علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- (1)

ناصر بن محمد الأحمد

2014-04-14 - 1435/06/14
التصنيفات: شخصيات مؤثرة
عناصر الخطبة
1/ التعريف بعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- 2/ تربيته في بيت النبوة 3/ شجاعته في الصغر 4/ زواجه ببنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- 5/ شهوده المشاهد مع رسول الله 6/ مصاحبته للخفاء الراشدين في وقت الأزمات 7/ توليه الخلافة 8/ علمه وحكمته وزهده 9/ عدله وتفقده لأحوال رعيته

اقتباس

كان من نعمة الله -عز وجل- على عليّ بن أبى طالب وما صنع الله له وأراد به من الخير أن قريشاً أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للعباس عمه، وكان من أيسر بني هاشم: يا عباس: إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد ترى ما أصاب الناس من هذه الأزمة، فانطلق بنا فلنخفف عنه عياله، آخُذُ من بيته واحداً وتأخذ واحداً، فنكفيهما عنه، فقال العباس: نعم. فانطلقا حتى أتيا أبا طالب، فقالا له: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما: إن تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما، فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علياً فضمّه إليه...

 

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: نكمل سلسلة الخلفاء الراشدين، وتوقفنا عند علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.

 

أجمعت الأمة على أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- هو رابع الخلفاء الراشدين في الترتيب والفضل.

 

هو: علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، ابن عمّ النبي -صلى الله عليه وسلم-، والده أبو طالب شقيق عبد الله والد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان اسم عليّ عند مولده أسد، سمته بذلك أمه -رضي الله عنها- باسم أبيها أسد بن هاشم، وكان أبو طالب غائباً، فلما عاد لم يعجبه هذا الاسم وسماه علياً.

 

كنيته: أبو الحسن، ويكنى أيضاً بأبي تراب، كناه بها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان يفرح إذا نودي بها.

 

كان من نعمة الله -عز وجل- على عليّ بن أبى طالب وما صنع الله له وأراد به من الخير أن قريشاً أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للعباس عمه، وكان من أيسر بني هاشم: يا عباس: إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد ترى ما أصاب الناس من هذه الأزمة، فانطلق بنا فلنخفف عنه عياله، آخُذُ من بيته واحداً وتأخذ واحداً، فنكفيهما عنه، فقال العباس: نعم. فانطلقا حتى أتيا أبا طالب، فقالا له: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما: إن تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما، فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علياً فضمّه إليه، وأخذ العباس جعفراً فضمّه إليه، فلم يزل علي بن أبى طالب -رضي الله عنه- مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بعثه الله نبياً، فاتبعه عليّ، فأقر به وصدّقه، ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه.

 

أيها المسلمون: نلاحظ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يرد الجميل والمعروف لعمّه أبي طالب الذي كفله بعد وفاة جدّه عبد المطلب، فكان هذا من أكبر نعم الله -عز وجل- على عليّ -رضي الله عنه-؛ إذ ربّاه وأدّبه الذي أدّبه الله -عز وجل-، والذي كان خلقه القرآن، فانعكس هذا الخلق القرآني على عليّ -رضي الله عنه-، وكفى بتربية النبي -صلى الله عليه وسلم- تربية لعليّ -رضي الله عنه-، فقد نشأ في بيت الإسلام، وتعرّف إلى أسراره في مرحلة مبكرة من حياته، وذلك قبل أن تتخطى الدعوة حدود البيت وتنطلق إلى البحث عن أنصار يشدّون أزرها وينطلقون بها في دنيا الناس، ويخرجونهم من الظلمات إلى النور.

 

أيها المسلمون: عندما اجتمعت قبيلة قريش في دار الندوة، وأجمعوا على قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- والتخلص منه، أعلم الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بذلك، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- أحكم خلق الله، فأراد أن يُبقي من أراد قتله ينظر إلى فراشه ينتظرونه يخرج عليهم، فأَمر عليّ بن أبى طالب -رضي الله عنه- أن ينام في فراشه تلك الليلة، ومن يجرؤ على البقاء في فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والأعداء أحاطوا بالبيت يتربصون به ليقتلوه؟! من يفعل هذا ويستطيع البقاء في هذا البيت وهو يعلم أن الأعداء لا يفرّقون بينه وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مضجعه؟! إنه لا يفعل ذلك إلا أبطال الرجال وشجعانهم بفضل الله تعالى، وقد أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقيم بمكة أياماً حتى يؤدي أمانة الودائع والوصايا التي كانت عنده إلى أصحابها من أعدائه كاملة غير منقوصة، وهذا من أعظم العدل، وأداء الأمانة، وقد جاء في رواية: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: نم في فراشي، وتَسَجَّ ببردي هذا فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم. قال ابن حجر: "وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: فرقد عليّ على فراش رسول الله يواري عنه، وباتت قريش تختلف وتأتمر، أيهم يهجم على صاحب الفراش فيوثقه، حتى أصبحوا فإذا هم بعليّ، فسألوه، فقال: لا علم لي، فعلموا أنه قد فر".

 

لما أصبح عليّ -رضي الله عنه- قام عن فراشه، فعرفه القوم وتأكدوا من نجاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا لعليّ: أين صاحبك؟! قال: لا أدري، أمرتموه بالخروج فخرج. وضاق القوم بتلك الإجابة الجريئة وغاظهم خروج رسول الله من بين أظهرهم، فانتهروا علياً وضربوه، وأخذوه إلى المسجد فحبسوه هناك ساعة ثم تركوه، وتحمّل عليّ ما نزل به في سبيل الله، وكان فرحه بنجاة رسول الله أعظم عنده من كل أذى نزل به، ولم يضعُف ولم يخبِر عن مكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وانطلق عليّ في مكة يجوب شوارعها باحثاً عن أصحاب الودائع التي خلّفه رسول الله من أجلها وردها إلى أصحابها، وظل يرد هذه الأمانات حتى برئت منها ذمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهناك تأهب للخروج ليلحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد ثلاث ليال قضاهنّ في مكة.

 

وكان عليّ في أثناء هجرته يكمن بالنهار، فإذا جنّ عليه الليل سار حتى قدم المدينة، وقد تفطرت قدماه، وهكذا يكون عليّ -رضي الله عنه- قد لاقى في هجرته من الشدة ما لاقى، فلم تكن له راحلة يمتطيها، ولم يستطع السير في النهار لشدة حرارة الشمس، وفي مشي الليل ما فيه من الظلمة المفجعة والوحدة المفزعة، ولو أضفنا إلى ذلك أنه -رضي الله عنه- قد قطع الطريق على قدميه دون أن يكون معه رفيق يؤنسه، لعلمنا مقدار ما تحمّله من قسوة الطريق ووعثاء السفر ابتغاء مرضاة الله -عز وجل-، وأنه في نهاية المطاف سيلحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويستمتع بجواره آمناً مطمئناً في المدينة، وهكذا كانت هجرة أمير المؤمنين عليّ بن أبى طالب -رضي الله عنه- تضحيةً وفداءً وتحملاً وشجاعةً وإقداماً.

 

أيها المسلمون: وفي السنة الثانية من الهجرة تزوج عليّ بن أبي طالب فاطمة بنت إمام المتقين سيد ولد آدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال عليّ بن أبى طالب -رضي الله عنه-: دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما أن قعدت بين يديه أفحمت، فوالله ما استطعت أن أتكلم جلالة وهيبة. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما جاء بك؟! ألك حاجة؟!"، فسكتُّ فقال: "لعلك جئت تخطب فاطمة؟!"، فقلت: نعم، فقال: "وهل عندك من شيء تستحلها؟!" فقلت: لا والله يا رسول الله، فقال: "ما فعلت درع كنت قد أعطيتك؟!"، قلت: عندي، فقال: "قد زوجتك بها، فابعث إليها بها فاستحلها بها".

 

شهد عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- المشاهد مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وكان في معظمها هو الذي يحمل اللواء، وله مواقف كثيرة تدل على شجاعته وفروسيته الفائقة:

 

في غزوة أحد بدأ القتال بمبارزة بين عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- وطلحة بن عثمان، وكان بيده لواء المشركين، وطلب المبارزة مراراً، فخرج إليه عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- فقال له عليّ: "والذي نفسي بيده لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة"، فضربه عليّ فقطع رجله فوقع على الأرض فانكشفت عورته، فقال: يا ابن عمي: أنشدك الله والرحم! فرجع عنه ولم يجهز عليه، فكبّر رسول الله، وقال لعليّ بعض أصحابه: أفلا أجهزت عليه؟! قال: "إن ابن عمي ناشدني الرحم حين انكشفت عورته فاستحييت منه".

 

وفي غزوة الخندق خرج عليّ بن أبى طالب في نفر من المسلمين بعد أن اقتحمت خيل المشركين ثغرة في الخندق، حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها خيلهم، وأقبلت الفرسان تعدو نحوهم، وكان عمرو بن عبد ود وقد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراح، فلم يشهد يوم أُحد، فلما كان يوم الخندق خرج مُعَلّماً لُيرَى مكانه، فلما وقف هو وخيله قال: من يبارز؟! فبرز له عليّ بن أبى طالب فقال له: يا عمرو: إنك قد كنت عاهدت الله ألا يدعوك رجل من قريش إلى أحد خلتين إلا أخذتها منه، قال له: أجل، قال له عليّ: فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام، قال: لا حاجة لي بذلك، قال: فإني أدعوك إلى النّزال، فقال له: لِمَ يا ابن أخي؟! فوالله ما أحب أن أقتلك، قال له عليّ: لكني والله أحب أن أقتلك، فحمي عمرو عند ذلك، فاقتحم عن فرسه فعقرها، وضرب وجهه، ثم أقبل على عليّ، فتنازلا وتجاولا فقتله عليّ -رضي الله عنه-. قال عمرو لما خرج للمبارزة:

 

ولقد بححْتُ من النداء *** لجمعِهِم هل من مبارز

ووقفت إِذ جَبُنَ المشجَّع *** موقف القرن المناجز

ولـذاك إنـي لـم أكُن *** متسرعاً قبل الهَزاهِزْ

إن الشجاعـة في الفتى *** والجود من خير الغرائِزْ

 

فقال علي -رضي الله عنه- عندما خرج له:

 

لا تَعْجَلنَّ فقد أتاك *** مُجيبُ صَوتكَ غيرُ عاجز

فـي نيـة وبصيرة *** والصدق مَنْجَى كلِّ فائز

إني لأرجُـو أن أقيم *** عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء يَبقى *** ذكرها عند الهزائز

 

وبعد مقتل عمرو بن عبد ودّ بعث المشركون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشترون جيفته بعشرة آلاف، فقال: ادفعوا إليهم جيفتهم، فإنه خبيث الجيفة، خبيث الدية، فلم يقبل منهم شيئًا.

 

وقد حدث هذا والمسلمون في ضنك من العيش، ومع ذلك فالحلال حلال والحرام حرام، إنها مقاييس الإسلام في الحلال والحرام، فأين هذا من بعض المسلمين اليوم الذين يحاولون إيجاد المبررات لأكل المال من أي وجه كان والله المستعان؟!

 

أيها المسلمون: لما توفى النبي -صلى الله عليه وسلم- كان عليّ ممن باشر غسله مع الفضل بن العباس وأسامة بن زيد. وقال عليّ -رضي الله عنه-: غسلت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فذهبت أنظر ما يكون من الميت فلم أر شيئاً وكان طيباً حياً وميتاً، وكان -رضي الله عنه- من ضمن من نزل في قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وباشروا دفنه.

 

تولّى الخلافة بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر الصدّيق -رضي الله عنه-، وعليّ -رضي الله عنه- لم يفارق الصدّيق في وقت من الأوقات ولم ينقطع عنه في جماعة من الجماعات، وكان يشاركه في المشورة، وفي تدبير أمور المسلمين، وسانده في حروبه ضد المرتدين. عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: لما برز أبو بكر واستوى على راحلته، أخذ عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- بزمامها، وقال: إلى أين يا خليفة رسول الله؟! لمْ سيفك ولا تُفجعنا بنفسك، وارجع إلى المدينة، فوالله لئن فُجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبداً، فرجع.

 

وكان عليّ -رضي الله عنه- عضواً بارزاً في مجلس شورى الدولة العمرية، بل كان هو المستشار الأول، فقد كان عمر -رضي الله عنه- يعرف لعليّ فضله وفقهه وحكمته، وكان عمر يقول: أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن. وعندما احتاج عمر -رضي الله عنه- أن يضع تاريخاً رسمياً ثابتاً لتنظيم أمور الدولة وضبطها، جمع الناس وسألهم: من أي يوم نكتب التاريخ؟! فقال عليّ -رضي الله عنه-: من يوم هاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وترك أرض الشرك، ففعله عمر.

 

وفي خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- استمر عليّ -رضي الله عنه- في طريقته المعهودة مع الخلفاء، وهى السمع والطاعة والإدلاء بالمشورة والنصح، وقد عبّر بنفسه عن مدى طاعته للخليفة عثمان والتزام أمره ولو كان شاقاً بقوله: لو سيّرني عثمان إلى صرار لسمعت وأطعت. وعندما قتل عثمان -رضي الله عنه- قال عليّ لأبنائه وأبناء إخوانه: كيف قتل عثمان وأنتم على الباب؟! ولطم الحسن، وكان قد جَرح وضَرب صدر الحسين، وشتم ابن الزبير وابن طلحة، وخرج غضبان إلى منـزله ويقول: تباً لكم سائر الدهر، اللهم إني أبرأ إليك من دمه أن أكون قَتلت أو مالأت على قتله.

 

أيها المسلمون: تمت بيعة عليّ -رضي الله عنه- بالخلافة بطريقة الاختيار، وذلك بعد أن استُشهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- على أيدي الخارجين، فبعد أن قتلوه -رضي الله عنه- ظلماً وعدواناً، قام كل من بقي بالمدينة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمبايعة عليّ -رضي الله عنه- بالخلافة؛ وذلك لأنه لم يكن أحد أفضل منه على الإطلاق في ذلك الوقت، فلم يدع الإمامة لنفسه أحد بعد عثمان -رضي الله عنه-، ولم يكن أبو السبطين حريصاً عليها، ولذلك لم يقبلها إلا بعد إلحاح شديد ممن بقي من الصحابة بالمدينة، وخوفاً من ازدياد الفتن وانتشارها.

 

إن أحق الناس بالخلافة بعد أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم-، هو عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة، وهذا ما يجب على المسلم اعتقاده والديانة لله به في شأن ترتيب الخلافة الراشدة، قال الإمام أحمد: "من لم يربع بعليّ في الخلافة فهو أضل من حمار أهله". ونهى عن مناكحته.

 

بارك الله لي ولكم...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه...

 

أما بعد:

 

كان أمير المؤمنين عليّ -رضي الله عنه- من علماء الصحابة الكبار، وقال: "ما دخل نوم عيني، ولا غمض رأسي على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى علمت ذلك اليوم ما نزل به جبريل -عليه السلام- من حلال أو سنة أو كتاب أو أمر أو نهي، وفيمن نزل".

 

كان يقول عن نفسه: "والله ما نزلت آية إلاّ وقد علمت فيم نزلت، وأين نزلت، وعلى من نزلت؟! إن ربي وهب لي قلباً عقولاً، ولساناً صادقاً ناطقاً".

 

وقد قال في آخر عهده: "سلوني قبل أن تفقدوني". وكان ذلك عندما مات أكثر علماء الصحابة.

 

وكان أمير المؤمنين عليّ -رضي الله عنه- من بين القلة من المسلمين الذين كانوا يعرفون الكتابة في صدر الإسلام، وفوق هذا فقد كان من كتاب الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد ساعدته هذه المهارة في القراءة والكتابة على التبحر في العلوم الشرعية.

 

اشتهر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- بالزهد في الدنيا مع توفر جميع أسباب الثراء له. قيل لعليّ -رضي الله عنه-: لم ترقع قميصك؟! قال: "يخشع القلب ويقتدي به المؤمن".

 

لقد كان الزهد من الصفات البارزة في شخصية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وكان زهده مع توافر أسباب الرخاء والثراء، ولا شك أن زهده -رضي الله عنه- قد أثّر فيمن حوله، وأصبح مدرسة مؤثرة في تاريخ الأمة، وقد ربط أبو الحسن الندوي -رحمه الله- بين الزهد والتجديد في المجتمع الإسلامي فقال: "ولقد رأينا الزهد والتجديد مترافقين في تاريخ الإسلام، فلا نعرف أحداً ممن قلب التيار، وغيّر مجرى التاريخ، ونفخ روحاً جديدة في المجتمع الإسلامي، أو فتح عهداً جديداً في تاريخ الإسلام، وخلّف تراثاً خالداً في العلم والفكر والدين، وظل قروناً يؤثر في الأفكار والآراء ويسيطر على العلم والأدب، إلا وله نزعة في الزهد، وتغلُّب على الشهوات، وسيطرة على المادة ورجالها، ولعل السر في ذلك أن الزهد يكسب الإنسان قوة المقاومة، والاعتداد بالشخصية والعقيدة، والاستهانة برجال المادة، وصرعى الشهوات، وأسرى المعدة". انتهى.

 

أيها المسلمون: قام أمير المؤمنين عليّ -رضي الله عنه- بإقامة العدل بين الناس، وقصته مع اليهودي مشهورة: فعن شريح قال: لما توجه عليّ -رضي الله عنه- إلى حرب معاوية -رضي الله عنه-، افتقد درعاً له، فلما انقضت الحرب ورجع إلى الكوفة، أصاب الدرع في يد يهودي يبيعها في السوق، فقال له: يا يهودي: هذا الدرع درعي، لم أبِع ولم أهَب، فقال اليهودي: درعي وفي يدي، فقال عليّ: نصير إلى القاضي، فتقدما إلى شريح، فجلس عليّ إلى جنب شريح، وجلس اليهودي بين يديه. فقال شريح: قل يا أمير المؤمنين، فقال: نعم، أقول: إن هذه الدرع التي في يد اليهودي درعي، لم أبِع ولم أهَب، فقال شريح: يا أمير المؤمنين: البيّنة، قال: نعم، قنبر والحسن والحسين يشهدون أن الدرع درعي، قال: شهادة الابن لا تجوز للأب، فقال: رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته؟! سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة". فقال اليهودي: أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه، وقاضيه قضى عليه؟! أشهد أن هذا الحق، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن الدرع درعك، كنتَ راكباً على جملك الأورق وأنت متوجه إلى صفين فوقعت منك ليلاً، فأخذتها قال: أما إذا قلتها فهي لك، وحمله على فرس، فرأيته وقد خرج فقاتل مع علي بالنهروان.

 

ومن مواقف عدله -رضي الله عنه-: حرصه على تقسيم المال فور وروده إليه على الناس بالتساوي بعد أن يحتجز منه ما ينبغي أن يُأخذ للمرافق العامة، ولم يكن يستبيح لنفسه أن يأخذ من هذا المال إلا مثلما يعطي غيره من الناس، كما أنه كان يعطي معارضيه من الخوارج من العطاء مثلما يعطي غيرهم، وهذا قبل سفكهم للدماء، واعتدائهم على الناس.

 

دفع مرة طعاماً ودراهم بالتساوي إلى امرأتين إحداهما عربية، والثانية أعجمية، فاحتجت الأولى قائلة: إني والله امرأة من العرب، وهذه من العجم، فأجابها عليّ: إني والله لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلاً على بني إسحاق.

 

وكذلك لما طُلب إليه تفضيل أشراف العرب وقريش على الموالي والعجم، قال: لا والله، لو كان المال لي لساويت بينهم، فكيف وإنما هي أموالهم؟!

 

وحرص أمير المؤمنين عليّ -رضي الله عنه- على تفقد أحوال المتعاملين في السوق وحملهم على التعامل بالشرع الحنيف، وقد ثبت أن علياً -رضي الله عنه- كان شديد العناية بالاحتساب في مجال السوق، فعن الحر بن جرموز المرادي عن أبيه قال: رأيت عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- يخرج من القصر وعليه قطريتان، إزاره إلى نصف الساق، ورداؤه مشمر قريباً منه، ومعه الدرة يمشى في الأسواق ويأمرهم بتقوى الله وحسن البيع ويقول: "أوفوا الكيل والميزان". وكان عليّ -رضي الله عنه- يدخل السوق وبيده الدرة، وعليه عباءة ويقول: "يا أيها التجار: خذوا الحق، وأعطوا الحق تَسلموا، لا تردوا قليل الربح فتحرموا كثيره". وقال -رضي الله عنه-: "من اتّجر قبل أن يتفقه في الدين فقد ارتطم في الربا، ثم ارتطم، ثم ارتطم".

 

أيها المسلمون: إن شؤون الحكم كانت محل اهتمام الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم-، لا يطغى جانب على جانب، فقد كانوا يقعّدون للتجارة القواعد التي تصلح للأسواق، وتنظم التداول، وتضمن الثبات والاستقرار، فلا غبن ولا غش ولا احتكار، ولا أسواق سوداء ولا زرقاء، ولا جهل بما يجوز وما لا يجوز في عالم التجارة.

 

أثيرت قضية المحل التجاري في السوق، وقضى عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- في سوق الكوفة، أن من سبق إلى موضع فهو أحق به ما دام فيه ذلك اليوم، فإذا انتقل عنه فهو لمن حلَّ فيه، قال الأصبغ بن نباتة: خرجت مع عليّ بن أبي طالب إلى السوق، فرأى أهل السوق قد حازوا أمكنتهم، فقال عليّ: ما هذا؟! فقالوا: أهل السوق قد حازوا أمكنتهم، فقال: ليس ذلك لهم، سوق المسلمين كُمصلَّى المسلمين، من سبق إلى شيء فهو له يومه حتى يدعه، وظلّت هذه القاعدة متَّبعة حتى ولاية المغيرة بن شعبة، فلمّا كانت ولاية زياد بن أبيه عليها عام 49هـ جعل من قعد في مكان فهو أحق به مادام فيه.

 

وللحديث بقية...

 

اللهم...

 

علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- (2)

 

 

المرفقات

بن أبي طالب -رضي الله عنه- (1)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات