عناصر الخطبة
1/ استمرار مأساة الشام 2/ خذلان المسلمين للسوريين 3/ سقوط الأمة أسبابه وتجلياته 4/ أهمية حماية الشريعة وتطهيرها من الشوائب والدفاع عنها 5/ أسباب النصر والتحرر 6/ أحوال المسلمين اليوم مع هذا البلاءاقتباس
إن من خيانة الأمة لرسالتها: أن تبرد عاطفتها تجاه حقوق الله، وتجعل حبها وبغضها وولاءها مرتبطًا بمصالح ظرفية لا بالمبادئ الخالدة النقية... إن الله تعالى إذا كلف أمة ما برسالة ما؛ فإنه يريد منها أن تكون أحوالها ومعاملاتها صورة دقيقة ومطابقة لهذه الرسالة، يريدها أن تكون مثالاً يحبّب الآخرين فيها ويغيّرهم باعتناقها ويجذبهم إلى فضائها، وأي خروج عن هذا الوضع السوي فهو مروق وخيانة وجناية ومتابعة لخطا الشيطان الذي يستدرج الإنسان ليوقعه في أشد الضلال ..
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى والمختص بالملك الأعز الأحمى الذي ليس من دونه منتهى، ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا.. وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعمًا، وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم أنفثهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وذكاه روحًا وجسمًا، وأتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا..
معاشر الصالحين: لا يزال الصادقون من أمة الإسلام يتفاعلون مع ما يقع لإخوانهم في أرض الشام، أرض البطولات والملاحم يتفاعلون معهم وهم يرون ما يحل بهم من قتل وتنكيل وخيانة وجناية.
أما أهل الشام فكأني بهم يتألمون لخذلان إخوانهم لهم أكثر من قتلهم وسفك دمائهم، استغاثوا وصرخوا واستنجدوا فلم يجدوا لأصواتهم صدًى، وكأن الله أراد أن يربطهم به ويقطع رجاءهم ممن سواه ليتوجهوا إليه وحده.
ولأن حال المسلمين اليوم لا يتأهل لنيل شرف نصرة الشام وأهله، وكأن الله سبحانه وتعالى يهيئهم ويعدهم ويميز طيبهم من خبيثهم حتى يصلوا إلى الأفضلية التي أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أنها تكون في أخر الزمان لأهل الشام.
نعم -إخوة الإيمان- لقد خذلهم العالم وأسلمهم وتركهم لقمة سائغة في أيدي فئام من اللائم لا يرقبون فيهم إِلاً وَلَا ذِمَّةً..
فقد سكتت الأصوات وتكلمت السياط وزوّر الإعلام وسكتت الأعلام إلا من رحم الملك العلام، فها هم الشيعة الخبثاء الروافض ممن يسبّون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقعون في عرضه ها هم يقتلون في إخواننا وينتهكون الأعراض دون زاجر ولا رادع..
لقد غلبت الأغراض على الأعراض، وهجر الشفاء واستقبلت الأمراض، الدماء تسيل كالأنهار والعالم يدعو إلى الحوار، والمظلومون لهم صراخ وجؤار، والعالم يجيبهم بصوت أشبه بالخوار..
إنه ابتلاء لنا جميعًا، ابتلاء للأمة كلها ليرى الله مدى غيرتها على دينها وكيف هي أُخوتها ومحبتها..
أما النصرة فلو شاء الله لأهلك الظالمين فأمره بين الكاف والنون، ولكنه ابتلاء لنا، قال تعالى ذلك (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) [محمد: 4- 6].
واستمعوا إلى الآية التي بعدها مباشرة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) [محمد: 7].
يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله بنصرة دينه واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصركم على أعدائكم، ويثبت أقدامكم على الإسلام وفي القتال، ومن أول معالم هذه النصرة المطلوبة منا مجانبة ومخالفة الكفار وعدم الركون إليهم، لذلكم يقول ربنا مباشرة بعدها: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) [محمد: 8]، قال ابن عباس: "فتعسا لهم أي بُعدًا لهم"، وقال أبو العالية: "سقوطا" وقال الضحاك: "خيبة" وقال ابن جرير: "حزن" .
الذين قال الله في حقهم (فَتَعْسًا لَهُمْ) كيف نواليهم؟ كيف نثق فيهم؟ كيف تُنصر أمة تصف بالقداسة من وصفهم بالنجاسة !! وهل يعقل أن يقيم المسلمون الحداد على من جعل لله الأولاد؟!
معاشر الأحباب: إن الله تعالى إذا كلف أمة ما برسالة ما؛ فإنه يريد منها أن تكون أحوالها ومعاملاتها صورة دقيقة ومطابقة لهذه الرسالة، يريدها أن تكون مثالاً يحبّب الآخرين فيها ويغيّرهم باعتناقها ويجذبهم إلى فضائها، وأي خروج عن هذا الوضع السوي فهو مروق وخيانة وجناية ومتابعة لخطا الشيطان الذي يستدرج الإنسان بالاستذلال ليوقعه في أشد الضلال، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ..) [البقرة: 208]، ادخلوا في السلم كافة أي في الإسلام كله لا تجزؤه، لا تؤمنوا ببعض وتكفروا ببعض، كما فعلت اليهود (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) التي تستدرجكم للخروج عن حماه وحدوده.
أيها الأحباب: ما دامت تعاليم الإسلام في الأوج من حيث تصورها واكتمالها في نصها وتفاصيلها، وحال المسلمين في الحضيض للأسف، فإن هذا التناقض المشين سيظل أبدًا مسار أنواع من الارتداد واتهام للإسلام بغير حق.
هل تظن -أخي المسلم- أن الله الذي يكرم أمة من الأمم بدين عظيم، فتأبى هي الكرامة وتعكس هوانها على دينها تظنها تفلت من العقاب الأعلى؟ كلا وألف كلا.. ومن هنا تتابعت السياط الكاوية على الأمة المفرطة وتناولتها اللطمات من كل جنبات، وقد كان لهذا القدر العادل مقدماته وأسبابه (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت: 46].
إن الأمة التي يغري بعضها ببعض، ويستعدي بعضها على بعض، تُحرم عناية الله في الأولى والآخرة، لقد ضمَّن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أعظم خطبه وصيته الخالدة «إن دمائكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا..»، إن هذه مقدسات تربوا حرمتها وتزيد على مقدسات التاريخ، لقد نظر صلى الله عليه وسلم يوم إلى الكعبة فقال: «ما أعظمك وأعظم حرمتك! ولكن حرمة المؤمن أعظم منك حرمة دمه وعرضه وماله».
ومع ذلك ورغم كل ذلك فقد استباح الجور والظلم حمى هذه المقدسات، إن من خيانة الأمة لرسالتها أن تبرد عاطفتها تجاه حقوق الله، وتجعل حبها وبغضها وولاءها مرتبطًا بمصالح ظرفية لا بالمبادئ الخالدة النقية.
إنك أخي المؤمن حين ترى تابعًا لدينٍ ما يستهين بشعائر هذا الدين، ويعبث بمقدساته؛ ما تعنيه حرمته في شيء، لا تتردد لحظة واحدة حين ترى هذا العابث المستهتر في اتهام عقيدته والشك في ولائه لدينه وشريعته.
عندما تنظر الأمم الأخرى اليوم إلى أمة الإسلام وفيها مسلمون يُذبحون ويقتلون، وتُنتهك أعراضهم بالليل والنهار وباقي الأمة في سبات.. أليس هذا مدعاة لاستخفافهم بنا واستصغارهم لديننا وتحريضهم على المزيد من الاعتداء علينا وعلى حرماتنا؟!.
تصوروا لو أن بلد آخر في أمة أخرى تعرّض لبعض ما تعرض له أهل الشام، أليست تقوم الدول وتتحد لرد المعتدي، فإذا هم كانوا يفعلون هذا مع أن عقائدهم هواء أو لسنا أولى بذلك ونحن أهل الحق وأمة سيد الأنبياء؟! ومن ثم تظهر ملامح الخيانة لدين الله وتظهر جسامة المسئولية التي يتحملها كل مسلم في أن يعيد للأمة عزها ونصرها عبر بوابة الغيرة عليها، الغيرة على شرفها وعزها.
إن من بيننا أناس لا يسوؤهم أبدًا أن تعطل الصلاة، لا يسوؤهم أبدا أن يُعتدى على رموز الإسلام، لا يسوؤهم أبدا أن ينتشر الباطل ويعربد، بل أصبحوا يقعّدون للباطل تحت مسميات جديدة كحرية الرأي، ويطبقون ذلك في الحيز الذي يخدم طروحاتهم وأفكارهم، فإن مال الناس إلى دين الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ) [القلم: 21- 22] لقد أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون. هؤلاء هل يظنون أن بينهم وبين الله أدنى صلة إيمانية يجب أن تراعى حرمتها؟ إن تصرف هؤلاء دليل انطماس بصائرهم.
إن أول شروط النصر: تكوين بيئة تزدهر فيها العبادة والطاعة، ويسودها التراحم، وتظهر فيها العلامات الحمراء والخضراء باستمرار في طريق المبادئ والأخلاق لتمضي في سيرها. فما كان معروفًا سمح له بالمرور، وإلا وقف في مكانه وأغلقت في وجهه كل الطرق، ذلكم معنى قوله تعالى في سرد مؤهلات النصر (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج: 40- 41].
فهل أرض الإسلام اليوم على المستوى الشريف الغيور اليقظ، أم أنا العلل والأمراض الخلقية والاجتماعية استوطنت بلداننا وقد غفل أهلنا وغطوا في نوم عميق وصدقوا قول القائم:
نامت نواطير مصر عن ثعالبها **** فقد بشمن وما تفنى العناقيد
أيحسب عاقل أن هذه أسباب النصر والتحرر؟ إن في بلاد الإسلام من يدافع عن حرية الإلحاد وممارسة الفساد بلسان طلق، فإذا حُدث عن حرية الإيمان والعفة والمكارم امتعض واشمئز، وجادل بل وناضل فهل يجر الهزيمة إلا مثل هؤلاء، يفنون الأعمار في مخالفة الأخيار ومصافاة الأشرار وجلب العار والشنار ودعوة الناس إلى دار البوار (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا) [النساء: 27].
جعلني الله وإياكم ممن ذُكِّر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرًّا وجهرًا، آمين.. آمين والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أنزل الكتاب بصائر وذكرى، وجعل اتباع رضوانه طريق البشرى، والصلاة والسلام على من اقتحم العقبة الكبرى ودعا إلى دين اليسرى وعلى آله وعطرته المقتفين لمنهاج سيرته، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين..
معاشر الصالحين: إن الله تبارك وتعالى ما أكرم أحدًا قط لصورة لحمه ودمه، إنما أكرم من عباده من زكت شمائلهم، وطهرت نفوسهم وساروا في أرض الله يمثلون نورًا من نوره دعاة باسمه، ورعاة لحقه وأنصارًا لدينه، يتحابون لحبه، ويتحاكمون إلى شرعه، يسعى بذمتهم أدنانهم وهم يد على من سواهم.
من استجمع هذه الخلال كان السيد الوارث المفضال بمقتضى قول الكبير المتعال (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ) [الأنبياء: 105- 106]، ومن ثم فإنه يجب على الأمة أن تستعيد وعيها لتسترد هيبتها ولا سبيل لها إلى ذلك إلا بالرجوع إلى كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم.
إن ما يتعرض له أحبابنا في الشام من ظلم بشع فاق التصورات كشف عن أمور شتى، منها هوان الأمة في نفسها، ومن ثم هوانها على غيرها، فأفظع ما يمكن أن يصاب به الأفراد والمجتمعات وسقوط من الداخل.
وهذا السقوط له أسباب وله تجليات فمن أسبابه:
ضياع الهدف: أن يعيش المرء بلا هدف منشود لا يبني مجتمعات، ولا يقيم صلوات؛ إنما هو ضائع تائه لا يقدم ولا يؤخر حائر بائر، وهذا ينعكس على المجتمع سلبًا..
ومن أسباب هذا السقوط الإغراق في الشهوات، وشغل الناس عن الحق بالباطل فتضيع طاقات وتهدر إمكانيات، لذلكم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بُعث بدأ ببناء الإنسان قبل بناء الجدران؛ وذلك عبر ترسيخ العقائد ومحاربة ما يخالفها من العوائد، ومكّن للأخلاق والمكارم وأخذ للمظلوم من الظالم، ثم بعد ذلك جاءت الفترة المدنية بعد أن تم البناء العقدي، فكانت الأرض مهيأة لتزرع فيها بذور الأخوة والمحبة، ونبذ الفرقة والاختلاف، وهذا بالضبط هو ما تحتاجه الأمة اليوم إن هي أرادت العودة لماضيها العريق، وإحياء ثقافة الرعيل الأول المتسمة بالفهم العميق.
لابد للأمة اليوم أن تعيد النظر في عقيدتها وفق كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، فكل ما كان منها موافقًا لسنة رسول الله أخذ به ومكن له وكل ما كان مخالفا ترك وهجر..
إن تطهير الشريعة من الشوائب المكدرة وأخذها من معينها الصافي الرقراق هو الكفيل ببناء الكيان وتأسيس الذات والانتصار على الشبهات والشهوات والملذات.. فالذي يعيش موصولاً بالله منزهًا له جل في علاه مستغيثًا به وحده مستيقنًا في قرارة نفسه بأنه لا يكون شيء في الكون إلا بعلمه، وأنه هو النافع والضار والمعطي والمانع والخافض والرافع لا يستغيث بقبر ولا يتمسح بشجر ولا حجر، لا يخاف إلا الله طالبًا الأرزاق برضا الملك الخلاق راضيًا بالأقدار كيفما تصرفت شاكرًا في النعماء، صابرًا، راضيا في الضراء.. هذا الذي بُني هذا البناء لا يمكن أبدًا أن يضل أو يزل لا يمكن أبدًا أن يهين أو يستكين، لا يمكن أبدًا أن يجنح أو يميل إلى الكافرين طمعًا في عطائهم أو خوفًا من بطشهم، وتلك أول معالم الانتصار..
الذي يوقن بأن هناك يومًا ستجتمع فيه الخلائق للعرض على الله والحساب والجزاء، الذي يوقن بهذا لا يمكن أن يقدم على ظلم أو غبن، إن استحضار الآخرة على الدوام هو الكفيل بنشر الأمان، الأمان النفسي والجسدي والاقتصادي..
انظروا كيف أن الله سبحانه وتعالى ربط في كتابه بين مسألة اقتصادية وبين الخوف من الآخرة فقال سبحانه: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين: 1- 6].
وتأملوا قول شعيب لقومه وقد عرفوا بتطفيف الكيل ونقص الميزان، قال الله حاكيا عنه: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ) [العنكبوت: 36] يعني خافوا اليوم الآخر (وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [العنكبوت: 36] ذكرهم بالآخرة ليرتدعوا وينزجروا.
إذًا فإن الأمة لا يستقيم أمرها إلا ببناء العقيدة حتى تصبح واقعًا يوميًّا عمليًّا في حياة أفرادها.
الأمر الثاني: هو التمكين للأخوة لطرد الخلاف والاختلاف والتنازع، ولشغل الناس بمعالي الأمور وبما يعود بالنفع على الأمة، إن ترك التنازع والاختلاف يمكّن الأمة من رؤية عاقلة لما يجري حولها من أحداث ولما يُدَبّر لها من مؤامرات وما يزج بها فيه من صراعات.
إن الناس خُلقوا على فطرة سوية وجبلهم ربهم على معرفته، فالدعوة إلى التوحيد دعوة إلى الفطرة ولعل في كلمة التوحيد ما يشير إلى الوحدة والاجتماع توحيد الله وإفراده والاجتماع حوله.. هذا الأصل. وكل أحد ليس على تلك الفطرة يجد في نفسه شاء أم أبى نزاعًا لا يجد له حلاً وضنكًا لا يجد له سعة..
وهذا الصراع الذي يشهد العالم أوراه اليوم، ما زال أئمة الإسلام وعلماؤه لم يبلغوا فيه المراد ولم يدرك كثير منهم كيف يدار، ومن المؤسف أن الصوت الإسلامي الغالب اليوم في ديار الإسلام هو الصوت الأعلى لا الصوت الأعمق.
انشغل فئام من الأمة بما كان بين الأجداد من صراعات، فجعلوا من أنفسهم حكامًا بل تجاوز بعضهم الأمر إلى أن أضحى بعضهم يتكلم عنها، وكأنها لم تضع أوزارها بعد، فهو جند في إحدى الطوائف وقائد في بعض الكتائب، ولن يصل هؤلاء إلى غاية، ولن يكون بهم نصر للإسلام وعز لأهله، فنحن مؤتمنون شرعًا عما نحن فيه لا عمن سكنوا القبور (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) [مريم: 73]، نعم.. ليس الأمر على إطلاقه في الترك والضرب عنه صفحًا، لكنه كذلك ليس على إطلاقه في أن نركب أسنته ولججه بلا بينة ولا برهان..
وطائفة ظنت أن الإغراق في مسائل الفقه الفرعية، وفناء الأعمار في الترجيحات الجزئية وتدوين الصفحات لإبطال قول لا يتجاوز سطرًا في مسألة ليس فيها نص قاطع ولا إجماع سابق يظنون ذلك هو حقيقة العلم وثمرته مع الأمر أيسر من ذلك وأهون، ولو شاء الله أن يفصل فيه لكان ذلكم الفصل (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) [مريم: 64].
قال أحد علماء شنقيط:
وعلماء الضيق صنفوا على *** عكس الذي به النبي أرسلا
وحقيقة العلم -كما قال مالك رحمه الله- "نور يضعه الله في قلب من يشاء".
وطائفة قرأت المبشرات من الأحاديث والآيات قراءة من يريد أن يعطل السنن وينفي الأسباب، فمنهم من يستعجل كل غيب موعود، ولم يعلم أن الله لا يعجل لعجلة أحد من خلقه.
وآخرون منهم طال رقادهم قائلين علام نجري لشيء سيأتي، وكلٌ أخطأ الطريق وأبعد النجعة.
وآخرون ضربوا عن ذلك كله صفحًا فعمدوا إلى ملتقى الغانيات ومجامع الشرب وأندية القمار يمسون فيها ويصبحون وقد قيل:
شتان من همه كأس وغانية ***ومن همه القمة الشماء يحميها
وثمة آخرون تبع لكل طائفة من هؤلاء لا يدري أحدهم بأي واد هلك..
وثمة آخرون لا همّ لهم إلا مراقبة الناس، وتتبع عوراتهم، وإصدار الأحكام عليهم يقضون الساعات الطوال في تلمّس خبر أو سر، فإذا ظفر أحدهم بخبر مضى وكأنه قد حصل كنوز الدنيا ليشيع ويشنع ويحكم ويشرع..
وعليه فإن الحاجة إلى أن يدرك أهل الإسلام عظيم رسالتهم حاجة ملحة، يقدم عليها كل مطلوب ومرغوب، حتى يكونوا قادرين على إبلاغها، وحتى يكونوا مستحقين لنصرة الله..
إن أمة تفقد هذه المعاني لهي أمة معرضة نفسها للهزيمة والذل، وهذا مع الأسف هو ما نرى من حال أمتنا، فهؤلاء إخواننا يذبحون ويقتلون فلا نرى أمتنا تتحرك التحرك الذي يناسب الحدث.. وبالأمس قصفوا قبري الصحابيين الجليلين عبدالله بن عمر وخالد بن الوليد رضي الله عنهما فلم نسمع ولا تعليق ولا حتى تنديدا..!!
تقصف قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين قدموا الخير لأمة رسول الله فلا تتحرك الأمة لرفع هذا الظلم وهذا البغي وهذا الكفر وهذا العناد ولا حول ولا قوة إلا بالله..
فإلى أين نسير وبأي ضوء نستنير وأفعالنا إلى ماذا تشير (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69].
اللهم فرّج هم المسلمين..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم