عهد المظالم والهزائم

محمد الغزالي

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ ذكرى هزيمة 67م 2/ هزيمة للمسيطرين على الحكم وليست للشعوب 3/ الخصائص الأصيلة للشعب المصري 4/ مقاومة أهل رشيد للإنجليز 5/ الفجوة العميقة بين الشعاب وحكامها 6/ فائدة من قصة الأبرص والأقرع والأعمى 7/ ضرورة الهزيمة في حرب 67م 8/ الفارق بين هزيمة يونيو وهزيمة أُحُد 9/ ضرورة رد الهجمات الجماعية بدفاعات جماعية

اقتباس

كانت بقايا الإيمان فعلاً ترشح الأمة لأن تنجو من كبوتها، لكن الذي حدث في سنة 1967م كان شيئًا لابد منه، كان لابد أن يفتضح الغرور، وأن ينكشف الجهل، وأن تتضح أمام أنفس الناس الهالات التي زورت، والقامات التي تطاولت، وما يغيظني في الدنيا شيء كهذا اللون من الادعاء، فعندما تقع أزمَّة البلاد في أيدي...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدًا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين.

 

أما بعد:

 

فإن الناس يستقبلون في الأيام الأولى من هذا الشهر -بالتقويم الميلادي- ذكرى كئيبة، تسود لها وجوه، وتنكس بها رؤوس، ويشيع معها جو من الأسى والعجب، وذلك أن العرب لحقت بهم هزائم شنعاء في هذه الأيام الأولى من هذا الشهر، وهي هزائم يريد العدو أن يبني عليها أشياء خطيرة، يريد العدو بها أن يصف نفسه بأنه عدو ذو بأس شديد، وعزم حديد، وقدرة خارقة.

 

ويصف بعد ذلك العرب والمسلمين بأنهم شعوب في طريق التلاشي، وأنهم أمم قد أخذت تفقد خصائص الحياة، وأن ما نزل بها من هزائم إنما كان تسجيلاً لما تستحق من إدبار أمرها، وسقوط ألويتها.

 

والأمر على هذا النحو لا يمكن أن نسكت عليه، ولا أن نستطيع أمام ربنا أن ندع الأكاذيب تربو وتنمو مع صمت من يعرفون الحقائق، أريد أن أقول -معتصمًا بالله-: إن الهزائم التي وقعت لم تكن هزائم للأمة الإسلامية، ولم تكن هزائم للجيوش العربية، لكنها كانت هزائم لطراز معين من الحكم، ولون معين من الرجال، ونوع معين من الخطط.

 

أما بالنسبة لنا -نحن المصريين- فإني خبير بالشعب المصري والجيش المصري، وينبغي أن أقول: إن أعداءنا يريدون أن نفقد ثقتنا بأنفسنا، وأن تشيع الأكاذيب التي روجوا لها، وبنوا عليها، وما ينبغي أن نستسلم لهذه الخطة.

 

إن ما وقع من هزائم لا يمكن إنكاره، ولكنه لم يكن هزيمة للجيش ولا للشعب، إنما كان هزيمة لعصابة من الناس وقعت أزمَّة الحكم في أيديها فآذت الله ورسوله، وأهانت المؤمنين، وتركت وراءها هذا الدمار المادي والأدبي ينال من كرامتنا، ومن حقيقتنا.

 

الجيش المصري سبقت له مواقف في التاريخ لا تنكر، فهو الذي هزم الصليبيين في حطين وغير حطين، وهو الذي هزم التتار في عين جالوت وغير عين جالوت، واستطاع فلاح تركي اسمه محمد علي بهذا الجيش من المصريين أن يمد حدود مصر حتى الجزائر غربًا، وحتى منابع النيل جنوبًا، وحتى الخليج العربي شرقًا، وحتى القسطنطينية وداخل جزر اليونان وشبه جزيرة الموره شمالاً. الجيش جيش محترم يوم يرزق قيادة محترمة، لكن يوم تقع أزمَّته في أيدٍ غبية فإنه سينهار يقينًا.

 

الشعب المصري ليس تافهًا، ولست أقول هذا لأني مصري، إن هذا الشعب له خصائص أصيلة، هذا الشعب في آخر قضاياه -ولا أذهب إلى الماضي البعيد- يوم استطاع الإنكليز أن يدخلوا رشيد في أول حملة من حملات الاحتلال، وفرّت الجيوش الألبانية من أمامهم، قرر الشعب المصري أن يقاوم. الشعب أعزل، ومع ذلك فإن اثنين من المؤرخين كتبا وثيقة -موضوعة الآن في وثائق وزارة الخارجية الإنكليزية، ومترجمة في بعض كتبنا العربية والإسلامية- تقول: إن أهل رشيد قاوموا بجبروت، وتقول: إن الحملة التي نزلت سرعان ما بدأ الأهالي في الحارات، وفي الشوارع، ومن أسطح البيوت، ومن نوافذ البيوت، أخذوا يحولون المدينة إلى بركان ثائر، كانوا يغلون الزيت ويسكبونه على الجنود، وكانوا يضربون بالرصاص والبلط والعصي، ووجد القائد الإنكليزي نفسه أمام محنة، إذ فقد نصف الحملة تقريبًا في شوارع رشيد وحاراتها مع الشعب بعد أن فر الجيش الألباني، وكانت إشارة الهجوم على المحتلين من مسجد المحلي برشيد.

 

هذا ما وقع في رشيد مع الإنكليز، وما وقع مع الفرنسيين أن ربع السكان في مصر تقريبًا قُتلوا أو جُرحوا وهم يقاومون الجيش الفرنسي بعد أن هزم المماليك، وتاريخ المقاومة لا يدرس ولا يكتب، كأن هناك مؤامرة لإشعار هذه الأمة بأنها لا تحسن المقاومة.

 

إن الجيش المصري أصيل، وتاريخه مشرف، والشعب المصري أصيل، وتاريخه مشرف، ومفتاح شخصيته الإسلام.

 

يوم ينادى بهذه الصيحة، ويوم تدار في أقفاله هذه المفاتيح المؤمنة، فإنه يتحرك فلا يقف أمامه شيء في الأولين والآخرين.

 

إن الهزيمة التي وقعت كانت هزيمة عصابة من الناس تستمتع بقدر كبير من الغباء والجهالة وكبرياء الضلال. 

 

هؤلاء كانوا في وادٍ والشعب في وادٍ آخر؛ لأن القانون سجن، ولأن كل إنسان كان مروعًا، لم يكن هناك وجود لقانون عقوبات أو قانون أخلاق.

 

كان من الممكن لأي حاكم من هؤلاء إذا أعجبته عمارة من العمائر أن يعلن حراسة عليها ثم يسكنها أو يُسكِنها أتباعه، كان التدين شبهة، وصلاة الفجر في بعض المساجد مشكلة، والبعد عن الخمر والدنيئة يعرض صاحبه للهوان والضياع وخراب المستقبل بعد الحاضر، فلما وقعت المعركة كان الناس يتفرجون.

 

وكيف وضعت الخطة؟! يقول لي طبيب: صدر في أربع وعشرين ساعة نحو عشرين أمرًا متضاربة متناقضة، فما استطاع الجيش أن يصنع شيئًا أكثر من أن يحمل سلاحًا ربما لم يجرَّب، أو ربما لم تفتح أغلفته. كانت خطة لا نظير لها فى الغباء، الجيش معذور، والشعب معذور، والأمر محتاج إلى أن يدرك الناس الحقائق. كان الجيش يستطيع أن يفعل الكثير ولكنه عجز، وكانت الأمة تستطيع أن تفعل الكثير ولكنها عجزت.

 

في الحرب الأولى مع اليهود في سنة 1956م كنت يقظان مدركًا لما هنالك، كانت في شعبنا بقايا من الإيمان والوطنية، وعندما وُزِّع السلاح على الشعب ليقاوم كنت موقنًا أن هذا السلاح لن يستغل إلا في ضرب العدو، وعندما أُكْرِه سكان القناة على أن يهجروها كان الناس بصدورهم وبيوتهم وعواطفهم وتقاليدهم يرحبون بالمهاجرين؛ لأن بقايا الإيمان موجودة. كنت موقنًا أن شيئًا حدث غير كريم وهو هزيمة جيشنا على الحدود الشرقية بسرعة غير متوقعة، وقيل يومئذ: السبب في صدور أوامر الانسحاب أن الإنكليز والفرنسيين نزلوا في بورسعيد. والواقع أن هذا التعليل خادع، وأن المقاومة كان ينبغي أن تطول أكثر لو كانت القيادة أعقل وأحكم وأحزم.

 

ولكن الخطأ وقع، وشاء الله أن تنجو البلاد، وأن ينسحب أولئك الذين جاؤوا، وقلت: بأي قدرة خرجوا؟! بأي قدرة غسلت الأرض منهم؟! وكان الجواب: قدرة مَنْ غير قدرة الله -جل شأنه-؟!

 

وقلت يومئذٍ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ). هو وحده الذي كف الأيدي عنا، ولكن الذين استمعوا لهذا الكلام ذكروني بقصة الأقرع والأبرص والأعمى التي روتها كتب السنة، وكتب السنة تروي أحاديث موجهة وأخبارًا نافعة.

 

إن الإنسان في طبيعته أن ينسى، وفى طبيعته -أحيانًا- أن يغدر بالنعمة وأن يجحد صاحبها؛ ضربت السنة مثلاً لهذا بثلاثة نفر ابتلوا بالفقر والعلل، هذا أبرص وفقير، وهذا أقرع وفقير، وهذا أعمى وفقير: "إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى، بدا لله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكًا، فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟! قال: لون حسن، وجلد حسن، قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب عنه، فأعطي لونًا حسنًا وجلدًا حسنًا، فقال: أي المال أحب إليك؟! قال: الإبل. فأعطي ناقة عشراء، فقال: يبارك لك فيها. 

 

وأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟! قال: شعر حسن، ويذهب عني هذا، قد قذرني الناس. قال: فمسحه فذهب، وأعطي شعرًا حسنًا، قال: فأي المال أحب إليك؟! قال: البقر، قال: فأعطاه بقرة حاملاً، وقال: يبارك لك فيها.

 

وأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟! قال: يرد الله إليَ بصري فأبصر به الناس، قال: فمسحه فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟! قال: الغنم، فأعطاه شاة والدًا، فأنتج هذان وولد هذا.

 

فكان لهذا وادٍ من إبل، ولهذا وادٍ من بقر، ولهذا وادٍ من الغنم.

 

ثم إنه -أي الملك- أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين تقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرًا أتبلغ عليه في سفري، فقال له: إن الحقوق كثيرة، فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرًا فأعطاك الله؟! فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر، فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنت.

 

وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا، فرد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنت.

 

وأتى الأعمى في صورته فقال: رجل مسكين وابن سبيل وتقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فرد الله بصري، وفقيرًا فقد أغناني، فخذ ما شئت فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله، فقال: أمسك مالك فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك". 

 

النفس البشرية -أحيانًا- تنسى ماضيها، تنسى فقرها، تنسى ذلها، ثم تزعم أن ما هي فيه من خير وعز ونصر وغنى هو جهدها، كما قال قارون لما قيل له: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)، عبقريتي هي التي جاءت بالمال. وهذا ما حدث، فإن الحكم السابق في بلدنا قال -ببساطة-: انتصرنا. وأحسن صناعة أجدناها كانت الكذب. فانتشر الكذب، انتشر أننا بقدرتنا وحولنا وخططنا وذكائنا وعبقريتنا انتصرنا، والله وحده يعلم أنه هو وحده صاحب اليد الطُولى علينا، وهو وحده الذي أخرج العدو من بلدنا.

 

كانت بقايا الإيمان فعلاً ترشح الأمة لأن تنجو من كبوتها، لكن الذي حدث في سنة 1967م كان شيئًا لابد منه، كان لابد أن يفتضح الغرور، وأن ينكشف الجهل، وأن تتضح أمام أنفس الناس الهالات التي زورت، والقامات التي تطاولت، وما يغيظني في الدنيا شيء كهذا اللون من الادعاء، وكثيرًا ما أردد قول المتنبي:

 

أفي كل يوم تحت ضبني شويعر *** ضعيف يقاويني قصير يطاول

 

إلى أن يقول:

 

وما التيه طبي فيهم غير أنني *** بغيض إلى الجاهل المتعاقل

 

وعندما تقع أزمَّة البلاد في أيدي الجاهل المتعاقل فلا تنتظر إلا الضياع. 

 

شعبنا شعب طيب، فيه مواهب أصيلة، هاجر منه من هاجر، فهو الآن يشتغل في غزو الفضاء، وفي تفجير الذرة، فهو شعب معدنه ذكي، ويحتاج إلى حاكم يحنو عليه، حاكم والد، حاكم طيب يحتاج إلى هذا.

 

وأنا في مكاني من العمل في الدعوة الإسلامية -وأنا رجل خبير بديني ودنياي- كتبت مذكرة وقلت فيها -لمن بيدهم الأمر عندنا-: إنني بعد أن أذهب الله الإنكليز والفرنسيين واليهود أريد أن نعيد النظر في شبه جزيرة سيناء، وعندي اقتراح سببه أني مسلم قرأت في كتاب الله: (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ)، فقلت: معنى هذا أن شجر الزيتون الذي ينمو في لبنان وفي فلسطين غابات كان ممتدًا إلى سيناء، ولابد أن عوائق حالت دون انتشاره، أو أن ظروفًا زمانية أو مكانية منعت أن ينمو شجر الزيتون في هذه البقاع، لكنى موقن وأكلت بفمي فاكهة نبتت في سيناء أحلى وأشهى مما ينبت في وادي النيل، وقد عشت في سيناء أمدًا غير قليل من الزمن وأنا بها خبير.

 

قلت: أريد أن نبني مستعمرات في سيناء، أساسها ثلاثة نفر، عالم ديني، مهندس زراعي، ضابط عسكري، الثلاثة تُختار لهم بقاع معينة، وفي كل بقعة نوطن البدو، للبدو حقوق في رقابنا، إنهم جهلة، يشتغلون برعي الغنم، وإذا كان هذا الاحتراف لا يعطي الكثير اشتغلوا بتهريب المخدرات، أو اشتغلوا بمعاونة الأعداء، فلم لا نمنع هذا البلاء ونبدأ في توطينهم، ويكون التوطين على الأساس الديني العسكري الاقتصادي؟!

 

وقلت: نبدأ بمحطات السكة الحديد من القنطرة والعريش ورمانة إلى رفح إلى غزة، وتنتشر بعد ذلك المستعمرات.

 

ووقع بعد ذلك التقرير الذي قدمته في يد مسؤول بدأ يقرأ، وبدأ ينظر إليَّ في شيء من العجب أو من الازدراء، وقال: ليست هناك مياه يا أستاذ في هذا المكان، قلت له: أنا أعرف أن اليهود مدوا الماء من شهال غزة إلى رفح، وزرعوا الأرض بطاطس، ونحن مددنا المياه إلى مرسى مطروح للمصيفين، فإذا مددناها للهو نستطيع أن نمدها للجد. لكن هيهات، مَنْ تُحَدِّث؟!! من البلاء أن يكون الرأي لمن يملكه لا لمن يبصره. وكأن الرجل يقول: ما لرجل معمم يتحدث في هذه الأمور؟! وشعرت بهذا وقلت وأنا أنتفض من العزة والكبرياء، قلت: إنني معمم فعلاً ولكنى أضع خطة تمنع حاخامات اليهود من أن يهزموكم هزيمة ترفعون فيها أيديكم وأرجلكم وتضحكون العالم عليكم.

 

إن حاخامات اليهود يفعلون الكثير من أجل دينهم، وأنا رجل مسلم أريد أن نخدم ديننا. لكن هيهات، ذهب الاقتراح إلى القمامة، ونفذ الاقتراح بنو إسرائيل، نفذوه هناك بعد أن احتلوا أرضنا، الحاخام اليهودي مع الضابط الإسرائيلي مع المهندس الزراعي.

 

إن ناسًا تريد أن تصف ما حدث فتقول: نكسة، كلمة نكسة معناها أن رجلاً كان يصعد فانزلق فسقط، فيقال: شيء باغته عن طريقه فما تم له ما أراد.

 

والحقيقة أن بلادنا كانت تنحدر، الحقيقة أن الحكم السابق كان بهذه الطريقة التي يعيش بها يرشح الأمة لهزيمة نكراء.

 

ونحن لا نبكي على الماضي، فإن البكاء على الماضي شأن الانهزاميين، ولكني أقول: في المعركة القادمة -ولابد من وقوع معارك أردنا أم لم نرد- يجب أن لا تكون بين الشعب والحاكم فجوة، الحاكم الأمين الصدوق النزيه هو الذي يعرف أنه خادم للأمة لا سيد لها، الحاكم الأمين الصدوق النزيه هو الذي يرعى الدماء والأموال والأعراض ويقدسها، ليس ذئبًا ينطلق في أحشائها كي يشبع نهمته من الحرام، إنه يومئذ لن يكون حاكمًا لها، إنما يكون عدوًّا لها وعميلاً لأعدائها.

 

وقال بعض الناس: إن نكسة يونيو كنكسة أحد!! ولم أر أغرب ولا أعجب من هذا التعليق، إن هذا الكلام خطورته بعيدة المدى، وهو اجتراء على حقائق التاريخ، فإن معركة أحد أرّخ بعض كتاب السيرة لها ورفضوا رفضًا باتًّا اعتبار ما حدث نصرًا لقريش وغلبة للوثنية. قالوا: ربما لم يبلغ المسلمون مرادهم، ولكن ما حدث لا يمكن أن يوصف بأنه هزيمة. ونحن نريد أن نبرز خمس نقاط:

 

النقطة الأولى: أن المسلمين في أُحُد أحرزوا النصر، وانكشف العدو، وولى الأدبار في المرحلة الأولى من المعركة، وهذه الهزيمة التي لحقت بالعدو هي التي أغرت طلاب الدنيا أن يتركوا مواقعهم ليحصلوا على الغنائم فكان ما كان، لكن في يونيو 1967م ما حصلنا على شيء ما من النصر إلا ما كانت الإذاعات تكذب به وتقول: أسقطنا عشرات الطائرات ومئات الطائرات، وهو كلام من نسج المخدرات.

 

النقطة الثانية: أن المشركين في معركة أحد ما استولوا على شبر من المدينة، ولا فكروا في دخولها، أما في يونيو فإن مساحة إسرائيل تضاعفت كثيرًا من أرضنا وبلادنا وخيراتنا.

 

النقطة الثالثة: أنه بعد ما حدث في أحد لم تمر عشية أو ضحاها حتى أصدر النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- أمره بمطاردة قريش واللحاق بجيشها، ما صبروا على ما نزل بهم أربعًا وعشرين ساعة.

 

النقطة الرابعة: أنه بعد ما يوصف بأنه هزيمة ما فقد المسلمون تدينهم ولا تقواهم، بل جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس وراءه وقال: "استووا حتى أثني على ربي -عز وجل-". وأخذ يثني على الله ويؤمن به ويدعوه ويستغفره.

 

شيء آخر: تنظيم الناس في مواقعهم في الحياة أو في الممات أمانة، كان زعيم الأمة ونبيها -صلى الله عليه وسلم- يرعاه حتى في القبر، كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: "أيهم أكثر أخذًا للقرآن؟!"، فإذا أشير له إلى أحد قدمه في اللحد وقال: "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة". وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا.

 

حتى في الموت يقدم الأعظم تقوى ودينًا، فإذا كان هذا في الموت فكيف الشأن في الحياة نفسها؟!

 

كانت الأمة يقدم فيها أصحاب الكفايات، ويؤخر فيها من لا كفاية له.

 

النقطة الخامسة: أن سبب الهزيمة في أحد مخالفة الجيش للخطة، أما في يونيو فإن سبب الهزيمة أن الجيش لم توضع له خطة، كانت الخطة الموضوعة هي التي هزمته، كأنما وضعها عدو لهذه الأمة.

 

الفروق كثيرة جدًا، قلت: لا أبكي على ماضٍ، إن شهر يونيو يجيء وتجيء معه الآلام، ويريد اليهود أن يفتحوا أفواههم في كل مكان ليقولوا: نحن أولو بأس شديد. كذبتم والله، والله لو أن أعدادكم من الناس كانوا كلابًا أو ذئابًا لانتصروا على العرب؛ لأن العرب كانوا مخذولين بقادتهم، كانوا مهزومين بمن يحكمهم، لو اصطدم هؤلاء العرب بجيش من الكلاب لانهزموا؛ لأنه ما كانت لديهم لا قوة ولا خطة ولا تراحم ولا تعاون.

 

إن اليهود امتدوا في فراغ، ويوم ترجع هذه الأمة إلى دينها وإلى القليل من السلاح الذي بأيديها فإن اليهود سوف تَسْوَدُّ وجوههم، وسوف يضحك أهل الأرض من دعاواهم. 

 

إنني أريد بهذا الكلام كله شيئًا واحدًا: أن أكشف الحقائق، أن أرد الاعتبار لألوف من الشباب انتظموا في الجيش وهم ليسوا جبناء، وما فكروا أن يبيعوا دينهم، ولكنهم ضاعوا بالخطط الرديئة، شعوب مؤمنة طيبة، ولكنها ذلت في مدنها وقراها، كانت تتفرج، هذه هي المأساة التي وقعت في يونيو ربما مات من مات، ربما سجن من سجن، ربما ذهبت مراكز القوة المسؤولة عن هذا إلى حيث ذهبت، لكن تبقى العبرة التي أريد أن يستفيد منها كل حاكم.

 

لا يجوز أن تكون بين الدولة والأمة فجوة، لا يجوز أن يشعر رجل الشارع بأن حاكمًا ما ديان له، مسيطر عليه، رب له في الأرض، لا، لا.

 

يوم أراد أحد الملوك في فرنسا أن يجعل من نفسه إلهًا على الناس، جاء الفرنسيون به وقتلوه. إن هذا الحكم الذي أجراه الثوار الفرنسيون كان حصانة لهم فيما بعد من حكام يريدون أن يصنعوا هذا الصنيع بشعوبهم. والأمة الإسلامية محتاجة إلى هذا كله، لقد ضاع المسلمون في باكستان بسبب هذا الذي قلته لكم. جماعة من الجنرالات كانوا يسكرون ويهرفون بما لا يعرفون دوخوا مستقبل الإسلام في الهند.

 

هذا ما حدث في يونيو أرجو أن نأخذ منه عبرة: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.  

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ).

 

وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدًا رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

 

أما بعد:

 

فلغاية في نفسي أحب أن أحكي شيئًا حدث.

 

من عدة شهور جاءني في مكتبي رجل وأعطاني مبلغًا من المال أحصيته فإذا هو ستمائة جنيه، قال لي: وزعها على المساجد التي ترى أنها بحاجة إلى المعونة. قلت له: لا بأس، ما اسمك؟! فإذا هو يولي ويتركني فما أعرف اسمه.

 

الجمعة الماضية وُضع في يدي ظرف ما أعرف مَنْ صاحبه، وعندما احتوتني السيارة التي أعود فيها وجدت المبلغ ثلاثمائة جنيه، ومعه خطاب فيه: ضع هذا المبلغ في مساجد معينة بأوصاف معينة.

 

أنا أقصد بهذا ثلاثة أمور:

 

الأمر الأول: أنه لا شك أن أمتنا -كما قلت- أمة تقية طيبة، معدنها سليم، والخير فيها كثير.

 

الأمر الثاني: لا أريد أن يتكرر هذا معي، ففيه شيء من التعب أو الحرج لي.

 

الأمر الثالث: أن هذه النيات الطيبة فردية، بمعنى أنها لا تزال في أماكنها كمناجم الذهب لا تكتشف إلا بالبحث. 

 

الهجوم على الإسلام هجوم جماعي منظم ولابد أن يكون الدفاع دفاعًا جماعيًّا ومنظمًا.

 

وألفت النظر إلى أن أمتنا لها مفتاح واحد هو: الإيمان، هو الإسلام، وأنها بهذا المفتاح تعطي المال، تعطي الدم، لأنها تريد وجه الله تعطي كل شيء وتصنع كل شيء.

 

أما من يحاول إذلالها فماذا سيجني؟! سيذل نفسه ويقهرها ويقهر الأمة معه ويذلها.

 

"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".

 

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).

 

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

 

 

 

 

المرفقات

المظالم والهزائم1

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات