واستوص بأخواتك خيرًا"، وخرج مع المسلمين ونال وسام الشهادة في سبيل الله، فقد قتل في معركة أحد، وهذا جابر يحدثنا عن ذلك حيث يقول: لما قُتل أبي يوم أحد، جعلت أكشف عن وجهه وأبكي، وجعل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهوني وهو لا ينهاني، وجعلت عمتي تبكيه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تبكين أو لا تبكين ما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها حتى رفعتموه"[البخاري رقم 1351].
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا جابر ما لي أراك منكسرًا؟" قال: يا رسول الله، استشهد أبي وترك عيالاً ودينًا، قال صلى الله عليه وسلم: "أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟" قال: بلى يا رسول الله، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما كلَّم الله أحدًا قط إلا من وراء حجاب، وكلم أباك كفاحًا، يا جابر: أما علمت أن الله أحيا أباك؟ فقال: يا عبدي، تمنَّ عليّ أعطك، قال: يا رب تحييني فأُقتل فيك ثانية، فقال الرب -سبحانه-: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، قال: يا رب، فأبلغ من ورائي" [صحيح ابن ماجة للألباني، رقم 190 "2800"] فأنزل الله -تعالى-: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران: 169].
7- عمرو بن الجموح -رضي الله عنه-: كان عمرو بن الجموح -رضي الله عنه- أعرجا شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الأُسْد يشهدون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المشاهد، وهم خلاد ومعوذ ومعاذ وأبو أيمن، فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه، وقالوا: إن الله –عز وجل- قد عذرك، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: إن بنيّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه وللخروج معك فيه، فو الله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما أنت فقد عذرك الله -تعالى- فلا جهاد عليك" وقال لبنيه: "ما عليكم ألا تمنعوه، لعل الله أن يرزقه الشهادة" فخرج وهو يقول مستقبل القبلة: "اللهم لا تردني إلى أهلي خائبًا فقتل شهيدًا".
وفي رواية: أتى عمرو بن الجموح -رضي الله عنه- إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل، أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة، وكانت رجله عرجاء، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نعم" فقتلوه يوم أحد هو وابن أخيه ومولى لهم، فمر بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجُعلوا في قبر واحد.
اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، وبطاعتك عن معصيتك.
اللهم قوِ إيماننا، وارفع درجاتنا، وتقبل صلاتنا يا رب العالمين.
هذا، وصلوا وسلموا على البشير النذير، والسراج المنير، محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعلى وصحبه من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم