عناصر الخطبة
1/ فضل يوم الجمعة 2/ مكانة صلاة الجمعة 3/ آداب صلاة الجمعة 4/ أحكام صلاة الجمعة 5/ المسلمون اليوم وصلاة الجمعةاقتباس
ومن شاهد واقع المسلمين في هذا الزمن وجد أنهم قد فرطوا في أجور عظيمة بسبب ضعف الإيمان واليقين، والكسل عن الطاعات، والإقبال على الشهوات، والسهر على الحرام وفضول الكلام؛ فجوامع المسلمين يوم الجمعة تكاد تخلو من المصلين إلى قرب دخول الخطيب، وكثير من المصلين لا يدرك فضل تقريب دجاجة ولا بيضة، وقليل جدا من يدرك فضل تقريب بدنة أو بقرة ..
الحمد لله؛ فتَح أبواب الخير والرشاد لعباده، وأجزل لهم الثواب على أعمالهم، فهو الغني الحميد، الجواد الكريم، لا تنفد خزائنه، ولا ينقطع عطاؤه، (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ، وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 96]، نحمده حمدا يليق بجلاله وعظيم سلطانه، ونشكره فهو أهل الشكر، وقد تأذن للشاكرين بالمزيد من عطائه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أعلم الخلق بالله تعالى وبما يقربهم إليه، وأرحم الناس بالناس، وأنصحهم وأرأفهم وأحرصهم عليهم، (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128]. صَلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، ترضى الله تعالى عنهم في كتاب يتلى إلى آخر الزمان، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم، وصلوا خمسكم، وأدوا ما افترض عليكم، واجتنبوا ما عنه نهاكم، وأخلصوا له في أعمالكم؛ فإنكم مأمورون بذلك كما أُمِر به من كانوا قبلكم، (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ) [البيِّنة: 5].
أيها الناس: يوم الجمعة يوم عظيم، اختص الله تعالى به هذه الأمة، فدلها عليه، وأضلته اليهود والنصارى، واجتمع فيه من الخصائص والفضائل ما لم يجتمع في غيره من الأيام، فكان أفضل الأيام؛ كما جاء في حديث أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عليه الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ" رواه مسلم.
وهذه الصلاة العظيمة هي أعظم شعيرة ميَّزت هذا اليوم المفضل عند الله تعالى، وقد أمر الله تعالى بالسعي إليها في كتابه العزيز فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الجمعة: 9].
وهي فرض على عقلاء الرجال الأحرار البالغين المستوطنين القادرين، ومن ترك ثلاث جمعات بلا عذر خُتم على قلبه كما جاء في الحديث، وهمَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُحَرِّق على المتخلفين عنها بيوتهم، مما يدل على كبير قدرها، وعظيم مكانتها في الشريعة.
ولما كان هذا هو شأنها، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- ندب إلى جملة من الأعمال قبلها تهيئ المسلم لها، وتعينه على الخشوع فيها، فأمر بالغسل لصلاة الجمعة؛ لما في الغسل من النشاط، وكمال التطهر، وإزالة الروائح المؤذية، فلا يتضايق هو منها، ولا يؤذي غيره بها. روى ابنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا جاء أحدكم الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ" رواه الشيخان. وروى مسلم عن أبي سَعِيدٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الْغُسْلُ يوم الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ على كل مُحْتَلِمٍ".
ولا يحل للمسلم أن يؤذي إخوانه في المساجد بالروائح الكريهة في جسمه أو فمه أو ثوبه؛ لما روت عَائِشَةُ رضي الله عنها أنها قالت: كان الناس يَنْتَابُونَ الْجُمُعَةَ من مَنَازِلِهِمْ من الْعَوَالِي فَيَأْتُونَ في الْعَبَاءِ وَيُصِيبُهُمْ الْغُبَارُ فَتَخْرُجُ منهم الرِّيحُ، فَأَتَى رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- إِنْسَانٌ منهم وهو عِنْدِي فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هذا" وفي رواية: "لو اغْتَسَلْتُمْ يوم الْجُمُعَةِ". رواه مسلم.
ويوم الجمعة عيد من أعياد المسلمين، فشُرع للمسلم فيه النظافة والتجمل بالثياب، والتطيُّب، والسِّواك، والادِّهان؛ لأن ذلك أدعى لحضور قلبه وخشوعه حال الخطبة والصلاة؛ ذلك أن الروائح الطيبة تدخل السرور على القلوب، وتهيئ النفوس للاستماع؛ كما أن الروائح الكريهة تؤذي النفوس، وتصدها عن الاستماع إلى الخطبة، وقد جاء في حديث أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ على كلِ مُحْتَلِمٍ، وَسِوَاكٌ، وَيَمَسُّ من الطِّيبِ ما قَدَرَ عليه" رواه مسلم. وفي حديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ هذا يَوْمُ عِيدٍ جَعَلَهُ الله لِلْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ جاء إلى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ، وَإِنْ كان طِيبٌ فَلْيَمَسَّ منه، وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ" رواه ابن ماجه.
ولو جعل المسلم يوم الجمعة ميقاتا لتقليم أظافره، وقص شاربه، وإزالة ما أُمر به من شعر جسده، لكان ذلك أبلغ في النظافة، وأكمل في الزينة، ويؤجر على قصده به التجمل للجمعة، وقد صح عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه كان يقلِّم أظفاره ويقص شاربه في كل جمعة. رواه البيهقي.
وأما لبس أحسن الثياب فجاء فيه حديث ابن عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ فقال: يا رَسُولَ الله! لو اشْتَرَيْتَ هذه فَلَبِسْتَهَا يوم الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ إذا قَدِمُوا عَلَيْكَ. رواه الشيخان. وفي سنن أبي داود: أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما على أَحَدِكُمْ إن وَجَدَ أَنْ يَتَّخِذَ ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ".
والمشي إلى الجمعة أفضل من الركوب؛ لما روى أَوْسُ بن أَوْسٍ الثَّقَفِيُّ -رضي الله عنه- قال: سمعت رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول "من غَسَّلَ يوم الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ، ثُمَّ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَمَشَى ولم يَرْكَبْ، وَدَنَا من الْإِمَامِ فَاسْتَمَعَ ولم يَلْغُ، كان له بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ، أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا" رواه أهل السنن وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.
والسُنة أن يبكِّر إلى المسجد ما استطاع، ويسابق على الصف الأول، وعلى القرب من الإمام؛ لما في ذلك من الأجر العظيم، والثواب الجزيل؛ فقد جاء في حديث سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رضي الله عنه قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يوم الْجُمُعَةِ وَيَتَطَهَّرُ ما اسْتَطَاعَ من طُهْرٍ، وَيَدَّهِنُ من دُهْنِهِ أو يَمَسُّ من طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فلا يُفَرِّقُ بين اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي ما كُتِبَ له، ثُمَّ يُنْصِتُ إذا تَكَلَّمَ الْإِمَامُ، إلا غُفِرَ له ما بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى" رواه البخاري.
وفي حديث أبي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من اغْتَسَلَ يوم الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بدنة، وَمَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فإذا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتْ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ" رواه الشيخان.
إنَّهُ لَشرفٌ عظيمٌ للمُصلِّين أن تقف ملائكة الرحمن بصحفهم على أبواب المساجد يوم الجمعة، ليس لهم شُغل إلا تسجيل حضور الحاضرين إلى الجُمَعِ، وتبكير المبكرين إلى الجوامع، فما قيمة الإنسان ومقامه حتى يحظى بهذا الشرف العظيم، لولا فضل الله تعالى عليه بالهداية، والإيمان، والتكريم، والرفعة؟!.
فإذا اتخذ المسلم مكانه في الصف أدَّى تحية المسجد، واشتغل بما ينفعه من القُرَبِ والطاعات، فإن كان قارئا قرأ ما تيسر من القرآن، ويجدر به أن يبدأ بسورة الكهف؛ لئلا ينسى قراءتها فيفوته فضلها في الجمعة، وإن كان لا يقرأ اشتغل بالتسبيح والتحميد، والتكبير والتهليل، والاستغفار والدعاء، فإن كانت الصلاة أنشط له، وأكثر حضورا لقلبه، صلى ما كُتب له، وذلك أفضل؛ لأن الصلاة يجتمع فيها القراءة والذكر والدعاء، وعبادات القلب واللسان والجوارح؛ ولما جاء في حديث سلمان -رضي الله عنه- وفيه: "ثُمَّ يُصَلِّي ما كُتِبَ له، ثُمَّ يُنْصِتُ إذا تَكَلَّمَ الْإِمَامُ" رواه البخاري.
وليس قبل الجمعة صلاة مرتبة، وإنما يصلي ما شاء، ولا يُنهى عن الصلاة فيها إذا انتصف النهار كسائر الأيام، وهذا من خصائصها.
فإذا قعد الإمام على المنبر تابع الحضور المؤذن، ثم أنصتوا للخطبة، فإن دخل أحدهم والإمام يخطب فلا يتخطى الرقاب للنهي عن ذلك، ويقصد أقرب فرجة، ويصلى ركعتين، ثم ينصت للخطبة؛ لحديث جَابِرٍ -رضي الله عنه- قال: "جاء رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ الناس يوم الْجُمُعَةِ فقال: أَصَلَّيْتَ يا فُلَانُ؟ قال: لَا، قال: قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ" متفق عليه.
واشتغالهم عن الإنصات للخطيب بقول أو فعل لغو يذهب أجر الجمعة؛ ففي النهي عن القول حديث أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يوم الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ" رواه الشيخان. وفي النهي عن الفعل قول النبي -صلى الله عليه وسلم- "... وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا" رواه مسلم.
وكل جلسة تكشف العورة، أو تجلب النوم، فينبغي للمنصت اجتنابها؛ لأن النوم يحول بينه وبين الانتفاع بالخطبة، وهي زاد الأسبوع، ومن فاته زاده من الموعظة والتذكير فحريٌّ أن يقسو قلبه، وتثقل عن العبادة نفسه؛ ولذا جاء النهي عن الحبوة والإمام يخطب؛ لأنها جلسة تجلب النوم، وقد تكشف العورة.
وكل هذا لتعظيم أمر الخطبة والانتفاع بها، فواجب على الخطباء أن يولوها عنايتهم في التحضير والإعداد والإلقاء، وواجب على المصلين أن ينصتوا لها، وينتفعوا بها، ويكون حالهم بعدها أحسن من حالهم قبلها.
نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يوفقنا للعمل بما علمنا، وأن يرزقنا الإخلاص، وحسن الاتِّباع، إنه سميع قريب مجيب.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [البقرة: 203].
أيها المسلمون: إذا أدى المسلم صلاة الجمعة فليستشعر نعمة الله تعالى بفرضها وهدايته إليها، وإعانته عليها، وانتفاعه بها، فكم من محرومين حُرموا نفعها وأجرها، ولا يعرف مقدار نعمة الله تعالى إلا من فقدها بعد أن ذاقها.
وللمسلم بعد صلاة الجمعة الانتشار في الأرض؛ لتحصيل مصالحه بعد أن أدى فريضة ربه (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ الله وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الجمعة: 10].
وجاء عن عراك بن مالك -رضي الله عنه- أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: "اللهم إني أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني؛ فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين".
وللجمعة سنة بَعدية ينبغي للمسلم أن يحافظ عليها، وهي أربع ركعات أمرنا بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا صلى أحدكم الْجُمُعَةَ فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعًا" رواه مسلم. وجاء في حديث ابن عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- كان لَا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ حتى يَنْصَرِفَ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ. رواه الشيخان.
فمن صلى في المسجد أربعا أصاب السنة القولية التي أمره بها النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك أفضل، ومن صلى ركعتين في المنزل أصاب السنة الفعلية التي فعلها النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ولا يَصِل السُنة بالفريضة، بل يفصل بينها بذكر أو كلام أو حركة؛ لحديث معاوية -رضي الله عنه- قال: إذا صَلَّيْتَ الْجُمُعَةَ فلا تَصِلْهَا بِصَلَاةٍ حتى تَكَلَّمَ أو تَخْرُجَ فإن رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- أَمَرَنَا بِذَلِكَ: أَنْ لَا تُوصَلَ صَلَاةٌ بِصَلَاةٍ حتى نَتَكَلَّمَ أو نَخْرُجَ. رواه مسلم.
أيها الإخوة: كل هذه الآداب والأحكام التي شرعها الشارع الحكيم سبحانه للجمعة دليل على أهميتها ومكانتها في دين الله تعالى، وواجب على المسلم أن يعظم ما عظمته الشريعة، وأن يصرف له من الهمة والعناية ما يليق به، ولا سيما أن هذه الأحكام والآداب قد رُتب عليها أجور عظيمة يستحقها من أتى بها، مخلصا لله تعالى فيها، متبعا لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ومن شاهد واقع المسلمين في هذا الزمن وجد أنهم قد فرطوا في أجور عظيمة بسبب ضعف الإيمان واليقين، والكسل عن الطاعات، والإقبال على الشهوات، والسهر على الحرام وفضول الكلام؛ فجوامع المسلمين يوم الجمعة تكاد تخلو من المصلين إلى قرب دخول الخطيب، وكثير من المصلين لا يدرك فضل تقريب دجاجة ولا بيضة، وقليل جدا من يدرك فضل تقريب بدنة أو بقرة، وقد جاء في حديث سَمُرَةَ بن جُنْدُبٍ رضي الله عنه أَنَّ نَبِيَّ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "احْضُرُوا الذِّكْرَ، وَادْنُوا من الْإِمَامِ، فإن الرَّجُلَ لَا يَزَالُ يَتَبَاعَدُ حتى يُؤَخَّرَ في الْجَنَّةِ، وَإِنْ دَخَلَهَا" رواه أبو داود وصححه الحاكم.
قال الطيبي -رحمه الله تعالى-: ((أي لا يزال الرجل يتباعد عن استماع الخطبة وعن الصف الأول الذي هو مقام المقربين حتى يؤخر إلى آخر صف المتسفلين، وفيه توهين أمر المتأخرين، وتسفيه رأيهم، حيث وضعوا أنفسهم من أعالي الأمور إلى سفسافها)). اهـ.
والمتأخر عن الجمعة ينبغي الإنكار عليه؛ ليرتدع عن تأخره، وذات مرة تأخر عثمان بن عفان عن الجمعة حتى صعد عمر -رضي الله عنه- المنبر، فأنكر عمر عليه أمام الناس؛ كما روى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ بَيْنَا هو يَخْطُبُ الناس يوم الْجُمُعَةِ دخل رَجُلٌ من أَصْحَابِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَنَادَاهُ عُمَرُ: أَيَّةُ سَاعَةٍ هذه؟ فقال: إني شُغِلْتُ الْيَوْمَ فلم أَنْقَلِبْ إلى أَهْلِي حتى سمعت النِّدَاءَ، فلم أَزِدْ على أَنْ تَوَضَّأْتُ. قال عُمَرُ: وَالْوُضُوءَ أَيْضًا؟ وقد عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- كان يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ؟!. رواه الشيخان.
وفي رواية للبخاري : فقال عُمَرُ رضي الله عنه: لِمَ تَحْتَبِسُونَ عن الصَّلَاةِ؟! وفي رواية لمسلم أن المتأخر كان عُثْمَانَ بن عَفَّانَ -رضي الله عنه- فَعَرَّضَ بِهِ عُمَرُ فقال: ما بَالُ رِجَالٍ يَتَأَخَّرُونَ بَعْدَ النِّدَاءِ. قال النووي -رحمه الله تعالى-: فيه الإنكار على مخالف السنة وإن كان كبير القدر، وفيه جواز الإنكار على الكبار في مجمع من الناس.
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: وفي هذا الحديث من الفوائد: تفقد الإمام رعيته، وأمره لهم بمصالح دينهم، وإنكاره على مَن أخلَّ بالفضل وإن كان عظيم المحل، ومواجهته بالإنكار ليرتدع من هو دونه بذلك، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أثناء الخطبة لا يفسدها.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم