عناصر الخطبة
1/صلاح المجتمع الإنساني بصلاح الفرد والأسرة 2/عناية الإسلام بتكوين الأسرة المسلمة وصلاحها 3/عناية الإسلام باختيار الزوجين وعواقب إهمال ذلك 4/اهتمام الإسلام بتربية الأولاد وبعض جوانب ذلك 5/حث الإسلام الأولاد على الإحسان إلى الوالدين وبرّهما 6/بعض العواقب الوخيمة لإهمال تعاليم الإسلام المتعلقة بالأسرةاقتباس
عباد الله: من المعلوم لديكم: أن المجتمع يتكوّن من الأسرة، والأُسرة تتكوّن من الأفراد، كالبناء الذي يتكوّن من الأساس واللَّبنات، وبقدر قوة الأساس وقوة اللبنات وانتظامها يكون البناء صرحاً شامخاً، وحصناً راسخاً. كذلك المجتمع الإنساني إنما يكون صالحاً بصلاح الفرد والأُسر التي يتكوّن منها، ولهذا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، على نعمه الظاهرة والباطنة، لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله لبيان الحق، وهداية الخلق، فبيّن للناس ما نزل إليهم من ربهم، وترك أمته على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسانٍ، وسلّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيّها الناس: اتقوا الله -تعالى- بفعل ما أمركم به، وترك ما نهاكم عنه، وشكر ما أنعم به عليكم، فقد وعد بالعاقبة للمتقين، والمزيد للشاكرين.
عباد الله: من المعلوم لديكم: أن المجتمع يتكوّن من الأسرة، والأُسرة تتكوّن من الأفراد، كالبناء الذي يتكوّن من الأساس واللَّبنات، وبقدر قوة الأساس وقوة اللبنات وانتظامها يكون البناء صرحاً شامخاً، وحصناً راسخاً.
كذلك المجتمع الإنساني إنما يكون صالحاً بصلاح الفرد والأُسر التي يتكوّن منها، ولهذا شبّه النبي -صلى الله عليه وسلم- المجتمع المسلم بالبنيان الذي يشد بعضه بعضاً، وبالجسد الواحد الذي يتألم كله بتألم عضو من أعضائه.
ولهذا عُني الإسلام عناية تامة بتكوين الأُسرة المسلمة، واستصلاحها، ولمّا كان تكوين الأُسرة يبدأ من اتصال الذكر بالأُنثى عن طريق الزواج، أمر باختبار الزوج الصالح والزوجة الصالحة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أتاكم مَن ترضون دينه وخُلُقه فأنكحوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير"[رواه الترمذي وحسنه].
وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث بتزويج من كان مَرْضِي الدين والخُلُقُ.
وهذا يدل على أن من كان فاسد الدين سيّئ الخلق، لا يجوز تزويجه، ففيه حثٌّ على اختيار الأزواج، واعتبار المؤهلات الشرعية.
وكثير من الأولياء لا يُعِير هذا الجانب اهتماماً عند تزويج مولّيته، فلا يختار لها الرجل الذي أرشد إليه الرسول، وإنما يختار لها الرجل الذي يهواه هو، لو كان فاسداً في دينه، سيئاً في خلقه، لا مصلحة للمرأة من الزواج به.
فكم سمعنا مشاكل النساء اللاتي وقعن في سوء الاختيار، هذه تقول: أنها بليت بزوج لا يصلي.
وهذه تقول: إن زوجها يشرب المسِكرات، ويتعاطى المخدرات.
وهذه تقول: إن زوجها أمرها بالسفور، وإلقاء الحجاب.
وهذه تقول: إن زوجها يستمتع بها في غير ما أحلّ الله، فيجامعها في نهار رمضان، أو يجامعها وهي حائض، أو في غير المحل الذي أباح الله.
وهذه تقول: إن زوجها لا يبيت عندها؛ لأنه يسهر مع الفَسَقَة، والمسؤول عن ذلك هو وليّها الذي أساء الاختيار لها، وخان أمانته عليها، وهو المسؤول أيضاً عن فسادها وفساد ذريتها بسبب هذا الزوج الذي غشها به.
وكما حثّ الإسلام على اختيار الأزواج الصالحين، حثّ كذلك على اختيار الزوجات الصالحات؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة" [رواه مسلم].
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تنكح المرأة على إحدى خصال: لجمالها ومالها، وخلقها ودينها، فعليك بذات الدين والخلق، تَرِبت يمينك" [رواه أحمد بإسناد صحيح وابن حبان في صحيحه].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها ولدينها؛ فاظفر بذات الدين، تربت يداك" [رواه البخاري ومسلم].
ومعناه: الحثّ على اختيار الزوجة الصالحة دون نظر إلى الاعتبارات الأخرى من الحسب والمال والجمال مع الخلو من الدين.
وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَزَوّجوا النساء لحسنهنّ، فعسى حسنهنّ أن يرديهنّ، ولا تزوجوهن لأموالهنّ فعسى أموالهنّ أن تطغيهنّ، ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة خرماء سوداء ذات دين أفضل" [رواه ابن ماجة].
و"الخرماء" هي التي قطع شيء من أطرافها.
والحديث يدل على أن الدين في المرأة يغطي ما فيها من العيوب، بخلاف المال والجمال إذا كانا بدون دين، فإنهما يجرّان إلى مفاسد.
وأما إذا اجتمع في المرأة الدين والجمال، وغيره من صفات الكمال، فذلك من تمام النعمة، ولكن كل نقص يمكن التغاضي عنه إلا نقص الدين.
ثم يأمر الإسلام بعد تمام الزواج بحسن العشرة بين الزوجين.
ومن هنا ندرك اهتمام الإسلام باختيار الزوجين؛ لأنهما ركيزة الأسرة، وبصلاحهما تصلح الأسرة -بإذن الله-، واهتمامه ببقاء الزوجة الصالحة.
ثم بعد هذه المرحلة في تكوين الأسرة، وهي مرحلة اختيار الزوجين، يهتم الإسلام بتربية الذرية الحاصلة بين هذين الزوجين، فيأمر الوالدين بتنشئة أولادهما على الصلاح والابتعاد عن الفساد، يقول صلى الله عليه وسلم: "مُرُوا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرِّقوا بينهم في المضاجع".
ويأمر صلى الله عليه وسلم بالعدل بين الأولاد في العطية، ويمنع الوالد أن يعطي بعض أولاده ويحرم البعض الآخر؛ لأن هذا يُفضي إلى العداوة بين الأولاد، ويجر إلى القطيعة، التي تفكك الأسرة وتهدم بناءها، عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال: "تصدق عليّ أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فانطلق أبي إليه يشهده على صدقتي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أفعلت هذا بولدك كلهم" قال: لا، فقال: "اتقوا الله واعدلوا في أولادكم" فرجع أبي في تلك الصدقة" [رواه مسلم].
وحثّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على حسن تأديب الأولاد، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما نحَلَ والد ولداً من نحل أفضل من أدب حسن" [رواه الترمذي].
وروى ابن ماجة عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أكرموا أولادكم، وأحسنوا أدبهم".
وكما أمر الله الوالدين بتربية الأولاد، والإحسان إليهم، وحسن تأديبهم، فقد أمر الأولاد بردّ هذا الجميل، والإحسان إلى الوالدين، وبرّهما لا سيما عند كبرهما، قال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء: 23 - 24].
وهكذا يأمر الله الوالدين بالإحسان إلى الأولاد في حالة صغرهم وعجزهم، ويأمر الأولاد بالإحسان إلى الوالدين عند كبرهم وعجزهم.
وفي هذا تكافل وتعاون بين أفراد الأسرة المسلمة من الناحية المادية، وهناك تكافل وتعاون بين أفراد الأسرة على ما هو أهم من ذلك وأنفع في العاجل والآجل، وهو التعاون على البرّ والتقوى، وذلك بالتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر بين أفراد الأسرة الواحدة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم: 6].
فأمر المؤمنين أن يقوا أنفسهم، ويقوا مَن لهم عليهم ولاية من أهليهم من النار التي لا ينجي منها إلا فعل الطاعات، وترك المحرمات، والتعاون على البرّ والتقوى.
كما ويجب على الإنسان: أن يحرص على نجاة نفسه، يجب عليه: أن يحرص على نجاة غيره من أقاربه وإخوانه.
وقال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) [طـه: 132].
وهذا فيه: أن قيِّم الأسرة يحمل مسؤولية أسرته بالأمر بأداء الصلاة، وغيرها من الواجبات، وترك المعاصي والمحرمات.
وهذا يتضمن اتخاذ وسائل الخير في البيوت من التعليم والتأديب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإبعاد وسائل الشر عن البيوت من الملاهي، وكل المظاهر السيئة؛ لأن البيوت هي محل اجتماع الأسرة، وتلاقي أفرادها، فلا بدّ أن تكون بيوتاً إسلامية مؤسسة على البرّ والتقوى، وخالية مما يتنافى مع الإسلام وآدابه.
فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن صلاح الأسرة سبب لجمع الشمل، وقرة الأعين في الدنيا والآخرة.
وفساد الأسرة يسبّب القطيعة في الدنيا والآخرة، قال الله -تعالى-: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ * وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّار)[الرعد: 19 - 27].
بارك الله لي ولكم في القران العظيم ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشهد ألا إله إلاّ الله وحده لا شريك له في إلهيته وسلطانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيّها الناس: اتقوا الله يُعِنْكم على فعل الخيرات، ويحفظكم من جميع المحذورات، قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) [النحل: 128].
واعلموا أن إهمال تعاليم الإسلام في شأن الأُسرة يسبب تشتتها وضياعها في الدنيا والآخرة، فإنها ما فسدت الذراري إلا بسبب إهمال الوالدين، وسوء تربيتهم لأولادهم، ولا حصل العقوق من الأولاد لآبائهم إلا بسبب أن الآباء قد سبق أن عقّوا آباءهم من قبل، فإن الجزاء من جنس العمل.
وقد يكون بسبب حيف الأب مع بعض الأولاد بتخصيصه دون إخوانه بشيء من المال والعطف، وما حصلت قطيعة الأرحام بين الأقارب إلا بسبب التشاحن والتنافس على أمور الدنيا.
وبالجملة، فإنه ما حصل الخلل في بناء الأسرة اليوم إلا بسبب الخلل في الدين.
انظروا إلى المجتمعات الكافرة كيف يعيشون عيشة البهائم لا روابط تجمعهم، كما قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ) [محمد: 12].
ولا يعطف قويّهم على ضعيفهم، ولا يوقر صغيرهم كبيرهم، ولو كان أباه أو أمه، إذا هرم الشخص منهم وعجز عن المشي وُضِع في دُور العجزة إلى أن يموت ميتة الحيوان الحسير.
وقد يكون له أولاد يملؤون الفِجَاج، لكن لمّا ضيعوا دين الله أضاعهم الله: (نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة: 67].
فاتقوا الله -عباد الله- في أنفسكم، وفي أُسَرِكم، واعتبروا بغيركم.
واعلموا أن خير الحديث كتاب الله ...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم