عندما يفرح الله

الشيخ هلال الهاجري

2022-06-03 - 1443/11/04 2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/أقصى فرحة قد يصل إليها الإنسان في حياته 2/عظم فرح الله بتوبة عبده 3/بعض أسرار فرح الله بتوبة عبده

اقتباس

خلق الله سبحانه الإنسان بِيَدِه، ونَفَخَ فِيهِ مِن رَوحِهِ، وأَسجَدَ لَهُ ملائكَتَهُ، وأَعَدَّ لَهُ جَنَّتَهُ، وبِسَبَبِهِ عَادَى إبْلِيسَ وأَحَطَّ مَنزِلَتَهُ، وسَخَّرَ لَهُ الكُونَ والأرْزَاقَ، وكَرَّمَهُ بِالعَقلِ والأخلاقِ، وخَلَقَهُ فِي أَحْسَنِ تَقْويمٍ، وأَنزَلَ عَليهِ كَلامَهُ الكَريمَ، وهو سبحانه رَحمَته وَسِعَتْ كُلَّ شَيءٍ، وسَبَقَتْ غَضَبَهُ، فَهوَ يُحبُ أن يَرحَمَ، ويُحبُ أن...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْد للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمْنْ يَضْلُلُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدُهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدْرًا)[الطلاق: 2-3].

 

أَمَّا بَعْدُ: هَلْ تَعْلَمُونَ مَا هِيَ أقْصَى فَرْحَةٍ قَدْ يَصِلُ إلِيها الإنْسَانُ؟

هِيَ فَرْحَةُ رَجُلٍ يَمْشِي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي فَلَاةٍ مِنَ الأَرْضِ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ الرَّاحِلَةُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَطَلَبَهَا حَتّىَ أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ فَأَيِسَ مِنْهَا، ثُمّ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَىَ مَكَانِيَ الّذِي كُنْتُ فِيهِ فَأَنَامُ حَتّىَ أَمُوتَ؛ فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَىَ سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ؛ فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي ‌وَأَنَا ‌رَبُّكَ" أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ، وأَيُّ فَرْحَةٍ أَعْظَمُ مِنْ فَرْحَةِ الحَيَاةِ بَعْدَ المَمَاتِ؟

وَلِذَلِكَ بَلَغَ مَنْزِلةً مِنَ الفَرَحِ والذُّهُولِ، حَتَى أَصْبَحَ لا يَعْلَمُ ما يَقُولُ، فَقَالَ كَلمةَ الكُفْرِ بُهتَاناً وزُوراً، ولَكِنَّهُ كَانَ بالفَرَحِ مَعْذُوراً

 

أيُّهَا الأحِبَّةُ: لَقَدْ ضَرَبَ النَّبيُّ -عَلِيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- بِهذَا المَوقِفِ بِفَرَحِ اللهِ -تَعالى- بِتَوبَةِ عَبْدِهِ، وَقَالَ أنَّ فَرحَ اللهِ -تَعالى- أَكْبَرُ مِنْ فَرحِ هذا بِراحِلَتِهِ التي عَلِيها طَعَامُهُ وشَرَابُهُ، فَقَالَ عَلِيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ" الحَدِيثَ.. فسُبحانَ اللهِ! هل لاحَظْتُم شَيئاً غَريباً؟ الذي يَفرحُ هذا الفَرَحَ الذي لا يَخطرُ بِالبَالِ هو اللهُ -سُبحَانَه- الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ!

 

وقَدْ يَقُولَ قَائلٌ: كَانَ اللَّائقُ بِهَذَا الفَرَحِ أنْ يَكُونَ مِنَ المَخْلُوقِ الضَّعيفِ المُحْتَاجِ، حَيثُ وَفَقَّهُ اللهُ -تَعالى- للتَّوبَةِ ثُمَّ قَبِلَها مِنْهُ، فَمَا هُو السِّرُ فِي أنَّ فَرحَ اللهِ -تَعالى- بِتَوبَةِ عَبْدِهِ، أَكْبَرُ مِنْ فَرْحَةِ العَبْدِ بِتَوبَةِ نَفْسِهِ؟

 

مِنْ أَسْرارِ هَذَا الفَرَحِ هُوَ: شَرَفُ الإنْسانِ ومَكَانَتُهُ عِنْدَ اللهِ -تَعالى-، فَقَد خَلَقَهُ بِيَدِهِ، ونَفَخَ فِيهِ مِن رَوحِهِ، وأَسجَدَ لَهُ ملائكَتَهُ، وأَعَدَّ لَهُ جَنَّتَهُ، وبِسَبَبِهِ عَادَى إبْلِيسَ وأَحَطَّ مَنزِلَتَهُ، وسَخَّرَ لَهُ الكُونَ والأرْزَاقَ، وكَرَّمَهُ بِالعَقلِ والأخلاقِ، وخَلَقَهُ فِي أَحْسَنِ تَقْويمٍ، وأَنزَلَ عَليهِ كَلامَهُ الكَريمَ، وَجَعَلَ مِنهُ الخَليلَ والكَليمَ: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)[الإسراء: 70].

 

ومِنْ أَعظَمِ الشَّرَفِ أَمَانَةُ عِبَادةِ اللهِ -تَعالى- التَي قَبِلَها الإنْسَانُ: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)[الأحزاب: 72]، فَلا يَلِيقُ بِهَذَا الإنْسَانُ أَنْ يَنْزِلَ بِمَعصِيَتِهِ إلى أَسفَلِ سَافِلِينَ، فَيَكونَ مِنْ شَرِّ البَريَّةِ أَجْمَعينَ، فإذَا تَابَ وَرَجَعَ إلى مَا خَلَقَهُ اللهُ -تَعالى- لَهُ مِنَ العُبودِيةِ العَظِيمَةِ، والمَنزِلَةِ الكَريمَةِ، والجَنَّةِ المُقِيمَةِ، فَرِحَ اللهُ بِتَوبَتِهِ، وَزَادَتْ لَهُ مَحَبَتُهُ، ومَا أَعْظَمَ رَبٍّ غَنِّيٍ يَتُوبُ ثُمَّ يُحِبُ: (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ)[البقرة: 222].

 

ومِنْ أَسْرَارِ هَذَا الفَرَحِ هُوَ: رَحمَةُ اللهِ -تَعالى- التي وَسِعَتْ كُلَّ شَيءٍ، وسَبَقَتْ غَضَبَهُ، فَهوَ يُحبُ أن يَرحَمَ، ويُحبُ أن يَتوبَ، ويُحبُ أن يَعفو، واسمَعوا لِهذا المَوقِفِ؛ ذَكرَ ابنُ القيِّمِ عَن بَعضِ العَارِفينَ: أنَّهُ رَأى في بَعضِ السِّككِ بابًا قد فُتِح، وخَرجَ مِنهُ صبيٌّ يَستغيثُ ويَبكي، وأمُّهُ خَلفَهُ تَطردُهُ حَتَّى خَرجَ، فَأغلقتْ البابَ في وِجهِهِ ودَخَلتْ، فَذَهبَ الصَّبيُّ غَيرَ بَعيدٍ، ثُمَّ وَقفَ مُفكِّرًا، فَلم يَجدْ لَهُ مَأوىً غَيرَ البَيتِ الذي أُخرجَ مِنهُ، ولا مَن يُؤويهِ غَيرَ وَالدتِه، فَرجعَ مَكسورَ القَلبِ حزينًا، فَوَجدَ البَابَ مُرْتَجَّاً -أَيْ: مُغلَقَاً-، فَتَوسَّدَهُ ووَضعَ خَدَّهُ على عَتبةِ البَابِ ونَامَ، فَخَرجتْ أمُّهُ، فَلمَّا رَأتْهُ على تِلكَ الحَالِ لم تَملكْ أَن رَمَتْ نَفسَها عَليهِ، والتزمَتْهُ تُقبِّلهُ وتَبكي، وتَقولُ: يا وَلدي، أَينَ تَذهبُ عَنِّي؟ ومَن يُؤويكَ سِواي؟ أَلم أَقلْ لَكَ: لا تُخالفني، ولا تَحملني بمعصيتِكَ لي عَلى خِلافِ ما جُبِلتُ عَليهِ من الرَّحمةِ لَكَ، والشَّفقةِ عَليكَ، وإرادةِ الخيرِ لَكَ؟ ثُمَّ أَخذَتْهُ ودَخَلَت.

 

والآنَ تَأَمَّلْ: "لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا"، وَأَيْنَ تَقَعُ رَحْمَةُ الْوَالِدَةِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ؟

 

أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحَمْدُ للهِ العَزِيزِ الرَّحِيمِ، كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وأَشْهَدُ أَن لا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ؛ وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبدُهُ وَرَسولُهُ؛ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَليهِ وَعَلى آلِهِ وأَصحَابِهِ وأَتْبَاعِهِ إلى يَومِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعدُ: ومِنْ أَسْرَارِ هَذَا الفَرَحِ هُوَ: مَحَبَةُ اللهِ -تَعالى- للتَّوبَةِ، (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)[النساء: 27]، فَهوَ يَدعو إليهَا جَميعَ عِبادِهِ، فَنَادى المُسْرِفِينَ: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر: 53]، ونَادَى المُؤمِنينَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا)[التحريم: 8]، فَهو الذِي خَلَقنَا وهُوَ الذي يَعلَمُ ضَعْفَنا، وَيعْلَمُ أنَّ طَبيعَتَنا هو الخَطَأُ الكَثِيرِ الجَسِيمِ، فَهو يَدعُونا بِدُعاءِ الرَّؤوفِ الرَّحِيمِ: "يا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ" فَهل رَأيتُم مِثلَ هَذا؟ غَنِّيٌ يَفْرَحُ بالعَطَاءِ أَكثَرُ مِنْ فَرحِ الفُقَرَاءِ؟ وَيَقُولُ: "مَن تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، ومَن تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا، تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإذا أقْبَلَ إلَيَّ يَمْشِي، أقْبَلْتُ إلَيْهِ أُهَرْوِلُ".

 

والآنَ أَخْبِروني: مَتَى سَيفْرَحُ اللهُ -تَعالى- بِتَوبَتِنا؟ أمَا آنَ لَنا أن نَبسِطَ يَدَنَا لِمَنْ يَبَسَطُ لَنا يَدَهُ عَلى مَدارِ السَّاعَةِ؟ قَالَ عَلِيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: "إنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَبْسُطُ يَدَهُ باللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِهَا"، فَمُدَّ يَدَكَ اليَمِينَ، وأَفْرِحْ رَبَّ العَالَمِينَ.

 

اللهمَّ ارزقنا تَوبةً صَادقةً نَصوحاً، اللهم اقبلْ تَوبتَنا، واغسلْ حوبتَنا، واغفرْ ذَنوبَنا، واجعلنا من عبادِكَ المقربينَ.

 

اللهم اغفر لنا ولوالدينا وجميعِ المسلمينَ برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمينَ.

 

اللهم اجعلنا ممن يَعبدُكَ رَغباً ورَهباً وكَانوا لَكَ خَاشعينَ، اللهم أَدخلنا برحمتِكَ في عِبادِكَ الصالحينَ.

 

اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذلَ الشركَ والمشركينَ، ودَمرْ أعداءَكَ أَعداءَ الدينِ، واجعلْ هذا البلدَ آمناً مُطمئناً وسَائرَ بلادِ المسلمينَ.

 

اللهمَّ آمنا في دُورِنا وأَصلحْ أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، اللهم وَفقْ إمامَنا خَادمَ الحرمينِ الشريفينِ ووليِ عَهدِه الأمينِ إلى ما تُحبُ وتَرضى وخُذْ بنَواصيهم للبرِ والتَقوى.

 

اللهمَّ أصلح أحوالَ المسلمينَ في كلِّ مكانٍ يا ربَّ العالمينَ.

 

ربَّنا آتنا في الدنيا حَسنةً وفي الآخرةِ حَسنةً وقِنا عَذابَ النارِ.

 

اللهمَّ صَلِّ وسَلمْ وبَاركْ على نَبيِّنا مُحمدٍ وعَلى آلِهِ وصَحبِه أَجمعينَ.

المرفقات

عندما يفرح الله.pdf

عندما يفرح الله.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات